تحت عنوان استخلاص العبر من عملية "حارس الأسوار"، وهو المسمى الإسرائيلي الرسمي للعدوان الأخير على قطاع غزة في مايو/أيار الماضي، نشطت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، بما فيها الجيش والمخابرات أخيراً، في طرح تساؤلات عن احتمال مواجهة جبهة إضافية داخلية، قد تندلع في حال خاضت إسرائيل حرباً جديدة، سواء على الجبهة الشمالية (التي باتت تشمل في العقيدة العسكرية للجيش، كلاً من سورية ولبنان، كجبهة واحدة مترابطة) أو على الجبهة الجنوبية مع قطاع غزة.
ووفقاً لتسريبات ثم تقارير واضحة وعلنية، تبيّن أن هذه التقديرات ومحاولات استخلاص العبر هي لمواجهة سيناريوهات تتوقع اندلاع تظاهرات واحتجاجات في الداخل الفلسطيني، واحتمالات وقوع مواجهات أو نشاطات لعرقلة سير العمليات القتالية أو اللوجستية في نقل القوات والعتاد العسكري الإسرائيلي، في حال كان مسار هذه العمليات يمرّ من قلب البلدات العربية أو محاور الطرق الرئيسية.
تحريض ضد فلسطينيي الداخل
ومع أن أول من كشف عن "استعدادات" إسرائيلية في هذا السياق، هو قائد قسم التخطيط والعمليات اللوجستية في الجيش، الجنرال إيتسيك ترجمان في مقابلة مع موقع "معاريف" في الثالث عشر من الشهر الماضي، إلا أن الإشارات إلى هذه الاستعدادات أطلقت في الفضاء السياسي والإعلامي الإسرائيلي، في أوج أحداث العدوان الأخير على غزة.
حينها اندلعت مواجهات في المدن الساحلية التاريخية التي يُطلق عليها في إسرائيل مسمى المدن المختلطة، مثل اللد والرملة ويافا وعكا وحيفا، تخللها أيضاً ولا سيما في اللد ويافا، جلب مئات من غلاة المستوطنين من الضفة الغربية بتشجيع من حزب الصهيونية الدينية بقيادة بتسليئيل سموطريتش، وإيتمار بن غفير زعيم حزب "عوتصماه يهوديت"، إلى هذه المدن للمشاركة في تنفيذ الاعتداءات على فلسطينيي الداخل، تحت مسمى تثبيت السيادة والحكم الإسرائيليين.
وأسفرت هذه الاعتداءات والمواجهات عن استشهاد الفلسطيني موسى حسونة من اللد، واعتقال 2142 شخصاً، من قبل الشرطة الإسرائيلية، تبين لاحقاً أن 90 في المائة منهم كانوا من الشبان العرب من اللد والرملة وحيفا وعكا وحتى أم الفحم.
ورافقت هذه الأحداث عمليات تحريض سياسي وإعلامي، اتهمت فلسطينيي الداخل بأنهم يقوّضون السيادة الإسرائيلية، وأن بينهم عناصر وجماعات مستعدة للعمل لتنفيذ أجندات فصائل المقاومة، وهي اتهامات طاولت أيضاً الأحزاب العربية وأعضاء الكنيست العرب، من قبل رجال السياسة الإسرائيليين، بدءاً برئيس الحكومة السابق بنيامين نتنياهو، ووصولاً إلى أقصى اليمين المتطرف عبر إيتمار بن غفير.
يسود التحريض ضد الفلسطينيين في النقب، وفي الجليل بشكل خاص، بتهم فقدان الدولة السيطرة على هذه المناطق
وبموازاة هذا التحريض المباشر، يسود التحريض ضد الفلسطينيين في النقب، وفي الجليل بشكل خاص، بتهم فقدان الدولة السيطرة على هذه المناطق، في سياق يُخرج مشكلة الإجرام المنظّم الذي يعاني منه فلسطينيو الداخل ومظاهره، من السياق الجنائي إلى تهديد قومي.
ويتم ذلك عبر تقديم عمليات إطلاق نار وحوادث جنائية كدليل على فقدان الدولة سيطرتها وسيادتها على النقب والجليل، بحسب تصريحات أدلى بها وزير الإعلام الإسرائيلي، بوعز هندل، وهو من غلاة اليمين الإسرائيلي ومن مستوطني عوفرا في الضفة الغربية.
وكان الجنرال ترجمان قد كشف في مقابلته مع موقع "معاريف"، أن الجيش الإسرائيلي، وضمن استعداداته لحرب مقبلة، سيتجنّب نقل قواته وعتاده العسكري مثلاً من وادي عارة الذي تقع على جانبيه بلدات فلسطينية، تحسباً من عرقلة سير هذه الحافلات والقوات، أو رجمها بالحجارة والزجاجات الحارقة، بعدما شق الجيش طرقاً ترابية واسعة تلتف على هذه البلدات، مع التأكيد على إعداد وتخصيص قوات خاصة لتأمينها، تكون مزودة بأدوات تفريق التظاهرات مثل القنابل المسيلة للدموع والهراوات وسيارات رش المياه وغيرها.
وفي هذا السياق، جاء إقرار الكنيست الثلاثاء الماضي تعديلين في قانون خدمات الأمن، يختص الأول بإمكانية رفد مصلحة السجون بجنود أنهوا خدمتهم الإلزامية لتأمين أقسام الأسرى الفلسطينيين من دون حاجة لتأهيل إضافي (تعديل رقم 9)، والتعديل رقم 7 الذي يسمح أيضاً باستيعاب جنود أنهوا الخدمة العسكرية ونقل قوات من حرس الحدود لصالح عمليات تأمين الوضع الداخلي في حالات الطوارئ.
ويكمل ذلك عملياً دائرة الاستعدادات الإسرائيلية، التي تغني الحكومة عن تشريعات في ساعة الحرب لإدخال قوات عسكرية نظامية إلى قلب البلدات والمدن ككل، والعربية الفلسطينية في الداخل على نحو خاص، لأن قانون الجيش لا يسمح رسمياً بمثل ذلك، باستثناء قوات حرس الحدود التي يصنف عناصرها بأنهم أفراد شرطة.
استعدادات إسرائيلية تغني الحكومة عن تشريعات في ساعة الحرب لإدخال قوات عسكرية نظامية إلى قلب البلدات والمدن
وتترجم هذه التعديلات وتصريحات ترجمان، طبيعة الخطط والخطوات التي كان يتم التطرق إليها بشكل ضبابي في وسائل الإعلام الإسرائيلية منذ العدوان الأخير تحت عنوان استخلاص العبر من أحداث "حارس السوار"، لضمان عدم تكرار ما حدث في اللد والرملة ويافا وعكا وحيفا وبلدات فلسطينية أخرى، وتأمين أدوات قمعية لمواجهة أي نشاطات قد تندلع في الداخل الفلسطيني مناهضة لحرب مقبلة.
"حرس قومي" إسرائيلي للانتشار في أراضي 48
هذه الاستعدادات التي توحي بها تعديلات قانون الخدمة الأمنية، وتصريحات ترجمان، استُتبعت بالإعلان مساء الثلاثاء، أنّ المفتش العام للشرطة الإسرائيلي، يعقوب شبتاي، سيرفع قريباً لرئيس الحكومة نفتالي بينت، مقترحاً لتحويل حرس الحدود، إلى "حرس قومي" مثل الحرس القومي في الولايات المتحدة.
وبذلك سيكون من وظائف هذا الحرس أيضاً ومن دون الحاجة لتشريعات أو أوامر استثنائية، تأمين والانتشار داخل المدن والبلدات في أراضي 48، وتثبيت النظام العام، من دون اعتبار عناصر الحرس القومي جنوداً نظاميين. وسيقوم عناصر هذا الجهاز بمواجهة أي تظاهرات أو نشاطات ومواجهات تندلع في الداخل الفلسطيني، وعلى نحو خاص أيضاً في المدن التي بات يطلق عليها المدن المختلطة.
كما كشف موقع "معاريف" الثلاثاء الماضي، أن هذه العمليات، وتغيير وظائف عناصر شرطة حرس الحدود والشرطة الإسرائيلية العادية في المدن المذكورة، قد بدأت عملياً في مركز شرطة اللد، التي أنهى عناصرها، كجزء من "استخلاص العبر" في عدوان "حارس الأسوار"، تدريبات "لمكافحة الإرهاب"، علماً بأن هذه المهام متروكة حتى الآن للوحدة الخاصة لمكافحة الإرهاب، وليس للشرطة العادية.
سيكون من وظائف "الحرس القومي" ومن دون الحاجة لتشريعات أو أوامر استثنائية، تأمين والانتشار داخل المدن والبلدات في أراضي 48
وذكر تقرير الموقع أن هذه التدريبات ستُفرض أيضاً على شرطة يافا والرملة، وأنه سيتم تخصيص 350 عنصراً في الشرطة لهذه المهام في المدن الثلاث المذكورة. وكانت القناة 13 قد بثت قبل نحو عشرة أيام تقريراً عن تنظيم إرهابي يهودي جديد في اللد والرملة ويافا، أعلن نشطاء فيه عزمهم على تنفيذ عمليات ضد الفلسطينيين في هذه المدن، ووصف أحد أعضاء هذا التنظيم هؤلاء الفلسطينيين بأنهم "هنود حمر"، من دون أن تحرك الشرطة ساكناً، مكتفية بتحذير نشطاء هذا التنظيم الذي أطلق عليه اسم "لافي" ويقوده زعيم حركة لهافا، بنتسي غوبشتاين، وينتمي عدد من نشطائه لحزب "عوتصماه يهوديت" بقيادة بن غفير الذي حمّله قائد الشرطة الإسرائيلية مسؤولية تفجير الأحداث في حي الشيخ جراح وباب العامود في القدس المحتلة في مايو الماضي.
كل هذه التطورات المتلاحقة، مع تمرير قانون بالقراءة الأولى الثلاثاء أيضاً يتيح توسيع صلاحيات الشرطة في مداهمة البيوت للتفتيش والاعتقال ومصادرة كاميرات الحراسة، من دون إذن قضائي، تنذر بمفاقمة التوتر بين فلسطينيي الداخل وبين المؤسسة الإسرائيلية الأمنية والعسكرية.
ويخالف ذلك الانطباع الذي تتركه الساحة الحزبية والسياسية، المتمثلة بوجود حزب عربي (القائمة الموحدة بقيادة منصور عباس) في الائتلاف الحكومي الحالي، وتصويت أعضائه لجانب التعديلين في قانون الخدمة المدنية وقانون توسيع صلاحيات الشرطة في المداهمات والتفتيش، وقائمة أخرى في المعارضة هي القائمة المشتركة التي تضم ثلاثة أحزاب عربية: التجمع الوطني، الجبهة الديمقراطية، والحركة العربية للتغيير، ينصب نشاطها في العمل السياسي ولعبة المعارضة والائتلاف، فيما تقوم التطورات الأخيرة على إعادة جو من القمع السلطوي والحكم العسكري كالذي كان مفروضاً على فلسطينيي الداخل حتى العام 1966.
ولا يمكن عزل هذه التطورات عن مجموعة قوانين سياسية و"مدنية" لتقليص حيز العمل السياسي والاحتجاج لفلسطينيي الداخل، وقرارات مختلفة لجأت إليها الحكومات الإسرائيلية منذ هبّة القدس والأقصى في أكتوبر/تشرين الأول 2000، وشملت ملاحقة أحزاب وحركات سياسية، مثل ملاحقة حزب التجمع الوطني، وملاحقة واعتقال قيادات في حركة أبناء البلد، وحظر الحركة الإسلامية الشمالية بقيادة الشيخ رائد صلاح عام 2015 وكل جمعياتها، وضرب نشاطات الرباط في المسجد الأقصى، ومحاولات تكثيف تجنيد شبان عرب للجيش والشرطة.
وبموازاة ذلك، سنّت سلسلة قوانين عنصرية إضافية، بدءاً من قانون منع إحياء ذكرى النكبة، وقانون لجان القبول الذي يمنع العرب من السكن في بلدات يهودية جديدة تسمى "أهلية"، وقانون القومية اليهودية الذي يحدد أن إسرائيل دولة الشعب اليهودي، ولا يمنح أي حقوق قومية أو جماعية لفلسطينيي الداخل، ويكتفي بحصر حقوقهم بحقوق مدنية فردية، وفي هذا السياق فقط يكون اندماجهم في مختلف قطاعات الدولة ودوائرها واقتصادها.