تدرّجت ردود إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن على أحداث القدس الشرقية، من التغاضي إلى التعبير عن "القلق" ثم القلق "العميق"، عندما لم يعد بالإمكان تجاهل المواجهة. وقد تعاملت معها من زاوية أنها مسألة عنف متبادل بين الطرفين وبما يساوي ضمناً بين احتجاجات الفلسطينيين وعملية مصادرة منازلهم في منطقة الشيخ جراح وحيّ سلوان.
الخارجية في البداية تحاشت خلال المؤتمر الصحافي اليومي، الإشارة إلى عملية إخلاء المساكن التي تنوي إسرائيل القيام بها. وعندما وردت عبارة الإخلاء لمرة واحدة فقط ومن غير إدانة في بيان وزارة الخارجية الذي صدر حوالى منتصف ليل أمس على إثر استفحال الأحداث، جاء ذكرها في سياق الإشارة إلى أن "الكثير من هذه المساكن عاشت فيها عائلات فلسطينية لأجيال".
ولأن الأمر كذلك، حثت الخارجية "السلطات المعنية لمقاربة موضوع هؤلاء السكان بشيء من الشفقة والاحترام"، بدلاً من التشديد على وجوب التعاطي معهم كأصحاب حق أساسي من حقوق الإنسان التي طالما شددت واشنطن على أنها (الحقوق) تشكل ركناً رئيسياً من أركان سياستها الخارجية. لكن ليس في الحالة الإسرائيلية حيث تكتفي الإدارة بالتذكير بأهمية "اجتناب الخطوات التي تفاقم التوتر وتبعدنا عن السلام، مثل عمليات الإخلاء من المنازل والنشاط الاستيطاني وهدم البيوت والأعمال الإرهابية"، من دون ربط هذه الأعمال بالجهة التي تقوم بهذه الخطوات.
وقد حُشرَت عبارة "الإرهابية" في هذا السياق، كإشارة مبطنة إلى الاعتراض الفلسطيني المصنف في خانة "العنف الذي تمثل بالهجمات على الجنود الإسرائيليين وما تلاه من هجمات على الفلسطينيين، التي ندينها بكل ما في الكلمة من معنى". إدانة متساوية للطرفين مع دعوتهما "لممارسة ضبط النفس والعزوف عن اللغة والخطوات الاستفزازية".
لو رُجِع إلى قاموس وزارة الخارجية الأميركية المتعلق بالقضية الفلسطينية وإسرائيل، لوجدنا ذات الخطاب، بل ذات المفردات تتكرر بغرض التغطية والتمييع للتجاوزات والخروقات الإسرائيلية الفاضحة، سواء في زمن الإدارات الجمهورية أو الديمقراطية. شذّ عن القاعدة الرئيس كارتر الذي وصفها بأنها "غير شرعية"، ولو أنه مرة نأى عن هذا التصنيف الصريح خلال لقاء له مع الصحافة اليهودية الأميركية سنة 1980، عندما قال إن المستوطنات "تتعارض مع اتفاقية جنيف". أي ضمناً غير شرعية. كذلك تلفظ بذات العبارة وزير الخارجية جون كيري، وليس رئيسه أوباما. لكن لم يسبق لرئيس أو مسؤول أميركي أن وصف المستوطنات بأنها غير قانونية، لما يترتب عن ذلك من ردود ملزمة لم تكن واردة في حسابات أي إدارة.
لو جرى الرجوع إلى قاموس وزارة الخارجية الأميركية المتعلق بالقضية الفلسطينية واسرائيل، لوجدنا نفس الخطاب بل نفس المفردات تتكرر
وللتملص من الحقيقة وحماية إسرائيل وإرضائها مع مفاتيحها النافذة في واشنطن، استُخدِمَت مفردات خاوية للتعبير عن موقف اللاموقف من التمدد الاستيطاني، من نوع أنه "يعرقل" عملية السلام أو يشكل "عقبة" في طريقها أو أنه "لا يساعد" على التقدم فيها" وأن الولايات المتحدة "لا تقوى على فرض" السلام المتروك أمره "للتفاوض بين الطرفين" الفلسطيني والاسرائيلي.. إلى آخر المعزوفة التي استخدمت رفعاً للعتب وتهرباً من اتخاذ إجراءات لوقف الاستيطان ومصادرة الأراضي الفلسطينية. كان هذا الخطاب المتوارث بمثابة تواطؤ ضمني مفروض أو طوعي في معظم الأحيان. وبمقتضاه، وُضع المحتل والواقع تحت الاحتلال في كفتين متوازيتين.
إدارة بايدن لا تخرج عن هذا الخط. هي من الأساس مستقيلة عملياً من هذا الملف، برغم ما أبدته من حسن نيات. وقد تكون راغبة من حيث المبدأ، في موضوع الدولتين. لكنها ليست مستعدة لتوظيف الرأسمال السياسي المطلوب لتحقيق هذه المهمة. وعدت في أثناء الحملة الانتخابية بتصحيح المسار. لكن عندما وصلت إلى الحكم تبدلت الحسابات. أولى إشاراتها كانت تبنيها للخطوات التي اتخذها الرئيس السابق ترامب، بالنسبة إلى القدس ونقل السفارة الأميركية إليها ودعم موجة التطبيع من دون إشارة واضحة إلى مشروع ضمّ قسم من الضفة ولا إلى ضمّ هضبة الجولان. اكتفت بإعادة بعض المساعدات لمؤسسات فلسطينية ووكالة غوث اللاجئين، من دون ترجمة وعدها حتى الآن بإعادة فتح القنصلية الأميركية في القدس الشرقية ولا بفتح البعثة الفلسطينية في واشنطن.
يزعم بعض محازبي بايدن أن سلته مليئة بالمشاغل المحلية والخارجية الأهم ولا تتسع للملف الفلسطيني المعقد في الوقت الحالي. لكن هذه ذريعة لا تحجب حقيقة أن موضوع الدولتين ليس من بين أولويات بايدن الشرق أوسطية التي يتصدرها النووي الإيراني وحساباته الإقليمية، ومنها الإسرائيلية.