السوافي، منطقةٌ اكتشفتها مؤخرًا بالقرب من مكان نزوحي في رفح، تلة عالية يتجمع حولها الأطفال للعب بطائراتهم الورقية. شدني الفضول للذهاب إليهم والتحدث معهم، لأتعرف على همومهم بلسانهم، فهم أبطال مقالي الجديد.
وصلت إليهم، وكانوا مشغولين بطائراتهم، ولم أكن أرغب بإزعاجهم بسؤالي الحزين الذي سيقلب عليهم المواجع، فمشيت من المكان، وأنا أسأل نفسي بصوتٍ عالٍ "يعني شو أطفال، وليش أسألهم أصلا؟ حالهم واضح، أنا بدي أكتب من حالي، وخلص بدون ما أسأل حدا منهم"، ليجيبني طفلٌ كان خلفي "فش أسوأ من هيك حال، حال الأطفال زي الزفت!". تعجبت لرده وضحكت، وسألته: ما أكثر شيء أوجعك بهذه الحرب؟"، رد بعينين مثقلتين بالحزن بكلمةٍ واحدةٍ اختصرت كلّ شيء "الفقد"، فقلت له "ومن فقدت؟"، أخبرني بهدوءٍ "أمي.. فقدت أمي في هذه الحرب الملعونة، لنعيش بعدها بحسرةٍ وحزنٍ مضاعفتين". تمالكت نفسي أمامه، وأنا أجزم أني كنت أضعف منه حينها، وسألته عن تفاصيل الحادثة، فقال "يومها، شن الاحتلال الإسرائيلي غارةً مجنونةً، وقصف مربعنا السكني بأكمله، أما أمي لم أراها، فقد أصبت بشظيةٍ قريبًا من الجمجمة، ورقدت في العناية المكثفة ثلاثة أيّامٍ، لأصحو بعدها مناديًا أمي لترى حالي، لكنهم أخبروني أنها قتلت، هكذا ببساطةٍ". أحمد أبو عاصي 11 سنة
إذا مشيت في شوارع رفح، سيوقفك الكثير من الأطفال طالبين المساعدة المالية لجلب الطعام. لا أنكر أننا كنا نراهم قبل العدوان، لكن ليس بهذا الكم الهائل، فالآن في كلّ مترٍ ستقابل واحدًا منهم!
قلوبهم صغيرةٌ ودافئةٌ بيضاء كقلوب جميع الأطفال، لكن الفارق هنا البقعة الجغرافية، فهم في غزّة التي كبروا فيها قبل الأوان، وذاقوا فيها أصناف الوجع والعذاب!
سألت نفسي كثيرًا: ما مصير هؤلاء الأطفال؟ وآخر النهار أين يذهبون؟ وكيف يفكرون؟ وما حال أسرهم؟ حتّى التقيت ناهدة، طفلةٌ تبدو كأنّها شخصيةٌ في مسلسلٍ كوميديٍ، تضحك باستمرارٍ رغم كلّ ما يحدث، وتتحايل على المارة بضحكتها وكلامها الساخر حتّى يعطوها المال، جلست معها جلسةً مطولةً لأسمع قصتها، وقبل أن أسألها، قالت "نور بعرف أنك راح تسأليني ليش بتعملي هيك؟ وهاد غلط، والشحدة مش صح، بس إذا عندك طريقة ثانية احكيلي.. أبويا راجل كبير ومريض غضروف، وأمي بتغسل كلى شو نعمل؟ وما حدا بيقلنا وين أنتم، يعني مضلش غير أشحد، وبالفعل شحدت، وهي أموري منيحة وبعطي أهلي حق الدوا والأكل". كانت الساعة الثامنة مساءً، والجو باردٌ، والخيم تملأ الطرقات، وناهدة وحيدة بقدمين حافيتين، والشواكل التي جمعتها في جيبتها، فأرجعتها إلى خيمتها لأخبر والدها أن الوقت متأخرٌ، وهذا خطرٌ على طفلةٍ مثلها، فأجابني بوجهٍ بائسٍ "عندك حل تاني؟"، حاولت إقناعه، لكن دون جدوى، حزنت عليه وعلى الصغيرة ناهدة حافية القدمين، التي تغيب من أول النهار لآخره كي تتسول! لم يكن عندي ردٌ يقنع والدها بإبقائها في الخيمة تلعب، تركتها ومضيت وأنا أبكي من القهر وقلة الحيلة.. فما ذنب ناهدة صاحبة العشر سنوات؟
إذا نظرت لهذه الحرب، فستجد أن أكثر المتضررين فيها هم الأطفال، منذ أربعة شهور لم يرتادوا المدارس، ولم يتعلموا شيئًا جديدًا، سلوكهم تغير للأسوأ، وفيه شيءٌ من العنف، لسانهم عجوز لم يعرف الطفولة يومًا، ويستخدمون مصطلحاتٍ لم نسمعها منهم من قبل (حزام ناري، قبة حديدية، هدنة، أبو عبيدة، مجزرة، أشلاء).
عدي ابن أخي ابن الأربع سنوات، مثالٌ قريبٌ عن أطفال الحرب. اعتدنا في كلّ سنةٍ أن نحتفل بعيد ميلاده بكعكةٍ مزينةٍ برقم عامه الجديد، صنعنا الكعكة في أكتوبر/تشرين الأول، ووضعنا عليها شمعةً ليطفئها، وقبل أن ينفخ عليها بثوان معدودةٍ، رن هاتفنا ليخبرنا جارنا أن منزلنا دمرّ بالكامل، ترك عدي شمعته وبكى حزنًا على غرفته الجديدة، فهذه ليست المرّة الأولى التي يقصف فيها منزلنا، فقد استهدف ودمرّ في مايو/أيّار 2023، فأعدنا بناءه، وجعلنا فيه غرفةً جميلةً لعدي مليئةً بالألعاب، لم يسكنه سوى أيّامٍ قبل أن يقصف المنزل مجددًا، ويتحوّل إلى حطامٍ. بكى عدي وكأن هموم الدنيا على كتفه، وصاح بأعلى صوته، "ألعابي وين؟ صاحبتي شام منيحة؟ شو صار بغرفتي، وبدب الباندا الجديد؟".
سجلناه في روضةٍ قبل الحرب بشهرٍ، كان متميزًا، سلوكه تغير للأفضل، فقد كان يقضي وقته بتعلم الخطوط، وتحضير الواجبات، قصفوا روضته أيضًا، وقتلوا عددًا من زملائه، ليخبرني بعدها "طيب ليش قصفوا روضتي؟ شو عملتلهم الروضة، ما أخذت غير خط المستقيم والعمودي، كان دور الخط المائل قبل ما أتعلمه قصفوا الروضة"!
كيف نجاوبه على كلّ هذه الأسئلة؟ وكيف نشرح له قضيتنا من بدايتها، وما ذنبه هو؟ يوم نزوحنا إلى الجنوب، مررنا على حاجز الجيش المشؤوم، وكان عدي معنا، رأى الجنود بعينه والأسلحة والدبابات والتفاصيل المرعبة. لم أصرف نظري عنه لحظةً، وأنا أحاول التكهن في ما يفكر به وهو يشاهد كلّ هذا؟ ما هذا الهدوء الذي نزل على قلبه فجأةً، وهو شقيٌ بطبعه؟ يتأمل الجنود بذهولٍ، من دون أن ينطق بكلمةٍ واحدةٍ! لكن ما إن تجاوزنا الحاجز بسلامٍ، حتّى قال لي "نور بدي أسألك.. مين أقوى الله ولا اليهود؟". أجبته "أكيد الله". ثم تابع "يعني أكيد الله أقوى من باتمان، وسبايدر مان وأقوى من كل الأبطال الخارقين؟"، أجبته بهدوءٍ "صحيح الله أقوى منهم كلهم". ليرد قائلاً: "أمممم، طيب يعني الله بطل خارق، ليش ما يقتل كل هدول اليهود ويدمرهم وخلص؟ ليش عم يعملوا فينا هيك، خلص بدنا نرجع على دارنا ونعيش مرتاحين"!
عدي مثالٌ واحدٌ عن نصف مليون طفلٍ في هذه المدينة، جزءٌ منهم فقدوا أطرافهم، وسألوا الطبيب بعدها "هل ستنمو قدمي مجددًا؟"، ومن منا يجرؤ على إخبارهم أن أطرافهم لن تنمو بعد الآن. آخرون أصبحوا "مقطوعين من شجرةٍ"، بعد أن أباد الاحتلال جميع أفراد عائلتهم، وبقوا وحدهم في عالمٍ مجرمٍ، وجزءٌ آخر بلا مأوى، ينامون على الطرقات، وفي الخيم الباردة.. أما عن النومة في الخيمة في هذا الوقت من السنة، فالطبيعي أن يستيقظوا مراتٍ عديدة في الليل ليجدوا أنفسهم غارقين في مياه المطر، وفي الوحل، حقيقةً لا مجازًا، وكثيرون ضائعون بين مفقودٍ وجريحٍ ومتسولٍ..
أبويا راجل كبير ومريض غضروف، وأمي بتغسل كلى شو نعمل؟ وما حدا بيقلنا وين أنتم، يعني مضلش غير أشحد، وبالفعل شحدت
الأطفال الجرحى؛ تعثرت ابنة أخي جوليا على السلم قبل يومين، وجرحت قدمها، لم تكف عن البكاء والصراخ لـ 12 ساعةً متواصلةً، لم يغب عن بالي الأطفال المصابون، كيف يمر عليهم الليل بعد أن فقدوا أطرافهم؟ كيف تسكن آلامهم من دون مخدرٍ في المدينة؟ كيف ترجع ضحكتهم بعد كلّ ما حدث لهم؟ نصفهم انتشلوهم من تحت الأنقاض بصعوبةٍ، كيف ينسون هذا الموقف؟ قلوبهم صغيرةٌ ودافئةٌ بيضاء كقلوب جميع الأطفال، لكن الفارق هنا البقعة الجغرافية، فهم في غزّة التي كبروا فيها قبل الأوان، وذاقوا فيها أصناف الوجع والعذاب!
الأسبوع الماضي زرت خيمة الطفل محمد اليازجي، ابن الـ 14 عامًا، الذي أصبح مسؤولًا عن عائلته كاملةً، المكونة من 7 أفرادٍ، بعد أن قتلت إسرائيل والدته، والدهم مفقودٌ حتّى اللحظة، لا يعرفون مصيره. يتولى محمد المهام بنفسه، يذهب السوق لإحضار الطعام، ويشتري الملابس لأخته الرضيعة، التي لم يتجاوز عمرها عامًا واحدًا. أصبح محمد الأب والأم لإخوته وأخواته، زرت خيمتهم وكانت أوضاعهم مبكية، فجميعهم مرضى، يعانون الإسهال والمغص الشديد، فلا أمٌ تداوي وتخفف الألم.
أما عن الاضطرابات والأمراض التي أصابت الأطفال في هذه الحرب، فمعظم الأطفال يعانون من التبول اللاإرادي، جراء الرعب المتواصل. انتشر القمل بينهم أيضًا، بسبب قلة النظافة والمياه، والاكتظاظ في مراكز الإيواء. كما تفشى الكبد الوبائي، الذي كان نادر الحدوث، غالبية الأطفال اليوم تعاني منه!
مرضٌ وخوفٌ ومرارٌ من دون حلوى، أطفال غزّة لم يأكلوا السكاكر منذ 130 يومًا، التي كانت تجلب لهم السعادة، رغم توفرها حديثًا، لأن شراء قطعةٍ من الشوكولاتة يكلفك ما يتجاوز الـ 8 دولارات! من يستطيع أن يشتري حبة شوكولاتة بهذا السعر المبالغ فيه؟! ومن يملك المال لها أصلًا؟ يرونها في الأسواق وتبقى في أنفسهم ولا يشترونها!
حقهم في اللعب أصبح أمنيةً، فلا أماكن متاحةٌ للترفيه، ولا ألعاب في الأسواق، حرموا من التسلية كما حرموا من التعليم، إذ تعمدت إسرائيل تدمير المدارس، حتّى لا يخرج منّا جيلٌ متعلمٌ ومثقفٌ، ولكني أرى الأمور من منظور آخر، فهذا الجيل تحديدًا سيكون جيل الحرية، سيتعلم مجددًا ويكون أقوى مما سبق، صحيح أنّهم شوهوا المدينة بكل معالمها الثقافية، لكنهم لم ولن يجعلوها تنسى أن ملامحها الحقيقية تحملها رياح الحرية مع الفجر القادم، وأن العدالة آتية مهما طافت في البلاد البعيدة وفي ظلام النفوس الحاقدة.
لم أنسَ ليان صاحبة التسع سنوات، وهي تحدثني عن أبيها الذي قتلته إسرائيل في هذه الحرب "شفتي يا نور كيف بابا؟ كانوا ناس حاملينه وكله دم، صرت أصرخ وأمسح الدم عن وجهه وأقله يا بابا اصحى بكفي تمزح معي، ما رد علي ولا صحي وأخذوه على مكان بعيد كثير ولليوم ما رجع، بس حاسة أنه هيرجع ثاني ويلعب معي، وهو عمل هيك وراح كان يلعب معي الغميضة"! كيف أخبرها أنها ليست الغميضة وأنها لعبةٌ قبيحةٌ ستلعبها للأبد من دون إيجاد والدها؟!
مشكلةٌ أخرى فاقمت معاناة الأطفال في الحرب، فبعد أن كانت الأمهات يعتنين بتربية صغارهن، خرجت الأمور عن السيطرة في مراكز الإيواء، بسبب الاكتظاظ الهائل، واختلاط العائلات في خيمةٍ واحدةٍ، فاكتسبوا عاداتٍ غريبةً وغير محببةٍ، دمرت تعب سنواتٍ في ساعات!
ماذا سأقول بعد؟ المصيبة أكبر وأعقد من أن توصف، وألم الأطفال لا تسعه الكلمات! فهذه الطفلة مثلًا، لمى بعمر الـ 10 سنوات، سمعتها صدفةً، وهي تمشي أمامي مع أسرتها، تبكي وترجو والدها "رجعني على داري، أنا بديش رفح، بديش الخيمة البشعة اللي أنا فيها، والله تعبت منها شكلها مش حلو، مش حابة أرجع وأعيش فيها ولا يوم زيادة، خلص بكفي يعني لشو احنا فيها عشان ننجو من الموت! رجعني أموت في دارنا أحسن، لو رجعتني على الخيمة، وأنتم نايمين راح أمزعها، خلص مش قادرة أتقبلها، الخيمة عتمة وباردة ومش حلوة، بدي أرجع على دارنا الحلوة، وأموت هناك وبديش الخيمة".
عدي مثالٌ واحدٌ عن نصف مليون طفلٍ في هذه المدينة، جزءٌ منهم فقدوا أطرافهم، وسألوا الطبيب بعدها "هل ستنمو قدمي مجددًا؟"، ومن منا يجرؤ على إخبارهم أن أطرافهم لن تنمو بعد الآن
عمرو صديقي صاحب العينين الزرقاوين، تعرفت عليه خلال فترة نزوحنا في الشمال، كانت أحلامه واسعةٌ، مليئةٌ بطاقة الحب واللعب، كان يحلُم بأنّ يصبح مهندسًا ويرتدي القبعة الصفراء كما معظم المهندسين، كان يحاول تقليدهم بكل الطرق، ولا يرضى أن يناديه أحدّهم باسمه عمرو فقط، بل يجب على المُنادي أن يسبق اسمه بكلمة مهندس، في فترة الغارات الجوية الهمجية على الشمال اختطف الموت الصغير عمرو، صاحب السبع سنوات، قبل أن يرتدي قبعة المهندسين كما يحلُم.. قتل الاحتلال الإسرائيلي عمرو قبل أن يحقق أحلامه الكبيرة.
عمرو واحدٌ من أكثر من 10 آلاف طفلٍ فلسطينيٍ قتله الاحتلال خلال عدوانه الحالي على قطاع غزّة، لكل طفلٍ منهم حلمه المستقبلي، منهم من يحلم بأن يصبح طبيبًا أو مهندسًا أو عالمًا أو صحافيًا أو شرطيًا أو عاملًا أو رياضيًا أو فنانًا... ألخ، لذا لم يقتل الاحتلال هؤلاء الأطفال فقط، بل قتل أحلامهم وأحلام أسرهم أيضًا، كما قتل إنجازاتهم المحتملة، وفرحة أسرهم وأصدقائهم ومجتمعهم بهم.
سأنهي بشيءٍ واحدٍ، وهو أن الأطفال يشعرون بما نشعر نحن به، ويحملون الجبال كما نحملها. أذكر حين نزحنا، مكثنا عشرة أفرادٍ في غرفة معتمةٍ خانقةٍ لا تدخلها الشمس أبدًا، لم يفصح أحدٌ منّا عن استيائه، فحياة الغرفة أقلّ قسوةً من حياة الخيمة الباردة! ولكن، فجأة، وبعد أيّامٍ، تعب عُدي، ابن أخي، من حمل تلك الجبال، فصرخ صراخًا غير معتادٍ، وكسر كلّ ما وجد أمامه، نادى غاضبًا مقهورًا "أنا مخنوق من هاي الغرفة بحبهاش، بكرهها بديش أضل فيها، بدي خيمة وألعب بالرمل أحسن مش متحمل أضل بالغرفة"!