عادة، يعطى الرئيس الأميركي الجديد فرصة المئة يوم الأولى قبل أن يبدأ تقييم رئاسته. خلالها، يكون الخيط الأبيض في عهده قد بدأ يتبين من الخيط الأسود. لكن هذا التقليد قد لا يسري على جو بايدن، بحكم أن الظروف الراهنة غير الاعتيادية لا تمنحه شهر العسل هذا، فإدارته مطالبة بمواجهة فورية للتحديات والمشكلات الخطيرة التي انتقلت إليها مع تسلمها السلطة الأربعاء.
بهذا المقياس، يمكن وضع اليوم الأول في خانة العلامة الواعدة. فأجواء الانفراج ولو المترقَّب، بدأت تتسلّل إلى الساحة على حساب تراجع حالة القلق. عدة أسباب ساهمت في ذلك، منها تغيير ربان السفينة الذي جرى الأربعاء، بعدما تعبت أميركا من "الستاتيكو"، وما رافقه من خوف وتعاظم الشعور بالخطر بعد أحداث 6 يناير/كانون الثاني. كما تردد أن بعض المتمردين البيض الذين اجتاحوا الكونغرس بدأوا يعربون عن خيبتهم من دونالد ترامب "الضعيف"، ربما بعدما أعرب عن تمنياته بـ"النجاح" للإدارة الجديدة! مثل هذا التخلخل في جبهة العنف يعطي بايدن دفعة زخم ومقبولية. وتعزز ذلك بغياب التظاهرات ومظاهر العنف حتى الآن، ما عدا بقاياها الخفيفة التي شهدتها مدينة بورتلاند في ولاية أوريغن.
بعض المتمردين البيض الذين اجتاحوا الكونغرس بدأوا يعربون عن خيبتهم من دونالد ترامب "الضعيف"
الأهم من ذلك، كان تحرك الرئيس على المستوى السياسي في أكثر من اتجاه، وبصورة بدت سالكة ومرحبا بمعظمها، خصوصاً في ما يتعلق بوضع خطة متكاملة للتعامل العلمي مع كورونا، بإشراف ودعم المرجع أنتوني فاوتشي، الذي أصبح مستشار الرئيس الصحي، والذي أشاعت صراحته الخميس، في المؤتمر الصحافي بالبيت الأبيض، والتي لم يتيسر له التفوه بها في زمن ترامب، حالة من الاطمئنان، على الرغم من هول الوباء في لحظته الراهنة والمرشح للتفاقم حسب فاوشي.
في ضوء ذلك، وعد الرئيس بايدن بتنظيم وتسريع عملية توزيع اللقاح والاستعجال في استعماله، بما يسد كافة الثغرات التي أعاقت ذلك في الشهرين الماضيين، الأمر الذي ترك شيئاً من الارتياح، مقارنة مع ما كانت عليه الحال أيام ترامب، خصوصاً إذا ما نجح بايدن في تطعيم مئة مليون أميركي مع نهاية المئة يوم الأولى من رئاسته، ولو أن استفحال الوباء بلغ حداً مخيفاً يهدد بتجاوز النصف مليون من الوفيات مع نهاية فبراير/شباط المقبل، كما قال الرئيس بايدن وفريقه الطبي.
ترافق ذلك مع زخّة مراسيم وقعها الرئيس، استهدفت تفكيك القرارات التي سبق واتخذها الرئيس السابق، والتي اطاح بموجبها بكل ما حمل تقريباً بصمات باراك أوباما. بموازاة ذلك، أعدّ بايدن حزمة مشاريع في طريقها إلى الكونغرس. يساعده في ترجمة بعضها، إن لم يكن معظمها، أن الحزب الجمهوري لم يعد في موقع القيادة في أي من مجلسي الشيوخ والنواب، إضافة إلى أنه يعاني حالياً وحتى إشعار آخر، من التفسخ والخلافات الحادة التي حملت الكثير من العارفين على عدم استبعاد انفراطه إلى جناحين، تقليدي يحاول استعادة ماضيه، وآخر متشدد قد ينتهي بمشروع حزب جديد قد يتزعمه ترامب، حسب بعض الترويجات التي يغذيها أنصاره، ربما بإيحاء منه.
مثل هذا الوضع يصبّ في مصلة بايدن، خصوصاً وأن من الجمهوريين في الكونغرس من أخذ يعلن استعداده "للتعاون" مع الرئيس. وهناك إشارات واضحة تصدر عن قياداتهم في مجلس الشيوخ، والتي أعربت عن الميل للتفاهم المتوازن مع الديمقراطيين، لاسيما لجهة تصويتهم المرجح ضد الرئيس السابق ترامب أثناء محاكمته القريبة في المجلس، والتي اقترح زعيم الأقلية الجمهورية السيناتور ميتش ماكونيل تأجيلها إلى فبراير/شباط المقبل. ولم يصدر أي اعتراض من رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي على اقتراح ماكونيل، علماً أنها هي التي تمسك بقرار فتح المحاكمة من خلال إحالة ادانة مجلس النواب إلى مجلس الشيوخ، الذي يترتب عليه عندئذ أن يباشر من دون تأخير في المحاكمة.
وعد الرئيس بايدن بتنظيم وتسريع عملية توزيع اللقاح والاستعجال في استعماله، بما يسد كافة الثغرات التي أعاقت ذلك في الشهرين الماضيين
وتأجيل هذه الأخيرة لمدة بسيطة يخدم الرئيس بايدن لناحية توظيف الفترة الفاصلة لتمرير تعييناته في مجلس الشيوخ، الذي سارع ووافق على تعيين مديرة "الوكالة الوطنية للاستخبارات الوطنية" افريل هاينز، وبات قاب قوسين أو أدنى من الموافقة على تعيين وزير الخارجية أنتوني بلينكن، على أن يتبعه وزير الدفاع الجنرال المتقاعد لويد أوستن، بعد أن حصل على الإعفاء القانوني من الكونغرس للسماح بتعيينه قبل انقضاء سبع سنوات على تقاعده من السلك العسكري. وهذا هو حال وزيرة المالية جانيت يلين، التي تنظر اللجنة المختصة في مجلس الشيوخ في ترشيحها اليوم الجمعة، وبالتالي إقرار تسلّمها لمنصبها بعد أيام. والباقي من التعيينات قد لا يتأخر، بحيث تكون التركيبة الأساسية للإدارة جاهزة في وقت ما خلال فبراير المقبل.
بايدن ما زال في بداية البداية. يومه الأول لا يصلح كمعيار، لكنه حمل مؤشرات لصالحه في لحظة اميركا متعطشة فيها إلى قيادة جديدة تحمل خطابا أبعد ما يكون عن الديماغوجية، وتأتي ببدائل مختلفة في الداخل واستطراداً في الخارج. المهمة كبيرة والكرة في ملعب الرئيس ووعوده.