استمع إلى الملخص
- تعرضت بيربوك لانتقادات بسبب مواقفها التي اعتبرها البعض انقلاباً على مبادئ حزب الخضر المناهضة للتسلح والحروب، حيث اتُهمت بتجاهل القوانين الدولية لصالح دعم إسرائيل.
- سعت بيربوك لتعزيز دور ألمانيا في السياسة الدولية، متبنيةً سياسات تسلح وتعاون دفاعي أوروبي، مما أدى إلى توتر العلاقات مع دول مثل الصين، ودعم سياسات تعتبر انتقاد إسرائيل معاداة للسامية.
في زيارتها الأولى إلى دولة الاحتلال الإسرائيلي "لإظهار الدعم لها"، بعد أقل من أسبوع على بدء الحرب على غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وقفت وزيرة خارجية ألمانيا أنالينا بيربوك ورددت حرفياً ما كان يسوقه جيش الاحتلال وحكومة بنيامين نتنياهو. كان ذلك في يوم الجمعة 13 أكتوبر، وبعد جولة دعائية في مستوطنات غلاف غزة، قالت بيربوك في مؤتمر صحافي إلى جانب وزير خارجية تل أبيب السابق إيلي كوهين: "إن حماس تتحصن خلف الأبرياء وتستخدمهم دروعاً بشرية"، وجاءت تصريحاتها وقتها متزامنة مع وصول أعداد الشهداء الفلسطينيين إلى نحو ألفين في أسبوع واحد وتهجير أكثر من 420 ألف إنسان من شمال قطاع غزة.
وبعد ست زيارات متضامنة مع تل أبيب، جاء خطابها الأخير في "الذكرى السنوية الأولى للسابع من أكتوبر" أمام البرلمان الاتحادي في برلين (بوندستاغ)، الذي أثار الكثير من الجدل، ليتوج حالة العلنية في الوقوف مع إسرائيل وتغييب أي توازن أو حتى لياقة دبلوماسية، كما يقول منتقدوها، حيث لم يخرج خطابها الأخير عن سياق ما قالته قبل سنة من الآن. وقرأت بيربوك مرافعتها المطولة (نُشرت بالإنكليزية على موقع الخارجية في برلين) عن الاحتلال بصورة غير مسبوقة من سياسي أوروبي أمام برلمان بلده، لتنسف كل ما أقرته البشرية من قوانين ومواثيق بما فيها تلك التي تحكم الحروب، معتبرة بصورة ضمنية أن لا قيمة لمحكمة العدل الدولية في بحثها عن جرائم الإبادة في غزة بطلب من جنوب أفريقيا.
بالنسبة لبيربوك، فإن أرواح المدنيين الفلسطينيين وأماكنهم كالمدارس والبيوت والمشافي لا تجب حمايتهم "لأن الإرهابيين ينتهكونها". وبهذه البساطة، قامت بيربوك بلي وكسر عنق القانون الدولي (الذي تخرجت منه) وميثاق الأمم المتحدة متجاهلة الكثير من القضايا، لتبرز فقط ما يسمى بـ"حق إسرائيل في الدفاع عن النفس". ولعل أكثر ما يثير حنق مواطنين ألمان رافضين سياسات بلدهم تجاه الحقوق الفلسطينية أن تعتبر بيربوك باسمهم أن "أمن إسرائيل جزء من مصلحة برلين، بصرف النظر عمن يتولى السلطة في ألمانيا، فهي ليست مسألة حزبية"، ويرون، كما تحدث بعضهم لـ"العربي الجديد"، أن "حزب الخضر في ظل قيادته الحالية لا يعبر أبداً عنا"، بل إن البعض يخشى أن تجرى ملاحقتهم قضائياً وتكمم أفواههم "نيابة عن دولة أجنبية على أرض وطننا".
أنالينا بيربوك المنقلبة على المبادئ
يقال في دول الشمال إن "الثمرة سقطت بعيداً عن الشجرة" للدلالة على ابتعاد الأبناء عن مسار أهاليهم، أو أحزابهم في هذه الحالة. فحزب الخضر الذي انتمت إليه الأربعينية بيربوك القادمة من هانوفر ليس جديداً عليها، حيث ترعرعت وسط بيئة مناهضة للتسلح وللحروب ونشر الأسلحة النووية.
وبيربوك ابنة أسرة نشيطة سياسياً ويعمل والدها مهندس ميكانيك ووالدتها متخصصة في علوم الاجتماع، وحصلت في هانوفر عام 2000 على الثانوية العامة، قبل أن تنتقل لدراسة العلوم السياسية في هامبورغ، وحصلت من لندن على درجة الماجستير في القانون الدولي. بالطبع، لا تغيب عن بيربوك، كغيرها من ساسة سطحيين في أوروبا، اتهامات بالسرقة الأدبية والغش في الأطروحة المكونة من 240 صفحة عن مستقبل ألمانيا وما تريده لها، ولا يزال النبش في سرقتها الأدبية متواصلاً حتى اليوم، وربما يشتد مع اقتراب الانتخابات التشريعية في سبتمبر/أيلول المقبل، وعينها على منصب المستشارية.
منذ 2005، تسلقت بيربوك حزب الخضر، كما يصفها منتقدوها الذين ترك بعضهم الحزب، وأصبحت في 2009 مسؤولة فرع براندنبورغ والمتحدثة باسم مجموعة العمل الأوروبية للخضر حتى عام 2013. وفي عام 2018 انتُخبت في قيادة الحزب المشتركة. ومنصبها الحالي وزيرةَ خارجية البلد الأوروبي الأكبر سكانياً، ألمانيا، جعلها تبرز في الحكومة الائتلافية تحت قيادة المستشار أولاف شولتز، إلى جانب رفيقها الحزبي وزير الاقتصاد روبرت هابيك، الذي يعتقد أنه سيقود الحزب بعدها.
حاولت أنالينا بيربوك استغلال صعودها السريع نحو ترويكا حكم برلين (بين الخضر والليبراليين والاجتماعيين الديمقراطيين) لتقديم نفسها بمستوى المستشارة السابقة أنجيلا ميركل، رغم أن أطرافاً أخرى لا تمنحها الأهمية نفسها بسبب نقص الخبرة. وأثرت مواقفها الشخصية على مسيرة وخطاب "الخضر"، إذ اعتبرت مبكراً أن السياسات الخارجية الألمانية، بعد تسلمها نهاية 2021، يجب أن تضع قضايا البيئة وحقوق الإنسان جزءاً مما سمته "سياسة خارجية نسوية".
وفي النقطة الأخيرة، تبدو بيربوك "حانقة وغاضبة علينا حين نذكرها بأكاذيبها وفصلها النسوية عن الحقوق والتضامن العالمي، بما في ذلك الحقوق الفلسطينية"، كما تشير لـ"العربي الجديد" الناشطة آنا ريكو شتاين، التي تنشط مع غيرها من الشباب تحت مظلة منظمة معارضة التسلح والسياسات الاستعمارية وترى أن بيربوك "لم تسقط بعيداً عن الشجرة فحسب، بل أسقطت الحزب (الخضر) أبعد بكثير مما تخيله أكثر المتشائمين بمستقبله".
في تظاهرات التضامن مع فلسطين ولبنان يوم الاثنين 7 أكتوبر الحالي في شتوتغارت (جنوب)، يرفع هؤلاء الشباب ملصقات واضحة الدلالة في تذكير بيربوك بأنه لا يمكن فصل النسوية عن القضية الفلسطينية، هذا إلى جانب الملصق المثير للجدل الذي يصورها (منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2023 ) مشاركةً في جرائم الحرب الإسرائيلية في غزة.
ومنذ الحرب الأوكرانية في 2022، ترفع بيربوك لواء المزيد من التسلح والتعاون الدفاعي الأوروبي في السياسة الخارجية، حيث ساهمت بصفتها عضواً في الحكومة في تمرير صرف مئات مليارات اليورو لتعزيز تسلح بلدها. وأدخلت برلين في أزمة مع بكين حين وصفت، في سبتمبر/أيلول العام الماضي، رئيس الصين شي جين بينغ بأنه ديكتاتور.
ويقول بعض منتقديها إن بيربوك "تظن نفسها هنري كيسنجر (وزير خارجية أميركا الأسبق من أصول ألمانية)"، بينما يعتبر آخرون أنها جرت حزب الخضر إلى تبنٍّ تام لسياسات رجعية (بحسب وصفهم) تدعم الاحتلال الإسرائيلي وتعتبر أمنه كأنه شأن داخلي ألماني". وكل ذلك وغيره، برأي هؤلاء، ما كان يمكن أن يحصل لولا أن قيادة الحزب العليا والوسطى راضية عن هذا النهج.
وتقول إحدى التفسيرات المتعلقة بالانزياح من الأخضر إلى الرمادي الداكن إن حزب الخضر يعول على الوصول إلى منصب المستشارية من خلال المزيد من تلميع بيربوك. وليس غريباً في السياق نفسه أن تكون أنالينا بيربوك من أكثر المتحمسين لفرض بعض الولايات الألمانية ما يسمى "الاعتراف بدولة إسرائيل" جزءاً من عملية الحصول على الجنسية، إلى جانب حماستها الكبيرة لجعل انتقاد دولة الاحتلال والصهيونية بمثابة "معاداة للسامية"، ويقرأ داعمو القضية الفلسطينية ما يجري بمثابة "تقديم الخضر أوراق اعتماد للدوائر الصهيونية داخل ألمانيا وخارجها".
وتؤكد البروفيسور فاني ريزين، مسؤولة رابطة حقوق الإنسان سابقاً والمشاركة في تأسيس الصوت اليهودي لأجل السلام المعادية للصهيونية، لـ"العربي الجديد"، أن ألمانيا تعاني في مجال التطرف من مواقف تأييد الصهيونية، حيث يواجهون معضلة اتهام اليهود الألمان مثلاً بمعاداة السامية. ومع ذلك، يبدو أن بيربوك تنسجم مع النهج الذي اختطه رئيسها في الحكومة شولتز، فالرجل الذي بدأ أيضاً متظاهراً ضد التسلح وضد الإمبريالية الأميركية، شاباً على يسار الاجتماعي الديمقراطي، ها هو اليوم يبدو أكثر التصاقاً بالصهيونية ودولة الاحتلال من مواطنيه من اليهود الذين يرفضون حتى الاعتراف بتلك الدولة.