بعد قرابة ثلاثة أشهر من إعلان الحكومة الأميركية إعادة النظر في سياساتها في أفغانستان، تحديداً حول سحب قواتها منها في 1 مايو/ أيار المقبل، وفق اتفاقية الدوحة، جاء الرئيس الأميركي جو بايدن ليعلن في كلمة له، مساء الأربعاء الماضي، انسحاب جميع القوات الأميركية من أفغانستان قبل حلول الذكرى السنوية لأحداث 11 سبتمبر/ أيلول، ممهداً بذلك لإنهاء أطول حرب خاضتها الولايات المتحدة الأميركية، وخسرت خلالها 2400 جندي. وتخرج الولايات المتحدة من أفغانستان تاركة وراءها إرثاً ثقيلاً في بلد غارق في الأزمات، تتقاطع فيه مصالح الأطراف الداخلية ودول الجوار، ولا توجد فيه جهة تقوم بلمّ الشمل وتوحيد الصف، خصوصاً أن الموقع الجغرافي، والحرب التي استمرت لأربعة عقود، سمحت لدول الجوار والقوى الدولية أن تتدخل بشتى الأنواع، وأن تشكل لنفسها عُمقاً يهدد مستقبل أفغانستان.
أكد بلينكن، في كابول، الالتزام الأميركي الدائم حيال أفغانستان
ولم يكن قرار الانسحاب الكامل لبايدن، بل كان سلفه دونالد ترامب قد اتخذ هذا القرار، لكن إعلان بايدن إعادة النظر بتوافق الدوحة والانسحاب بشكل مسؤول قد أعطى بعض الأمل في بقاء القوات الأميركية للحكومة الأفغانية وقواتها الهشة التي تواجه معركة مع أكثر من جهة، أبرزها حركة "طالبان" وأمراء الحرب، قبل أن يعلن بايدن في خطاب، مساء الأربعاء، أن "الوقت قد حان لإنهاء أطول حرب خاضتها الولايات المتحدة" بسحب جميع قوات بلاده من أفغانستان بحلول الذكرى العشرين لهجمات 11 سبتمبر 2001. وأضاف "ستبدأ الولايات المتحدة انسحابها النهائي في الأول من مايو/ أيار"، لكنها "لن تغادر بشكل متسرع".
وبعد ساعات من قرار بايدن، قام وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بزيارة كابول، أمس الخميس، حيث التقى الرئيس الأفغاني أشرف غني، ورئيس المجلس الأعلى الوطني للمصالحة عبد الله عبد الله، وشخصيات مدنية. وسعى بلينكن لطمأنة القيادة الأفغانية بأن الانسحاب لا يعني "نهاية العلاقة الأميركية - الأفغانية". وقال لغني، أثناء لقائهما في القصر الرئاسي بكابول: "أردت أن أبيّن بزيارتي التزام الولايات المتحدة المستمر تجاه أفغانستان وشعبها. الشراكة تتغير، لكن الشراكة نفسها باقية". من جهته، قال غني لبلينكن "نحترم القرار، ونعدل أولوياتنا"، مشدداً على ضرورة التعاون بين الدولتين من أجل محاربة الإرهاب، ولافتاً إلى أن هناك ضرورة لفتح صفحة جديدة في العلاقات بين الدولتين على أساس الاحترام المتبادل. وكرر بلينكن خلال لقاء مع عبد الله رسالته، قائلاً "لدينا فصل جديد، لكنه فصل جديد نكتبه معاً". وقال عبد الله، من جهته: "ممتنون لشعبك، وبلدك، وإدارتك".
كما دافع مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان عن عملية الانسحاب. واعتبر، في واشنطن، أن انسحاب القوات الأميركية المقاتلة من أفغانستان سيؤدي إلى انخفاض في مستوى المعلومات الاستخبارية اليومية، لكنه لن يشكل تهديداً للولايات المتحدة. وأضاف "ما أقوله هو أن قدرتنا على حماية الأرض الأميركية في رأيي لن تتضاءل. إن قدرتنا على جمع المعلومات الاستخبارية على أساس يومي، ضد قدوم وذهاب الجهات الفاعلة داخل أفغانستان سوف تتضاءل. هذا فرق كبير".
وتفاوتت آراء الأفغان عند إعلان الأميركيين في وقت سابق الانسحاب بشكل مسؤول. فتوقعت الحكومة الأفغانية أن واشنطن لن تتركها وحدها في وجه زحف "طالبان"، بينما يعتقد مراقبون للأوضاع أن الانسحاب المسؤول يعني أن الولايات المتحدة ستغادر أفغانستان بعد أن تصل جهود السلام إلى بر الأمان، وبعد أن تصل الأطراف الأفغانية إلى حل ما حول إنهاء الأزمة. كما كانت بعض التفسيرات تعتبر أن الولايات المتحدة قبل سحب قواتها ستصل إلى نقطة تفاهم مع الدول المتدخلة في القضية الأفغانية، تحديداً الجيران، كباكستان وروسيا. ولكن يبدو أن ما كان يهم أميركا هو مراجعة حساباتها الداخلية، وهذا ما بدا جلياً في كلمة بايدن، الذي أوضح فيه أن القوات الأميركية ذهبت إلى أفغانستان لهدفين: للقضاء على زعيم "القاعدة" أسامة بن لادن ومواجهة الإرهاب وتهديد التنظيم، وهي قد وصلت إلى مبتغاها بهذا الخصوص، فزعيم "القاعدة" قضي عليه في عام 2011 والتنظيم لم يعد يشكل خطراً على المصالح الأميركية، بل لم يعد موجوداً في أفغانستان.
لم تتوعد "طالبان" باستئناف العمليات ضد القوات الأميركية كما فعلت سابقاً
وبعيداً عن الرؤية الأميركية ومآلاتها، تنوعت آراء الأفغان حيال قرار واشنطن، وتحديداً حول كلمة بايدن. وتعاملت حركة "طالبان" بهدوء ومرونة مع القضية، فلم تتوعد باستئناف العمليات ضد القوات الأميركية كما فعلت سابقاً، وأكدت أنه في حال بقاء القوات الأميركية في أفغانستان بعد شهر مايو، الموعد الذي اتفق عليه الطرفان للانسحاب في توافق الدوحة، سوف تلجأ الحركة إلى استئناف عملياتها. لكنها هذه المرة اكتفت بتأكيد أن مطلب "طالبان" الانسحاب الكامل للقوات الأميركية والدولية وفق توافق الدوحة، وأن الجانب الأميركي إذا التزم بالتوافق حينها لا بد من إيجاد حل للقضايا المتبقية، مؤكدة أن عدم الالتزام بتوافق الدوحة ستكون له آثار سلبية، وستكون المسؤولية على عاتق من ينقض العهد.
وتشير إيحاءات "طالبان" إلى أنها راضية إلى حد ما عن قرار بايدن، مع نقض توافق الدوحة، والتأخير في الانسحاب وأنها لم تعد تنوي استهداف القوات الدولية، ولا سيما أن الجانب الأميركي قد وعد بالرد القاسي في حالة حدوث ذلك. ورحب الكثير من مناصري الحركة وقيادات ميدانية فيها بقرار بايدن، معتبرين ذلك انتصاراً كبيراً لهم. وفي هذا الخصوص، قال القائد الميداني في الحركة شابور خان، لـ"العربي الجديد"، إنه رغم انتهاكها لتوافق الدوحة إلا أن انسحاب القوات الأميركية والدولية من أفغانستان انتصار لـ"طالبان"، معتبراً ذلك هزيمة لما يصفه بالإمبراطورية الأميركية.
ليس مناصري الحركة وحدهم، بل حتى بعض عامة الأفغان والمعارضون للحركة في السابق أيضاً اعتبروا الحدث مهماً في تاريخ في أفغانستان. على سبيل المثال الشاعر الأفغاني الشهير، وزير الثقافة في حكومة الرئيس أشرف غني السابقة عبد الباري جهاني، نشر أبيات شعر على صفحته في "فيسبوك" أكد فيها نصر الأفغان، متوقعاً عودة من وصفهم بنسور البلاد، ما أثار ضجة في أوساط رواد وسائل التواصل الاجتماعي. وبينما وصف أنصار "طالبان" الشاعر والوجه الثقافي المعروف بأنه أخيراً عاد إلى الصواب، اتهمه المعارضون للحركة بأنه لم يضبط مشاعره، ناسياً وراءه ما قد يحل بالبلاد في المستقبل.
أما الحكومة الأفغانية، فقد أكدت على لسان أكثر من مسؤول فيها، بدءاً بالرئيس أشرف غني، مروراً بمستشار الأمن القومي حمد الله محب، وانتهاء برئيس المجلس الأعلى الوطني للمصالحة عبد الله عبد الله، أنها تحترم القرار الأميركي. لكن هؤلاء وغيرهم من المستشارين للرئيس الأفغاني شددوا على نقطة أخرى أيضاً، وهي قدرة القوات الأفغانية على ملء الفراغ الأمني، وأنها أثبتت قدرتها على مواجهة "طالبان" ودافعت عن سيادة الدولة وأمنها، وهي مستعدة لأن تفعل ذلك في المستقبل.
إسماعيل وزيري: الشعب الأفغاني تغير ولن يقبل "طالبان" كما في السابق
تشديد هؤلاء على قدرة القوات الأمنية على الدفاع عن أفغانستان، وأنها لن تترك لـ"طالبان" فرصة الاستيلاء على البلاد مرة أخرى، يشير إلى مدى أهمية هذه القضية. وهو سؤال مطروح من جميع الأفغان، لأن هشاشة قدرات القوات الأفغانية، مع كثرة التهديدات الأمنية، وتقاطع المصالح بين الأطراف الداخلية لا يخفى على أحد. بهذا الخصوص، قال غني، في سلسلة تغريدات له على حسابه في "تويتر"، بعد اتصال هاتفي له مع نظيره الأميركي، أمس الأول الأربعاء، إن القوات الأفغانية قادرة على الدفاع عن أراضي بلاده وسيادة الدولة، وهي فعلت ذلك في الماضي وستفعل ذلك في المستقبل أيضاً. فيما قال مستشار الرئيس وحيد عمر إن القوات الأفغانية كانت تقوم منذ عامين بنحو 98 في المائة من العمليات بمفردها ضد "طالبان" والجماعات المسلحة، ملمحاً بذلك إلى أن خروج القوات الأميركية والدولية لن يشكل فارقاً كبيراً.
والحقيقة أن نسبة العمليات التي تشارك فيها القوات الأميركية والدولية لم تعد كبيرة، لكن ما يشكل الفارق هو التجهيز والتدريب وسلاح الجو. فخروج القوات الأميركية والدولية من البلاد يعني توقف تدريبها للقوات الأفغانية، مع حرمان الأخيرة من دعم الطيران الأميركي الذي كان يقصم ظهر "طالبان" في المعارك، وذلك على الرغم من وعد واشنطن والدول الحليفة للحكومة باستمرار الدعم اللوجستي والمالي للقوات الأفغانية. وأعلن رئيس الوزراء الأسترالي سكوت موريسون، أمس الخميس، أن بلاده ستكمل انسحاب قواتها من أفغانستان في سبتمبر، بما يتماشى مع الولايات المتحدة وحلفاء آخرين. وتجاوزت مساهمة أستراليا في المهمة التي يقودها حلف شمال الأطلسي 15000 عنصر، لكن لم يبق منهم سوى 80 فرداً. وقال موريسون "تماشياً مع الولايات المتحدة وحلفاء وشركاء آخرين، ستغادر آخر القوات الأسترالية المتبقية أفغانستان في سبتمبر"، بدون أن يحدد يوماً. وأضاف أن "القرار يمثل علامة بارزة في تاريخ الجيش الأسترالي".
ويُطرح سؤال عن قدرة "طالبان" على الاستيلاء مرة أخرى على الحكم في حال مواصلة الولايات المتحدة دعمها المالي واللوجستي للقوات الأفغانية؟ وماذا سيكون مصير المفاوضات الجارية بين الحكومة و"طالبان"؟ ويرى الكثير من المراقبين أنه على الرغم من هشاشة قدرات القوات الأفغانية فمن المستبعد جداً أن تستولي "طالبان" على سدة الحكم بالقوة، وذلك لأسباب عديدة، أوضحها المحلل الأمني إسماعيل وزيري لـ"العربي الجديد"، قائلاً إن أفغانستان تغيرت كثيراً خلال عقدين ماضيين، فهي لم تعد أفغانستان عام 2001 وهناك الكثير من المتغيرات، وعلى "طالبان" أن تذعن لها. وأضاف أن الشعب الأفغاني تغير ولن يقبل "طالبان" كما في السابق، وكذا دول الجوار وحتى المتعاطفين مع الحركة، كباكستان وإيران وروسيا، لن يقبلوا بوصولها إلى سدة الحكم بالقوة. ولفت إلى أن "طالبان" تغيرت أيضاً، فهي الآن حليفة لدول في المنطقة، كروسيا وإيران، ولن تقبل هذه النسخة من الحركة أن تكون في الحكم في أفغانستان بمفردها. كما أن للحرب الأهلية، بحال وقوعها بعد خروج القوات الأجنبية تأثيرات كبيرة على دول الجوار، وبالتالي لن تقبل تلك الدول أن يحدث ذلك.
أما عن مستقبل عملية السلام الأفغانية في ظل القرار الأميركي الأخير، فتتجه الأنظار نحو تركيا، حيث يتوقع انعقاد مؤتمر بشأن عملية السلام الأفغانية في 24 من الشهر الحالي. لكن ذلك المؤتمر يواجه عقبات قد تقضي على ما يتطلع الشعب الأفغاني إليه، مع إعلان "طالبان" عدم المشاركة في أي مؤتمر بشأن السلام الأفغاني إلى حين خروج القوات الأميركية بكاملها من البلاد. ويُطرح سؤال عن قدرة الدول المعنية بمؤتمر إسطنبول، كتركيا والولايات المتحدة، على إقناع "طالبان" بالمشاركة في المؤتمر؟ وإذا حصل ذلك قد يكون المؤتمر مثمراً إلى حد ما، وسيشكل دفعة قوية لعملية السلام الأفغانية. أما إذا لم تشارك "طالبان" فيه، فحينها ستطرح أسئلة كثيرة حول مدى نجاعته، بل حول هدف انعقاده، لأن الجزء الأهم سيكون غائباً.
كذلك يواجه مؤتمر إسطنبول مشكلة التصدعات في الحكومة الأفغانية بشأن المقترح الذي سيقدمه المجلس الأعلى الوطني في المؤتمر، والذي عمل عليه لمدة أسابيع، إذ دار جدل كبير بين المجلس وبين النائب الثاني للرئيس الأفغاني سرور دانش، الذي اعتبر المقترح رؤية جماعة واحدة، وليس رؤية شعب لحل المعضلة، ما يعني عدم وجود توافق في الحكومة الأفغانية حول أجندة المؤتمر، والحلول المقترحة فيه لحل المعضلة.