إيطاليا تستدير نحو أقصى اليمين. صدقت التقديرات واستطلاعات الرأي، التي رجّحت في الأسابيع الأخيرة وصول حزب "إخوة إيطاليا" (فراتيلي ديتاليا) إلى الصدارة في صناديق الاقتراع. وحصل الحزب على 26 في المائة في الانتخابات التي أُجريت الأحد الماضي، وهي أعلى نسبة من أي حزب منفرد، وبات يمتلك الأغلبية مع حليفيه حزب "الرابطة" اليميني المتطرف بقيادة ماتيو سالفيني، وحزب "فورزا إيطاليا" المحافظ بقيادة سيلفيو بيرلوسكوني، بما يصل إلى 44 في المائة من الأصوات. ومع اللعبة المعقدة للدوائر الانتخابية، يفترض أن يضمن هذا التحالف لنفسه غالبية المقاعد في مجلسي النواب والشيوخ.
تأسس حزب "إخوة إيطاليا" عام 2012، وتعود أصوله إلى "الحركة الاجتماعية الإيطالية"، التي شكلها أنصار الديكتاتور الفاشي بينيتو موسوليني بعد الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، وتقوده جورجيا ميلوني (45 عاماً)، المرشحة لرئاسة حكومة ائتلافية تخلف حكومة رئيس الحكومة التكنوقراطي ماريو دراغي، الذي تولى رئاسة حكومة "وحدة وطنية" في مطلع عام 2021، كانت مهمتها محصورة بالتصدي لوباء كورونا، والأزمة الاقتصادية التي نجمت عنها. ولكنه قدم في يوليو/ تموز الماضي استقالة حكومته، واعتبر أنها من دون دعم حركة "خمس نجوم" أصبحت "سياسية"، وهو ما لا يدخل ضمن التفويض المعطى له لرئاسة الحكومة.
صعود "إخوة إيطاليا"
وحصل "إخوة إيطاليا" في انتخابات 2018، على حوالي أربعة في المائة من الأصوات، لكن الاستطلاعات باتت تمنحه نسبة أعلى منذ عام 2019، عندما بدأ يتراجع رصيد حزب "الرابطة" لدى الناخبين، بسبب مناورات رئيسه سالفيني من أجل الحصول على رئاسة الحكومة. لـ"إخوة إيطاليا" نهج مشابه لبرامج ودعاية وخطاب أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا مثل فرنسا والسويد وهولندا، في ما يخص الاقتصاد والأديان والمهاجرين، ويعتنق نظرة منعزلة وضيقة إلى الهوية القومية، ويتعامل مع ذلك على نحو شعبوي وعنصري، فيخلط الإسلام بالإرهاب، ولذا ضمّن برنامجه إغلاق حدود إيطاليا من أجل حمايتها من "الأسلمة"، على حد تعبيره.
ميلوني قادرة على التشبيك مع بقية تيارات اليمين المتطرف في أوروبا
ستكون ميلوني أول امرأة تتولى رئاسة حكومة في تاريخ إيطاليا، تقدم نفسها على أنها "امرأة، إيطالية ومسيحية"، وترفع شعار "الله، الوطن، العائلة" لحزبها، من أجل كسب الناخبين الذين يقعون داخل فضاء هذا المثلث، الذي يقف على مرتكزات الوطنية الفاشية، والتعصب الديني، والقيم العائلية في بلد ذهب بعيداً في الحريات الاجتماعية بعد الحرب العالمية، بما يتجاوز في بعض الأحيان بقية بلدان أوروبا الغربية.
ويرى بييرو إيغنازي، الأستاذ المتقاعد في جامعة بولونيا، في حديث لمحطة "فرانس 24" التلفزيونية، أن ميلوني تنشط في العمل السياسي ما بعد الفاشي منذ فتوتها، وهوية الحزب هي في الأساس مرتبطة بالتقاليد ما بعد الفاشية، لكن "مواقفه عبارة عن خليط بين هذا التقليد وبعض الأفكار المحافظة السائدة والعناصر النيوليبرالية مثل اقتصاد السوق". وتمثل ميلوني الفاشيين الجدد، على الرغم من أنها بدأت تحاول في الآونة الأخيرة إخفاء إعجابها بموسوليني من منطلق براغماتي، كما فعلت زعيمة اليمين المتطرف الفرنسي مارين لوبان، حينما أرادت أن تشكل لنفسها صورة مغايرة لصورة والدها العنصري.
ميلوني التي تتحدر من روما، هي بلا برنامج سياسي فعلي غير فشل اليسار، إلا أنها تتبنى مواقف محافظة متشددة، وفق ما أعلنت عنه في يونيو/ حزيران الماضي "نعم للعائلة الطبيعية، لا للوبي مجتمع المثليين. نعم للهوية الجنسية، لا لأيديولوجيا النوع الاجتماعي"، كما أنها تدين الإجهاض، وتردد شعارات مزيج من العنصرية والديماغوجية مثل "نعم لحضارتنا! ولا لأولئك الذين يريدون تدميرها!"، وترمي على ظهر الهجرة سبب الأزمة الاقتصادية التي يواجهها ثالث اقتصاد في الاتحاد الأوروبي بعد ألمانيا وفرنسا.
وتُعد ميلوني قادرة على التشبيك مع بقية تيارات اليمين المتطرف في أوروبا، ومن هنا تُعتبر مقرّبة من رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، ولم توفر مناسبة للتعبير عن دعمها اليمين المتطرف على مستوى أوروبا، ولذا دعمت في يونيو الماضي حزب "فوكس" في إسبانيا، وإيريك زيمور ومارين لوبان في فرنسا، وهي ترتبط بعلاقة وثيقة مع والد الأخيرة، جان ماري لوبان، تعود إلى أعوام العضوية في البرلمان الأوروبي.
والقاسم المشترك الأعظم بين هذه التيارات هو عدم إيمانها بقيم الاتحاد الأوروبي. وعلى الرغم من أنها لا تمتلك بدائل عن الوضع الحالي، إلا أن الاتحاد الأوروبي بدأ يشعر بالخطر الذي يهدده على المدى المنظور، لما للأفكار الشعبوية والعنصرية من أضرار على السلم الاجتماعي والأمن الجماعي من خلال تصعيد العنصرية، وتعميق البعد الديني والتباينات الاجتماعية والثقافية.
الحكومة الإيطالية التي ستتولى مهامها اعتباراً من نهاية أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، ستواجه عقبات عدة على طريقها، وسيتحتم عليها معالجة الأزمة الناجمة عن الارتفاع الحاد في الأسعار، في وقت تواجه فيه إيطاليا ديناً يمثل 150 في المائة من إجمالي ناتجها المحلي، ويشكل ذلك أعلى نسبة في منطقة اليورو بعد اليونان. وفي هذا السياق تظل إيطاليا بحاجة ماسة إلى استمرار تدفق المساعدات التي تتلقاها من الاتحاد الأوروبي، في إطار خطته للإنعاش الاقتصادي بعد وباء كورونا، والتي تمثل أول المستفيدين منها، وبفارق كبير عن الدول الأخرى.
وخصص الاتحاد الأوروبي لإيطاليا نحو 200 مليار يورو لتمويل خطة التعافي بعد الوباء، وهذا الاتفاق قد يتعرض للانهيار في حال حصول أزمة بين الاتحاد الأوروبي والحكومة الإيطالية اليمينية المقبلة، التي من المرجح أن تطالب بإعادة التفاوض على "ميثاق الاستقرار"، المعلق بسبب الأزمة الصحية، والذي يحدد سقف العجز في ميزانية الدول وديونها بثلاثة في المائة. والهدف من ذلك هو الحصول على شروط مخفضة في مجال تمويل الموازنة والدين العام، ولكن سبق لميلوني أن عملت بنصائح مارين لوبان، وأقلعت عن طرح مسألة الخروج من اليورو.
وجود حكومة يمينية متطرفة في إيطاليا يشكّل تحدياً للمؤسسة الليبرالية الأوروبية، فاليمين الأوروبي القومي وغير الليبرالي والمشكك في الاتحاد الأوروبي، الذي لا يحكم إلى الآن سوى في الأطراف الشرقية للقارة، سيكون له موطئ قدم في وسط أوروبا، فحكومة رجعية كهذه تشكّل إزعاجاً جدياً لكل من فرنسا وألمانيا وإسبانيا في ما يخص الحقوق الجندرية وحقوق الأقليات.
ستواجه ميلوني تحدياً حقيقياً في التعامل مع حلفاء مربكين، سواء بيرلوسكوني أو سالفيني. وقد تحصل صدامات داخل التحالف تؤدي إلى تفككه السريع. وأهم ما يعانيه اليمين الإيطالي من انقسامات عميقة، يتمثل في المواقف من الحرب الروسية على أوكرانيا، إذ أيدت ميلوني إرسال أسلحة إلى أوكرانيا، وذلك هو نفسه موقف رئيس الوزراء ماريو دراغي، الذي وقف بقوة مع العقوبات الغربية على روسيا بسبب حربها على أوكرانيا، بينما يعارض سالفيني الذي لطالما كان من المعجبين بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين العقوبات، ويشاركه هذا الموقف بيرلوسكوني، الذي اعتبر أن بوتين "دُفع" إلى الحرب في أوكرانيا، وتربطه به صداقة شخصية عميقة.
أوروبا قلقة من تحول إيطاليا إلى حلقتها الضعيفة في مواجهة روسيا
وهناك مخاوف فعلية من أن تكون الحكومة بقيادة ميلوني أقل حماسة بكثير لدعم الجهد الحربي الأوكراني في مواجهة روسيا مقارنة بدراغي، والأمر ذاته يسري على تأييدها لحلف شمال الأطلسي، ما يؤدي إلى حكومة قصيرة العمر. لكن بعض المحللين السياسيين يقولون إن ميلوني، بعدما وصلت إلى السلطة، قد تميل إلى تخفيف دعمها للعقوبات على روسيا، والتي لا تحظى بشعبية في معظم أنحاء إيطاليا. وإذا فعلت ذلك، فهناك قلق من أن تكون إيطاليا هي الحلقة الضعيفة التي تكسر الموقف الموحد القوي للاتحاد الأوروبي ضد روسيا.
المخاطر على الديمقراطية
وفي كل الأحوال ستواجه إيطاليا مع الائتلاف الجديد مخاطر داخلية، منها أن يؤدي الخطاب المتطرف للائتلاف اليميني المتطرف إلى تآكل تدريجي للقواعد الديمقراطية التي يرتكز عليها نظام البلاد السياسي، في ظل وضع اقتصادي شديد الهشاشة، فيما يلوح في الأفق تباطؤ اقتصادي عالمي، وهو ما سيوفر الكثير من الذخيرة لمهاجمة الحكومة الائتلافية الجديدة، وستساهم مشاعر الإحباط الحالية في جعل مهمتها صعبة مثل بقية الحكومات التي سبقتها خلال الأعوام الخمسة الأخيرة، التي أدى فيها اليمين المتطرف دوراً مهماً في توجيه دفة السياسة الإيطالية، لكنه فشل بقيادة سالفيني في عام 2019 في السيطرة على الحكم بمفرده.
ومن غير المستبعد أن تعود استفزازات الفاشية الجديدة التي شهدتها إيطاليا عام 2019، من خلال تظاهرات تدنس النُصُب التذكارية للمقاومة الإيطالية التي وقفت في وجه الفاشية، ورسم شعار الصليب النازي المعقوف في مناطق مختلفة، ورفع لافتات تحيي موسوليني، وأداء التحيات الفاشية في مدينة ميلانو.
وعلى الرغم من قيود الدستور الإيطالي الذي يتعارض صراحة مع الفاشية، والمكتوب على نحو يحبط صعود موسوليني آخر، فإن العديد من الليبراليين قلقون الآن من التحالف اليميني. كانت هناك مخاوف من أنه إذا فاز الائتلاف بثلثي المقاعد في البرلمان، فستكون لديه القدرة على تغيير الدستور لزيادة سلطات الحكومة. والأمر الخطير هو أن ميلوني وبيرلوسكوني وسالفيني يتشاركون رؤية متشددة لإيطاليا المستقبل.
تأتي الحكومة الجديدة إلى السلطة في روما في أسوأ الأوقات. تضخم وغلاء وأزمة طاقة، من المؤكد أنها ستزداد سوءاً في الشتاء المقبل، وأسوأ مما عليه في معظم البلدان الأخرى، مع معاناة إيطاليا بتأثير ركود آخر والوباء، بينما تعتمد بشكل خاص على الغاز والنفط الروسيين. باختصار، كانت الانتخابات الإيطالية غير مألوفة. وستكون ميلوني أول رئيسة وزراء لإيطاليا وأول رئيسة وزراء يمينية متطرفة في أوروبا الغربية اليوم. وعلى الرغم من أن الأحزاب اليمينية المتطرفة باتت جزءاً من التيار السياسي الأوروبي السائد منذ عقدين على الأقل حتى الآن، فإن الأمر الأكثر إدهاشاً وإحباطاً هو أن لا فكرة لدى الأحزاب الديمقراطية الليبرالية عن كيفية التعامل مع هذا الواقع.