محكمة العدل هي الجهاز القضائي الرئيسي التابع للأمم المتحدة
رأي المحكمة غير ملزم لكنه يعكس تفسير قواعد القانون الدولي
تنطلق غدًا الاثنين أولى جلسات المرافعات الشفهية التي تعقدها محكمة العدل الدولية في لاهاي، لإعطاء رأي استشاري حول "الممارسات الإسرائيليّة التي تمس حقوق الإنسان للشعب الفلسطيني في الأرض الفلسطينيّة المحتلة، بما فيها القدس الشرقيّة"، بعد قرار من الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة في 30 ديسمبر/ كانون الأول 2022، (القرار 77/247)، بمشاركة 52 دولة وثلاث منظمات إقليميّة، وهو أعلى رقم لمشاركة دول في محكمة العدل الدولية منذ إنشائها عام 1954.
وتنعقد الجلسات الستّة في محكمة العدل الدولية بشكل متتال من يوم الاثنين 19 فبراير/شباط حتى يوم الاثنين من الأسبوع التالي، وتُقدّم كل دولة مداخلة شفهيّة مدّتها نصف ساعة، بشأن وجهة نظرها حول المسائل الإجرائيّة والجوهريّة الناشئة، بهدف أن تُصدر المحكمة لاحقًا رأيًّا استشاريًّا بشأن المسائل التالية:
- ما العواقب القانونيّة الناشئة عن انتهاك إسرائيل المستمر حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، نتيجة لاحتلالها الطويل الأمد واستيطانها وضمها الأرض الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، بما في ذلك التدابير الرامية إلى تغيير التركيبة السكانيّة، وتكوين مدينة القدس المقدسة وطابعها ووضعها، ومن اعتمادها التشريعات والتدابير التمييزية ذات الصلة؟
- كيف تؤثر سياسات وممارسات إسرائيل المشار إليها على الوضع القانوني للاحتلال، وما التبعات القانونيّة التي تنشأ بالنسبة لجميع الدول والأمم المتحدة من هذا الوضع؟
57 مذكرة غالبيتها تعترف باختصاص محكمة العدل الدولية
ولفهم أوسع لحيثيات هذه المحكمة، أجرى "العربي الجديد" مقابلة مع الأستاذة المشاركة في قسم القانون الدولي لحقوق الإنسان في جامعة نبريجا الإسبانيّة، سونيا بولس، التي قالت: "محكمة العدل الدولية هي الجهاز القضائي الرئيسي التابع للأمم المتحدة. أنشئت بموجب ميثاق الأمم المتحدة في عام 1945. وللمحكمة دور مزدوج: أولاً الفصل، وفقاً للقانون الدولي، من خلال أحكام لها قوة ملزمة وغير قابلة للاستئناف بالنسبة للأطراف المعنية في المنازعات القانونية المحالة إليها من قبل الأطراف المعنية؛ وثانياً، تقديم آراء استشاريّة بشأن المسائل القانونيّة التي تحيلها إليها أجهزة الأمم المتحدة ووكالاتها المرخص لها".
وأضافت "في يناير 2023، أصدر مسجل المحكمة إشعارًا بطلب استصدار رأي استشاري إلى جميع الدول التي يحق لها المثول أمام محكمة العدل الدولية، عملاً بالفقرة 1 من المادة 66 من النظام الأساسي للمحكمة. وقرر المسجل أن الأمم المتحدة والدول الأعضاء، فضلاً عن دولة فلسطين المراقبة، من المرجح أن تكون قادرة على تقديم معلومات عن الأسئلة المقدمة إلى المحكمة".
وأشارت بولس إلى تقديم 57 مذكرة مكتوبة غير علنية للمحكمة، وهو "رقم قياسي، إذ لن تنشر المحكمة البيانات المكتوبة حتى بدء جلسات الاستماع العامة، ولكن، وفقًا لصحيفة "لوموند"، فإن أغلبية كبيرة من المذكرات الـ57 تعترف باختصاص محكمة العدل الدولية في إصدار رأي بشأن القضايا المثارة؛ فقط حوالي 10 مذكرات أو نحو ذلك تعترض على الإحالة إلى المحكمة".
ولفتت بولس إلى أنه "من السهل تخمين موقف الدول والمنظمات الإقليميّة المعنية بالنظر إلى سجلها السابق بشأن فلسطين. أما بالنسبة لجلسة الاستماع، فقد أعربت اثنتان وخمسون دولة وثلاث منظمات دوليّة عن اعتزامها المشاركة في الإجراءات الشفهية أمام المحكمة. وتعكس المشاركة الواسعة في جلسات الاستماع والمذكرات المكتوبة العديدة الزخم العالمي المتزايد لمعالجة التقاعس المستمر منذ عقود في ضمان احترام القانون الدولي والفشل في حماية حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير".
أهمية الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية
من المعروف أن الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية ليس ملزمًا قانونيًّا، لكنه بحسب بولس "يعكس تفسير قواعد القانون الدولي من قبل أعلى محكمة دوليّة. ولذلك، فإنه يتمتع بسلطة أخلاقيّة وقانونيّة كبيرة، ويمكن أن يلعب دورًا محوريًّا في إضفاء الشرعيّة أو نزع الشرعيّة عن المواقف السياسيّة لأغلبية أعضاء الأمم المتحدة. ومن الممكن أن يصبح في النهاية جزءًا من القانون الدولي العرفي، وهو ملزم قانونًا لجميع الدول".
ويذكر في هذا السياق إصدار محكمة العدل الدولية عام 2004 رأيًا استشاريًّا يخص فلسطين، وهو القرار المتعلق بجدار الفصل العنصري الذي بناه الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربيّة المحتلّة، والذي أقر بعدم قانونيّة الجدار والدعوة إلى إزالته، إلا أن هذا الرأي الاستشاري، بحسب بولس، يختلف بشكل ملحوظ عن الرأي الاستشاري بشأن الجدار "لأنه يركز على الاحتلال نفسه ككل".
وأشارت بولس إلى أنه في الآونة الأخيرة "هناك عدد متزايد من التقارير القانونيّة التي تعكس تحولًا براديغماتيًّا بشأن فلسطين/ إسرائيل والتي تُعرّف النظام الإسرائيلي بأنه نظام فصل عنصري. بينما امتنعت الجمعية العامة للأمم المتحدة عن طلب رأي قانوني مباشر بشأن نظام الفصل العنصري الإسرائيلي، والذي أقرّ بوجوده المقرر الخاص السابق للأمم المتحدة مايكل لينك، فإن بعض الدول ستتناول بالتأكيد سياسات إسرائيل في الأراضي المحتلة كجزء من مناقشة أوسع حول التشريعات والتدابير التمييزيّة التي تفرضها إسرائيل والمتسقة مع تعريف الفصل العنصري".
وأضافت "تتمتع براديغما الفصل العنصري بميزة توفير إطار تحليلي أكثر شموليّة، بمعنى أنها لا تعالج الانتهاكات المتكررة والمنهجية للقانون الدولي بمعزل عن غيرها، بل تحاول التركيز على أهدافها وغرضها الأساسي المشترك".
وتابعت بولس "تاريخيًّا، يجيز قانون الاحتلال المؤقت حتى نهاية الأعمال القتاليّة، وهو ما لا يلغي المبادئ الأساسية الأوسع للقانون الدولي، مثل حق تقرير المصير للشعوب وحظر ضم الأراضي المحتلة. عندما يتصرف الاحتلال كصاحب سيادة في الأراضي المحتلة، من خلال حرمان الشعب المحتل من حق تقرير المصير ومن خلال ضم أراضيه، فيمكن القول إنه غير قانوني ككل. لذا، من المرجح أن تجادل العديد من الدول المشاركة أن احتلال إسرائيل المطول للأراضي الفلسطينية غير قانوني، لأنه يتعارض مع حق تقرير المصير للشعوب".
وأكدت بولس أن المجتمع الدولي "اعترف بحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير مرارًا وتكرارًا، بما في ذلك في الرأي الاستشاري لعام 2004 بشأن العواقب القانونيّة لبناء الجدار. ومن المتوقع أيضًا أن تتم مهاجمة الاحتلال باعتباره غير قانوني لأنه يتعارض مع قانون استخدام القوة بين الدول، والذي يتطلب غرضًا قانونيًّا كالدفاع عن النفس ضد هجوم مسلح فعلي أو وشيك من قبل دولة أخرى، وبسبب عدم الامتثال للمتطلبات الصارمة المتمثلة في الضرورة والتناسب فيما يتعلق بأي تدابير يجري اتخاذها لصد الهجوم المسلح، بما في ذلك احتلال الأراضي".
وقالت بولس إن إسرائيل أصرّت في الماضي "على أن احتلالها للأراضي الفلسطينيّة هو مؤقت حتى التوصل إلى اتفاق عن طريق المفاوضات مع الفلسطينيين. لكن إنشاء المستوطنات الإسرائيليّة في الأراضي المحتلة لم يترك مجالاً للشك في أن هذا الموقف مخادع. بل إن حكومة نتنياهو الحالية أعلنت أن اليهود لهم حقوق حصريّة في تقرير المصير في فلسطين التاريخيّة، وتعهدت بتعزيز السياسات التي وُصفت بأنها سياسات ضم فعليّة. كل هذا سيدعم الموقف القانوني للدول التي ستدعي أن الاحتلال برمته (وليس فقط بعض أو أغلب ممارسته) هو غير قانوني".
خطوات أمام الفلسطينيين
أمّا عن الخطوات التي يُمكن فعلها في حال صدر القرار لصالح الفلسطينيين وضد الاحتلال، فقالت بولس "هذا يتعلق بفحوى الرأي الصادر عن المحكمة. في عام 1970، طُلب من المحكمة إصدار رأي استشاري بشأن العواقب القانونيّة لاستمرار وجود جنوب أفريقيا في ناميبيا (جنوب غرب أفريقيا). بعد أن تبين أن جنوب أفريقيا فشلت في ضمان رفاهية وأمن السكان الأصليين في ناميبيا، أنهت الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1966 انتداب جنوب أفريقيا وأعلنت أنها ليس لها الحق في إدارة الإقليم".
وتابعت "في عام 1969، دعا مجلس الأمن جنوب أفريقيا إلى سحب إدارتها، التي أشار إليها باسم (الاحتلال)، وفي عام 1970 أعلن أن (الوجود المستمر) لجنوب أفريقيا في ناميبيا غير قانوني، في رأيها الاستشاري رأت محكمة العدل الدولية أنه في غياب انتداب صالح، ليس لدى جنوب أفريقيا أي أساس قانوني لاستمرار وجودها في ناميبيا، وبالتالي فهي ملزمة بالانسحاب غير المشروط من الإقليم".
وأضافت "عندما تفشل دولة ما بشكل صارخ أو منهجي في الوفاء بالتزام ناشئ عن قاعدة قطعية، مثل الحق في تقرير المصير للشعوب، فإن الدول الأخرى ملزمة بوضع حد لهذا الانتهاك، بما في ذلك عدم الاعتراف بهذا الوضع، أو تقديم العون أو المساعدة في الحفاظ عليه. وفي حالة ناميبيا، كانت الدول ملزمة بعدم الاعتراف بشرعية مطالبة جنوب أفريقيا بالملكية شبه السياديّة على الإقليم، والامتناع عن الدخول في تعاملات اقتصاديّة وغيرها من المعاملات مع جنوب أفريقيا، الأمر الذي قد يرّسخ سلطة جنوب أفريقيا على ناميبيا".
ولفتت بولس إلى تشابه الاحتلال العسكري والانتداب من حيث "إن كلاهما إدارات إقليميّة، ويفترض أنهما مؤقتتان، وكلاهما يفرض التزامات على المسؤول لضمان رفاهية وأمن السكان المحليين"، مضيفة إلى أنه "غني عن القول إن محكمة العدل الدولية خلصت، في رأيها بشأن الجدار، إلى أن بناء الجدار في الأراضي المحتلة غير قانوني، لأن جدار الفصل والنظام المرتبط به يخلقان "أمراً واقعاً" على الأرض يمكن أن يصبح بمثابة ضم فعلي. وشددت على واجب الدول بعدم الاعتراف بالوضع غير القانوني الناجم عن بناء الجدار، أو تقديم المساعدة لترسيخه".
وأشارت بولس إلى أنه في حال توصلت محكمة العدل الدولية إلى نتيجة مفادها "أن الاحتلال الإسرائيلي ككل غير قانوني كما ذكرنا سابقًا، فهذا يعني أن زوال الاحتلال من وجهة نظر قانونية يجب أن يكون فوريًا ولا يجوز اشتراطه بالمفاوضات، كما تدعي الدول الداعمة لإسرائيل".
وتابعت "لتسريع إنهاء الاحتلال المحكمة يمكنها إصدار توصية مماثلة لتلك التي صدرت في قضية ناميبيا، وهذا يمكن أن يفتح الباب أمام إجراءات سياسيّة وقانونيّة مختلفة، ويمكن أن يكون بمثابة أساس لمطالبة الدول اتخاذ إجراءات ملموسة، مثل الامتناع عن الدخول في تعاملات اقتصاديّة وغيرها من التعاملات مع إسرائيل، أو اتخاذ إجراءات قانونيّة ضد الدول أو الشركات التي تفشل في الوفاء بالتزاماتها بعدم الاعتراف، أو تقديم المساعدة للأوضاع غير القانونيّة الناتجة عن حرمان الشعب الفلسطيني من الحق في تقرير مصيره".
وخلصت بولس إلى القول "إذا اعترفت المحكمة بأن الوضع في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 67 يرقى إلى مستوى الجرائم الدوليّة المتمثلة في الفصل العنصري أو الاضطهاد كجريمة ضد الإنسانيّة، فسيكون هذا أمرًا حاسمًا للضغط على المحكمة الجنائيّة الدوليّة للمضي قدمًا في تحقيقاتها".