ظلّ حسم الصراع في السودان، منذ سقوط نظام عمر البشير، في إبريل/نيسان 2019، بين قائد الجيش الجنرال عبد الفتاح البرهان، وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو، بمثابة مسألة "غير منتهية"، بالنسبة إلى أي متابع للمشهد السوداني، بعد صعود الرجلين إلى السلطة. فخلال فترة ما بعد سقوط البشير، وصولاً إلى الحرب اليوم بين العسكر و"الدعم السريع"، والتي أطاحت إلى أجل غير مسمى بالتسوية الشاملة، برز اسما البرهان ودقلو، ليس كحليفين وثيقين، وإنما من منظور يأخذ بالحسبان العمق الاستراتيجي للسودان، كمتنافسين غير معلنين على السلطة، ما دفع كل واحد منهما سريعاً إلى بناء شبكة علاقات وتحالفات وتحركات إقليمية وغيرها، لضمان موقعه، أو تحيّن الفرصة للإطاحة بالآخر.
وبينما يُخشى اليوم، من حرب طويلة الأمد في السودان بين الطرفين، يدفع كلفتها الباهظة مدنيو السودان أولاً، تعيد الأحداث التذكير بالنزاع المسلح في إقليم دارفور منذ 2003، والذي ترك انعكاساته متعددة الأوجه على معظم دول الجوار السوداني، في شرق أفريقيا. ويأتي ذلك على اعتبار أن حدة المعارك، بحسب مراقبين، لم يشهد مثلها السودان كدولة رغم عقود الاضطرابات والانقلابات التي عاشها. ويبدو اليوم أن جميع الاتصالات الدولية والإقليمية التي تجري في العلن وخلف الكواليس، تصبّ في خانة منع خروج النزاع عن السيطرة والحدّ من تداعياته وتأثيراته إلى خارج الحدود.
ظروف إقليمية استثنائية
يحصل ذلك في ظروف فائقة الاستثنائية. فبينما لدول عدة، بعيدة وقريبة، مصالح ومطامع بأن يكون لها نفوذ في "السودان الجديد" ما بعد البشير، وموطئ قدم على البحر الأحمر، إلا أن أي توسعة وإطالة أمد الاشتباكات العنيفة، قد ينزلق تأثيره إلى خارج الحدود السودانية، إلى دول الجوار في منطقة القرن الأفريقي والشمال الأفريقي وما حولها، التي تعيش كلّ منها توتراتها وأزماتها وحروبها الخاصة.
والظاهر حتى الآن أن القوى المؤثرة أو المعنية بالمشهد السوداني المشتعل، تتفادى اتخاذ موقف علني مع أي طرف في القتال، لمنع تأجيج التوترات، بينما تبدو الولايات المتحدة اليوم الأقل تأثيراً على طرفي الصراع، رغم خشيتها من تمدّده في منطقة القرن الأفريقي، أو محاولة روسيا استغلال الأزمة للولوج أكثر إلى المنطقة عبر ذراعها غير النظامية، شركة مرتزقة "فاغنر".
تعيد الأحداث التذكير بنزاع دارفور الذي ترك انعكاساته على معظم دول الجوار السوداني
ولم يكن ينقص مصر، على سبيل المثال، التي تتوجس من خطر الأزمة الليبية على أمنها القومي، وتعيش صداع سد النهضة الإثيوبي، وخاضت حرباً طويلة مع تنظيم "داعش" في شمال سيناء، سوى السودان الذي لها معه أيضاً مشكلات حدودية، ليكتمل قلقها. وتجد مصر نفسها تقريباً في قلب الأزمة، رغم الموقف العلني الحذر الذي تنتهجه، وتخشى كذلك من انعكاس الأزمة على موقف السودان من أزمة سدّ النهضة، أو خطر حكم "إسلامي" على حدودها.
لكن بعيداً عن تعقيدات العلاقة المصرية السودانية، والبعد العربي لاشتباكات السودان، يكمن خطر إطالة أمد الأزمة، ببعده الإنساني والعسكري والاقتصادي، في قلب منطقة القرن الأفريقي، ومع الحدود مع ليبيا، وكذلك مع دولة جنوب السودان، التي قد تكون المتضرر الأكبر، مع تشاد، إذا ما تفاقم الصراع، من جهة، أو أعاد بشكل من الأشكال إشعال منطقة دارفور، التي تعد منطقة نفوذ لـ"الدعم السريع" وقائدها المعروف بـ"حميدتي" المتحدر من هناك، والتي تخشى تشاد خصوصاً من نواياه الإقليمية التوسعية.
ارتدادات صراع النفوذ في السودان
إلى ذلك، فإن صراع النفوذ في السودان قد يرتد عكسياً على إثيوبيا، مع موجة نزوح مضادة، بعدما كانت حرب إقليم تيغراي في شمال إثيوبيا قد تسببت بتوافد عشرات آلاف النازحين الإثيوبيين إلى الحدود السودانية الإثيوبية. علماً أن الحدود السودانية نفسها هي من أكبر الملاذات للهاربين من حروب المنطقة، الذين قد يكونون ضحايا مرة أخرى للحرب التي تهدد بعدم وصول المساعدات الإنسانية إليهم، ما يفاقم من حدّة الأزمة الإنسانية في القرن الأفريقي.
فضلاً عن ذلك، فإن أي توقف لضخّ النفط من جنوب السودان، قد ينعكس أزمة مالية حادة على هذا البلد الناشئ والفقير والذي يوصف بـ"الدولة الفاشلة"، ما يهدّد منظومته الأمنية الغذائية التي قد تصاب بالضرر، مع منظومة الأمن المائي في كل المنطقة، وهي هشّة في أكثر من بلد، حيث يهدد الجفاف ملايين السكّان، فيما تعيش دول كإريتيريا وجمهورية أفريقيا الوسطى والصومال، أزمة غذائية حادة.
وخشية من أي تمدد للصراع، أو تحركات حدودية مريبة، أغلقت تشاد منذ اليوم الأول لاندلاع الاشتباكات، السبت الماضي، حدودها مع السودان "حتى إشعار آخر"، حيث يتشارك البلدان في حوالي ألف كيلومتر حدودية. ولدى تشاد، التي عاشت أيضاً حروباً بخلفيات إثنية وعرقية، توجساً من "اشتعال دارفور".
لحميدتي علاقات جيدة مع مجموعة "فاغنر" الناشطة في مناجم الذهب في شمال دارفور وفي جمهورية أفريقيا الوسطى
ويتحدر حميدتي من غرب دارفور، ولقواته المولودة من رحم قوات "الجنجويد" صولات طويلة في المنطقة. ورأت صحيفة "واشنطن بوست" في تقرير مطول أمس، عن خشية دول الجوار من انفلات المعارك في السودان، أنه إذا ما تمكنت قوات الجيش من دفع "الدفع السريع" إلى التراجع إلى دارفور، فقد يكون هؤلاء مصدر مقاتلين وسلاح لسنوات مقبلة، ما يهدد استقرار تشاد وحكم محمد إدريس ديبي.
ورأى مدير المشاريع لمنطقة القرن الأفريقي في مجموعة الأزمات الدولية، آلان بوسويل، في تصريح للصحيفة الأميركية، أنه "إذا ما استمرت هذه الحرب، فإن دارفور ستحترق"، مضيفاً أنه "كلّما امتد عمر هذه المعارك، فإننا سنرى مزيداً من الدول الخارجية التي ستبدأ بدعم أحد طرفي الحرب، ما سيجعل العملية السياسية أصعب".
ولحميدتي أيضاً علاقات جيدة مع مجموعة "فاغنر" الروسية، الناشطة في مناجم الذهب في شمال دارفور، وفي جمهورية أفريقيا الوسطى، حيث تتهمها منظمات حقوقية دولية بقتل مدنيين في مواقع المناجم، وهي منخرطة أيضاً في الصراع الليبي.
وعرضت حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس الليبية، أخيراً، على لسان وزيرة خارجيتها نجلاء المنقوش، تأدية دور وساطة لوقف النزاع في السودان، لكن هذه الحكومة لا تملك السيطرة على كافة الأراضي الليبية، لا سيما جنوب ليبيا، التي تسيطر على معظمها قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر. ولا يزال حفتر، أو السلطة الحاكمة في شرق ليبيا، المتحالفة مع مصر، تتخذ موقفاً حذراً من الصراع السوداني المستجد، ولم يعلن حفتر غلق الحدود التي تمتد مع السودان على مسافة 382 كيلومترا، علماً أن مرتزقة أفارقة ينشطون في جنوب ليبيا، ومنهم من السودان من الجنجويد، ولحميدتي نفوذ أيضاً في المنطقة.
فضلاً عن ذلك، فإن أي تأخر في حسم الصراع، قد تكون له تداعيات اجتماعية وعسكرية وأمنية تتخطى سياسة المحاور، لجهة ما قد ينجم من تنشيط لحركات الجماعات المتطرفة، والنزوح العابر للدول، وتهريب البشر، والهجرة غير النظامية، وتنشيط عمل العصابات.
(العربي الجديد)