*****************************
وتألفت القوة من أفراد تنكّروا في زيّ نسوي، وفي سيارة مدنية، يبدو أنها مُجهزة لعمليات استخبارية، لتنفيذ عملية عسكرية يمكن أن تتطور إلى عملية خطف. لكنّ عناصر المقاومة الفلسطينية، المرابطين في المنطقة، تنبهوا مبكراً لهذه السيارة "المشبوهة" فأوقفوها، وما هي إلا دقائق حتى اشتبك المقاومون مع عناصر القوة الإسرائيلية الخاصة، وأردوا أحد قادتها قتيلاً، فيما استشهد عنصران من كتائب القسام، الذراع العسكرية لحركة "حماس"، أحدهما القائد الميداني نور الدين بركة.
والمنطقة التي توغلت منها القوة الإسرائيلية مكشوفة، ومترابطة مع الشريط الحدودي ومزارع الخضار. واستمرت العملية أكثر من ساعة، استخدمت فيها قوات الاحتلال قوة نارية ضخمة، بهدف طمس الكثير من الحقائق، خصوصاً من خلال استهداف السيارة التي تركتها القوة الخاصة خلفها عقب تداعي المقاومة ولحاقها بالقوة، ما أدى إلى سقوط 5 شهداء آخرين. ويبدو أنّ الاحتلال سعى من استخدامه القوة المفرطة إلى منع حدوث أي عملية أسر جنود، إلى جانب تأمين غطاء ناري للقوة المتوغلة لإخراجها من "عش الدبابير" الذي دخلته، وكانت تعتقد أنها ستخرج منه من دون أن يتابعها أحد. لكن تبعات هذه العملية ستظل قائمة إلى حين انتهاء التداعيات المترتبة عليها، في ظل ما ظهر من جنوح إسرائيلي إلى التهدئة في ساحة غزة. والعملية الإسرائيلية ستُحرج كل الوسطاء الذين يتدخلون لخفض التصعيد والتوتر ويعملون على ضمان استمرار الهدوء، مقابل التسهيلات والرفع الجزئي للحصار المضروب على غزة منذ أكثر من 12 سنة.
وفي التفاصيل التي أعلنتها كتائب القسام، يتبين أنّ الهدف الأساسي للقوة الإسرائيلية المتوغلة كان "خلط الأوراق في قطاع غزة، ومباغتة المقاومة، وتسجيل إنجاز نوعي"، وفي إشارة ربما إلى أنّ القوة الإسرائيلية كانت تريد القيام بعملية خطف أو اغتيال بشكل هادئ، لإرباك الساحة الداخلية وتشتيت المقاومة، وجعلها تبحث عن فاعلين داخليين مفترضين للعملية. ولعل كتائب القسام، في بيانها التفصيلي عن العملية، أرادت التأكيد على أنّ الهدوء المفترض في غزة لن يكون على حساب المقاومة التي لن تركن إليه وتتغاضى عما يجري. وأعلنت، في البيان، عن إفشال مخطط لتنفيذ عملية من "العيار الثقيل" لتوجيه ضربة قاسية ضد المقاومة داخل قطاع غزة، بعدما "ظن (الاحتلال) أنّ المقاومة ركنت إلى نواياه المعلنة وسياساته التضليلية المعروفة".
وفي أعقاب العملية، ضربت المقاومة طوقاً على المنطقة، وتبع ذلك طوق أمني حكومي على كافة مناطق القطاع، لمتابعة مجريات الوضع، والتدقيق في هوية كل من يتحرك في الشوارع في الساعات المتأخرة من الليل. وهذا الأمر ذكّر الغزيين بما جرى حين اغتيل القيادي في كتائب القسام، مازن فقهاء، في مارس/آذار 2017، إذ فرض الأمن وقتها طوقاً قاسياً لملاحقة الجناة قبل أن يصل إليهم. وأبقت المقاومة بعض الغموض على تفاصيل العملية، كما أبقت خيارات الرد عليها مفتوحة، في انتظار ما قد ينتج عن الاتصالات التي تجري حالياً لمنع أي تصعيد، ولضمان العودة إلى مربع الهدوء، لكن ذلك دونه عقبات كثيرة هذه الأيام. وحمّلت غرفة العمليات المشتركة لفصائل المقاومة الفلسطينية، في بيان مشترك، أمس الإثنين، الاحتلال الإسرائيلي، المسؤولية الكاملة عن عملية التسلل، أول من أمس. وأكدت الغرفة، التي تضم مختلف الأذرع العسكرية التابعة للفصائل الفلسطينية في غزة، أن "المقاومة قادرة على لجم العدو والحفاظ على أمانة الشهداء والثأر لدمائهم". وأضافت أن "إفشال المقاومة لهذه العملية والتصدي للعدوان مؤشر جديد على أن المقاومة هي محط آمال الشعب وحامية أرضه والأمينة على قضيته ومستقبله"، لافتة إلى أن "الجهد الموحد والمشترك في إفشال العملية هو رسالة قوة وتحد وإصرار أمام الاحتلال، ورسالة واضحة بأن المقاومة يقظة ومتأهبة وجاهزة للرد على أي عدوان وتلقين العدو دروساً قاسية".
وقال الكاتب والمحلل السياسي إبراهيم المدهون، لـ"العربي الجديد"، إنّ "ما جرى حدث استخباراتي من قبل الاحتلال الذي استغل حالة الهدوء، إذ ظن أنه ستكون هناك حالة من التراخي والثغرات الأمنية في ظل التفاهمات الأخيرة بين الفصائل والاحتلال الإسرائيلي". وأضاف "التعامل المباشر والسريع من قبل المقاومين الفلسطينيين أفشل العملية وأربك الحسابات الإسرائيلية، خصوصاً أنه من الواضح حجم التعقيدات التي تأخذ سيناريوهات وأهدافاً متنوعة"، وفق المدهون، الذي ينبه إلى "أننا كنا أمام عملية معقدة وخطيرة مثل عملية اغتيال صامت كالذي حدث مع الشهيد مازن فقهاء من دون ترك بصمات واضحة، أو زراعة أجهزة تنصت، أو عملية استكشاف أنفاق أو خطف بعض الشخصيات المحورية، من أجل إحداث إرباك داخلي". وعن الاحتمالات التي قد تشهدها الساعات والأيام المقبلة، قال المدهون إن السيناريوهات التي تلت عملية التسلل تتمثل في إمكانية تنفيذ المقاومة لعملية أو التوجه لمواجهة عبر تصعيد محدود أو مواجهة شاملة، أو استغلال المقاومة للحدث من أجل تدفيع الاحتلال الإسرائيلي ثمناً سياسياً كبيراً يرتبط بكسر الحصار، وهو الأرجح. وقال "ستحرج عملية التسلل الإسرائيلية التي أحبطتها المقاومة الوسطاء في ملف التهدئة وكسر الحصار وستدفعهم للتحرك السريع، وما جرى فرصة عليهم استغلالها لتدفيع الاحتلال الثمن، كما فعل الملك الأردني الراحل الحسين بن طلال عند محاولة اغتيال رئيس المكتب السياسي السابق لحركة حماس، خالد مشعل، في الأردن".
وفي السياق ذاته، أشار المحلل السياسي طلال عوكل، في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى أنّه "من حيث المبدأ لا يمكن الثقة في الاحتلال الإسرائيلي والاطمئنان له"، في إشارة إلى حالة الارتباك في الرواية الإسرائيلية التي تبعت عملية التسلل التي نفذتها القوة الإسرائيلية الخاصة شرق خان يونس، جنوبي القطاع. وأكد عوكل أن أحد أهم النتائج التي تبعت العملية هي حالة الاختبار لعناصر المقاومة ومدى جهوزيتهم للتعامل مع مثل هذه الأحداث، خصوصاً أن ما جرى هو عدوان إسرائيلي واضح على القطاع، موضحاً أنّ إسرائيل دفعت ثمن ارتدادات هذه العملية من خلال مقتل أحد الضباط المنفذين وإصابة آخر، إلى جانب اعترافها المسبق بالمبادرة في تنفيذ العملية". وتبدو فرصة الوصول إلى مواجهة شاملة بين غزة والاحتلال مستبعدة في هذا التوقيت، وفق عوكل، الذي لفت إلى أنّ الساعات المقبلة ستشهد العودة إلى حالة الانضباط، وستحاول المقاومة أن تستغل ما جرى من أجل تدفيع الاحتلال الإسرائيلي ثمناً سياسياً يرتبط بكسر الحصار وتحسين شروط التفاهمات المرتبطة بحالة التهدئة في غزة. ولفت إلى أن إحدى أهم الرسائل التي أوصلتها إسرائيل عبر هذه العملية الفاشلة أنها تعيش حالة صراع، وأنه ما زال مفتوحاً، وأنه لا يمكن أن تتسامح مع المقاومة الفلسطينية وكوادرها وسلاحها حتى لو تم التوصل إلى تفاهمات بوقف إطلاق النار.