أيرلندا الشمالية: سلام "الجمعة العظيمة" مهدَّد

10 ابريل 2021
اتهم قادة في بلفاست بالغين بدفع أطفال إلى ساحات المواجهة مع الشرطة (Getty)
+ الخط -

لم يكن 23 يونيو/حزيران 2016، يوماً عادياً في بريطانيا، بعد إجرائها استفتاءً شعبياً يخيّر الناخبين بين البقاء في الاتحاد الأوروبي أو الخروج منه. اختار البريطانيون خياراً صادماً في حينه، وهو "بريكست"، عكس تمنيات رئيس حكومتها في ذلك الحين، ديفيد كاميرون، الذي استقال سريعاً. خرجت بريطانيا بعد مفاوضات مضنية مع أوروبا وانتخابات متكررة وتحوّلت خليفة كاميرون، تيريزا ماي، إلى جثة سياسية. مع ذلك، ورغم محاولة رئيس الحكومة الحالي، بوريس جونسون، الإيحاء بقدرته على عبور المرحلة الانتقالية في العلاقة بين لندن وبروكسل، إلا أن العقبات بدأت تظهر تباعاً، وآخرها من المكان نفسه الذي شهد أكثر نقاط التفاوض سخونة مع الأوروبيين: أيرلندا الشمالية، التي حصلت في النهاية على مزايا مغايرة لباقي الأقاليم البريطانية (إنكلترا، اسكتلندا، ويلز)، لناحية حركة التجارة على الحدود مع جمهورية أيرلندا، العضو في الاتحاد الأوروبي. مع ذلك، أدت تداعيات الإغلاقات المتلاحقة بسبب تفشي وباء كورونا، وتأثيرها على الوضع الاقتصادي العام في بلفاست والعالم، إلى نشوء اضطرابات غير مسبوقة في أيرلندا الشمالية، أعادت معها إلى الأذهان عقود الصراع الدموي بين الوحدويين الداعين إلى الوحدة مع بريطانيا وهم من البروتستانت، والجمهوريين الداعين للوحدة مع جمهورية أيرلندا وهم من الكاثوليك، وقُتل فيها أكثر من 3500 شخص. وقد وقعت صدامات وأعمال عنف يومي الأربعاء والخميس الماضيين، مع تعرّض شرطة مكافحة الشغب التي تواجه متظاهرين جمهوريين لحجارة وزجاجات حارقة، فيما كانت تحاول منع تجمع من الوصول إلى تجمع آخر للوحدويين. وأُحرقت بوابات عند "خط السلام"، وهي الجدران الفاصلة بين البروتستانت والكاثوليك في بلفاست، وألقت حشود زجاجات حارقة من فوق الجدار. كما قُذف رجال الشرطة الذين كانوا يحملون دروع مكافحة الشغب بالألعاب النارية، فأطلقوا الكلاب المدرّبة باتجاه المتظاهرين. ولم تكن أحداث الأسبوع الحالي جديدة، بل بدأت عملياً أواخر الأسبوع الماضي في مدينة لندنديري، الواقعة على بعد 100 كيلومتر من العاصمة بلفاست، لكنها أحد المعابر الحدودية المهمة مع جمهورية أيرلندا. وتمددت الاضطرابات منها إلى بلفاست.


الأحداث كانت الأعنف منذ اتفاق "الجمعة العظيمة" عام 1998

 

وتُعدّ هذه الصدامات الأعنف منذ اتفاق "الجمعة العظيمة" عام 1998، بين الكاثوليك والبروتستانت، وتحوّل الأطراف في بلفاست إلى العمل السياسي، وفقاً للاتفاق. من جهته أقرّ المجلس التشريعي في أيرلندا الشمالية، أول من أمس الخميس، بالإجماع اقتراحاً يدعو إلى إنهاء الفوضى، مع إدانة حكومة تقاسم السلطة في الإقليم أعمال العنف. وذكر قادة الحكومة المؤلفة من خمسة أحزاب في بيان مشترك: "في حين أن مواقفنا السياسية مختلفة جداً بشأن العديد من القضايا، فإننا جميعاً متحدون في دعمنا للقانون والنظام، ونعلن بشكل جماعي دعمنا للأعمال الشرطية ولضباط الشرطة الذين يعرضون أنفسهم للأذى لحماية الآخرين". وتابع البيان "سنواصل نحن ووزاراتنا العمل معاً لتحقيق أقصى قدر من الدعم الذي يمكننا تقديمه للمجتمعات وخدمة الشرطة في أيرلندا الشمالية، لمنع المزيد من العنف والاضطرابات". وشدّد على أن "التدمير، والعنف، والتهديد بالعنف غير مقبول، بغض النظر عن هواجس المجتمعات المختلفة". وخلال جلسة المجلس نفسه، اتّهم عدد من القادة مجموعات شبه عسكرية موالية لبريطانيا بتدبير أعمال العنف، باستخدام أطفال بعضهم يبلغ 12 عاماً، لإلقاء قنابل حارقة، بعد تضييق الشرطة عليها وسط تدابير الإغلاق المفروضة لاحتواء فيروس كورونا. لكن بالنسبة لوحدويين كثر، فإن الغضب ناجم أيضاً عن قرار السلطات عدم ملاحقة قادة "شين فين" (الذي يصنّفه البعض بأنه الجناح السياسي للجيش الجمهوري الأيرلندي) لحضورهم جنازة قائد مجموعة شبه عسكرية العام الماضي، والتي شارك فيها آلاف الأشخاص في انتهاك صريح للقيود المفروضة لاحتواء كورونا. ووصفت وزيرة العدل ناومي لونغ المنتمية لـ"حزب التحالف" الوسطي، إقدام بالغين من الوحدويين على إقحام أطفال في التظاهرات بأنه "مروّع"، معتبرة أن عدم سقوط قتلى إلى حد الآن يعد "معجزة". وتحدّثت لونغ عن "بعض التعاطف" مع الذين يشعرون أن الحكومة البريطانية "خانتهم" من خلال السياسة التي اعتمدتها في ملف "بريكست"، وسخرت من وعود جونسون "الخيالية" وتصويره "الغد المشرق"، بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. واعتبر قادة قوميون موالون لجمهورية أيرلندا وآخرون وسطيون أن "بريكست" هو أحد أسباب اندلاع أعمال العنف، موجهين انتقادات إلى لندن التي اتّهموها بنكث وعود قطعتها للوحدويين. وقد سعى رئيس الوزراء البريطاني إلى استيعاب التدهور الأمني، فأوفد وزير أيرلندا الشمالية براندن لويس إلى بلفاست برفقة نظيره الإيرلندي مايكل مارتن. وأفاد بيان مشترك عن مارتن وجونسون تأكيدهما أن "أعمال العنف غير مقبولة" ودعوَا إلى "التزام الهدوء". وأكدا على أنه "ينبغي المضي قدماً عبر الحوار والعمل على المؤسسات التي نشأت بموجب اتفاق الجمعة العظيمة". ودان المتحدث باسم المفوضية الأوروبية إريك مامر أعمال العنف "بأشد العبارات". كما دان الرئيس الأميركي جو بايدن، الأيرلندي الأصل، أعمال العنف. وكانت اتفاقية السلام الموقعة في 1998 أزالت الحدود بين المقاطعة البريطانية وجمهورية أيرلندا. لكن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أضعف التوازن الدقيق، لأنه تطلب فرض ضوابط جمركية بين لندن وبروكسل. وبعد مفاوضات شاقة، تمكن الطرفان من الاتفاق على حل سمي "بروتوكول أيرلندا الشمالية" يسمح بتجنب العودة إلى الحدود المادية في جزيرة أيرلندا، عبر نقل إجراءات المراقبة إلى موانئ أيرلندا الشمالية. وطالب قادة وحدويون الاتحاد الأوروبي مراراً بإلغاء البروتوكول. وخلال استفتاء "بريكست" انقسم الأيرلنديون الشماليون، مع مطالبة 55.78 في المائة من المستفتين بالبقاء في الاتحاد الأوروبي، بينما وافق 44.22 في المائة على الخروج منه. ولم تكن أيرلندا الشمالية بمفردها من بين الأقاليم البريطانية الأربعة الرافضة لـ"بريكست"، فقد أيّد 62 في المائة من الاسكتلنديين البقاء في الاتحاد الأوروبي، وطالب 38 في المائة منهم بالخروج منه. ومع أن المخاوف الأساسية في لندن تجاه غلاسكو تتمحور حول مدى نجاح الاسكتلنديين بتمرير طلب إجراء استفتاء الاستقلال عن بريطانيا في مايو/أيار المقبل، إلا أن المخاوف تجاه بلفاست متصلة بماض حديث عنيف، تحديداً بعد الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918) وتفاقم بعد الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، وهي أكثر قسوة من غلاسكو.


اتفق القادة المختلفون سياسياً في بلفاست على إدانة العنف

 

يعود الخلاف في الجزيرة الأيرلندية أساساً إلى النزاعات التاريخية بين البروتستانت والكاثوليك ودور بريطانيا في الجزيرة، ورغم محاولة ترسيخ تفاهم مشترك بين الطائفتين، إلا أن الفشل كان حليف المفاوضات. وبعد الحرب العالمية الأولى، سعت بريطانيا لإنشاء منطقتي حكم ذاتي في الجزيرة الأيرلندية، وافق البروتستانت على ذلك، بينما رفض الكاثوليك، فاندلعت الحرب الأهلية (1922 ـ 1923)، التي أدت إلى انقسام الجزيرة، بين أيرلندا الشمالية، إقليماً موالياً للتاج البريطاني، وجمهورية أيرلندا المستقلة. وعلى الرغم استتباب الأمر في جمهورية أيرلندا، إلا أن الوضع كان أكثر صعوبة في الشمال، بحكم تساوي النسبة الديمغرافية بين البروتستانت والكاثوليك بنحو 40 في المائة لكل منهما. وهو ما دفع لاحقاً، بعد الحرب العالمية الثانية، إلى بدء نزاع مسلح بين "الجيش الجمهوري الأيرلندي" المناهض للندن والمطالب بالوحدة الأيرلندية وبين بريطانيا. و"الجيش" ليس حديث العهد، بل تأسس عام 1913 لمواجهة البريطانيين، وحاول بعد الحرب الأهلية القيام بعمليات متفرقة ضد البريطانيين، أدت في النهاية إلى تحجيمه. وعلى الرغم من إعلان نضاله السلمي عام 1962، إلا أن "الجيش" عاد إلى العنف في عام 1969. وفي 30 يناير/كانون الثاني 1972، أطلقت القوات البريطانية النار على تظاهرة في لندنديري، فقُتل 14 شخصاً، فيما أُطلق عليه "الأحد الدامي". وعلى الأثر نجح "الجيش الجمهوري الأيرلندي" في إطلاق حملة تجنيد واسعة، أدت إلى بدء حرب طويلة ضد بريطانيا، التي عادت وشهدت تحولاً قاسياً، مع اعتقال حكومة مارغريت ثاتشر لقادة في "الجيش"، وأبرزهم بوبي ساندز، الذي أشعل إضراباً عن الطعام أثناء سجنه في بريطانيا، أدى أولاً إلى انضمام معتقلين آخرين إليه، وثانياً إلى فوزه في مقعد نيابي غيابياً. لكن ثاتشر رفضت الانصياع لمطالب السجناء، من أجل منحهم بعض الميزات، ووصفت ساندز ورفاقه بأنهم "مجرمون وليسوا معتقلين سياسياً". وبعد 66 يوماً من الإضراب عن الطعام توفي ساندز، ثم ثلاثة من رفاقه. وجدد "الجيش الجمهوري الأيرلندي" حملته العنيفة ضد لندن، التي لم تنتهِ سوى في عام 1998، باتفاق "الجمعة العظيمة"، الذي ألغى السيادة البريطانية على كامل الجزيرة الأيرلندية، وأيّد حق جميع سكان أيرلندا الشمالية في حمل جنسيات أيرلندية أو بريطانية، والعودة إلى الشعب في أي خطوات تُتخذ بشأن مستقبل أيرلندا. ونصّ أيضاً على عدم تغيير أي موقف سياسي لأيرلندا الشمالية إلا بموافقة سكانها من خلال الاستفتاءات التي تقام بأمر من وزير الخارجية البريطاني، وتكون المدة بين الاستفتاء والآخر سبع سنوات، على الأقل.

(العربي الجديد، فرانس برس، أسوشييتد برس)