بين رؤية البعثة الأممية في ليبيا للحلّ وخطتها الأخيرة لإجراء الانتخابات التي كشف عنها المبعوث الأممي عبد الله باتيلي، وبين مداولات مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، تسارعت الأحداث السياسية في ليبيا وتشابكت خلال الأيام الأخيرة، بشكل يصعب معه التكهن بمصير الآليات القانونية والدستورية الخاصة بالانتخابات الرئاسية والبرلمانية المؤجلة منذ ديسمبر/كانون الأول 2021.
وعلى وقع استمرار عدم توافق مجلسي النواب والدولة على هذه القواعد، وضبابية الطريق نحو صناديق الاقتراع، فضلاً عن الانقسام بين حكومتين، أبدى أعضاء مجلس الأمن الدولي ترحيبهم أخيراً بمبادرة جديدة طرحها المبعوث الأممي، في إحاطته أمام المجلس حول الوضع في ليبيا، يوم الإثنين الماضي.
وتقوم مبادرة باتيلي على تشكيل لجنة توجيهية من مختلف الأطياف الليبية، تشرف على الإطار الدستوري والقانوني للانتخابات، على أن يعتمد باتيلي مخرجاتها من دون المجلسين.
وقال باتيلي في مبادرته إنها تقضي بتشكيل لجنة حوار سياسي جديدة تجمع كل أصحاب المصلحة، والمؤسسات، والشخصيات، والقادة القبليين، والأطراف ذات المصلحة، والنساء، والشباب، وتكون مهمتها الوصول إلى الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، من خلال تيسير اعتماد الإطار القانوني وخريطة الطريق المحددة وفق جدول زمني لعقد الانتخابات في 2023، من دون أن يكشف الكثير عن تفاصيل المبادرة واللجنة.
شاب تمرير المجلس الأعلى للدولة للتعديل الدستوري الكثير من الشكوك حول قانونية الجلسة
واستند باتيلي في مبادرته إلى المادة 64 من الاتفاق السياسي الليبي لعام 2015 (اتفاق الصخيرات)، وقال إنها مبنية على الاتفاقات التي توصل إليها الأطراف الليبيون في السابق، وتحدثت تقارير على أن اللجنة ستكون مؤلفة من 40 عضواً.
مجلس الدولة يقرّ التعديل الدستوري
وفي ردّ فعل سريع، أقر مجلس الدولة، الخميس الماضي، تعديلاً دستورياً كان قد أصدره مجلس النواب مطلع شهر فبراير/شباط الماضي (التعديل 13 على الإعلان الدستوري عام 2011)، بعد أربع محاولات فاشلة له لإقراره، بسبب انقسام أعضائه.
وعلى الرغم من أن طريقة إقرار الأعلى للدولة للتعديل، الذي يتضمن أساساً لتنظيم الانتخابات دون الدخول في التفاصيل الخلافية، مثل شروط الترشح للرئاسة، شابتها ريبة وشكوك في قانونية جلسة التصويت، إلا أن رئاسة المجلس أكدت قانونية الجلسة وانتقلت إلى الخطوة التالية الخاصة بتشكيل لجان مشتركة مع مجلس النواب لوضع القوانين الانتخابية بناء على التعديل الدستوري.
ويطرح هذا التطور أسئلة حول ما إذا كان المجلسان قد قطعا الطريق فعلاً على المخطط الأممي، الذي يبدو أن الولايات المتحدة وحلفاءها يدعمونه.
وبرز أمس السبت، تعليق لرئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة على التعديل الدستوري، إذ قال في "ملتقى أسرى التحرير" في طرابلس، إن أي قاعدة دستورية للانتخابات يجب أن تطرح لاستفتاء شعبي، ولن نقبل بعودة الحكم العسكري مجدداً"، مشدداً على أن "أي عسكري يريد الحكم يجب أن يخلع بدلته العسكرية قبل دخول الانتخابات".
ومباشرة بعد إعلان تمرير التعديل الدستوري، بادرت السفارة الأميركية في ليبيا إلى حثّ القادة الليبيين الرئيسيين على التعاطي مع مخطط باتيلي "بطريقة بنّاءة". وقالت السفارة عبر حسابها في "تويتر"، مساء الخميس، إن المقترح الأممي "يُحفّز الجسم السياسي الليبي، وسوف يبني على التقدم الذي أحرزه المجلسان في التوصل إلى قاعدة قانونية للانتخابات"، معتبرة هذه اللحظة "فرصة للقادة الليبيين من أجل إظهار أنهم فعلاً متفانون في خدمة احتياجات الشعب الليبي".
بدورها، أكدت بريطانيا عبر سفارتها، دعم خطة باتيلي لدعوة الأطراف المعنية الليبية للاتفاق على خطوات إجراء الانتخابات، مشددة على أهمية أن يحترم القادة الليبيون ضرورات التسوية، وأن يتفق الجميع على شروط الانتخابات واحترام النتائج.
باتيلي في مواجهة "الإحراج"
وحول حظوظ مبادرة باتيلي في النجاح، رأى أستاذ العلاقات السياسية الدولية في جامعة شمال تكساس، إبراهيم هيبة، أن المجلسين وضعا باتفاقهما، المبعوث الأممي في "موقف محرج"، خصوصاً أنه تحدث خلال إحاطته عن عدم توافقهما وتعذّر تمرير التعديل الدستوري من قبل مجلس الدولة، واستدل على ذلك بانسداد المشهد، وضرورة خلق حلول بديلة طالما لوّح بها سابقاً.
الدول الغربية محرجة في التعامل مع الأجسام السياسية الحالية في ليبيا، بسبب تشتتها وضعفها
وتوقع هيبة، في حديث مع "العربي الجديد"، أن يتم السير "بما توصل إليه المجلسان من اتفاق"، مرجّحاً "ألا يتم تشكيل اللجنة التوجيهية"، أو أن تُشكّل كلجنة داعمة للجنة المجلسين التي ستُعنى بالقوانين المُكملة للانتخابات بحسب مقتضيات التعديل الدستوري الذي قام به المجلسان".
ويعني ذلك، بحسب رأيه، أن مبادرة باتيلي كانت "سلاحاً للبعثة والقوى الداعمة للانتخابات، في حال عدم جدية المجلسين في الوصول إلى توافق". إلا أن هيبة لم ينف وجود مخاوف من أن يحاول المجلسان الالتفاف على مبادرة باتيلي، بما يدفع إلى إطالة الأزمة.
ورأى أستاذ العلاقات السياسية الدولية أن الدول الغربية "محرجة في التعامل مع الأجسام السياسية الحالية، بسبب تشتتها وضعفها عن التعامل مع الملفات الكبيرة المطروحة في المنطقة، لهذا تجد تجديد الشرعية في نظرها ضرورة". ولفت إلى أن المجلسين، وكل القوى السياسية الحالية "يخشون الإقصاء من المشهد السياسي، ويبحثون عن ضمان مكان في أي سيناريو مقبل".
وتبعاً لمواد التعديل، ووفقاً لمكتب الإعلام في مجلس الدولة على موقع "فيسبوك"، فإنه ستجري مباشرة تسمية لجنة من 12 عضواً سيتم اختيارهم مناصفة بين المجلسين (النواب والأعلى للدولة) من أجل التداول حول قوانين الانتخابات وشروط الترشح التي لم يبت فيها التعديل. ومن هنا، رأى هيبة أن قوانين الانتخابات تمثل "تحدياً كبيراً"، بالإضافة إلى أهمية "تشكيل حكومة موحدة" في هذه المرحلة.
وقال هيبة عن ذلك: "هناك معرقلات قد تحول دون توحيد السلطة التنفيذية، وفي الجهة الأخرى سيعيق الانقسام الحكومي الانتخابات، ولا يمكن التعويل على رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة الذي لا يسيطر على كامل البلاد، وله مصلحة في البقاء، والانتخابات لا تخدمه، مع أنه أحد المرشحين لسباق الرئاسة في السابق، لكن شعبيته ليست كما يصورها الإعلام".
ومع إقرار هيبة بأن الانتخابات عموماً تُعتبر مصلحة للولايات المتحدة والغرب عموماً، إلا أن التركيز فيها قد يتم على "التشريعية بالدرجة الأولى من دون الرئاسية"، وفق توقعاته، وذلك بسبب المشاكل المصاحبة للأخيرة.
وأضاف هيبة أن "الانتخابات ووجود سلطة موحدة مستمدة من الصناديق، سيخدمان الولايات المتحدة في مساعي إخراج قوات مرتزقة فاغنر (الروسية) من ليبيا ومن ثم من أفريقيا عموماً، ولهذا فإن المصالح الأميركية تتعزز بتجديد الشرعية وهي تدعم أي جهود للانتخابات، ولكنها ستواجه بمعارضة روسيا التي تسعى للإبقاء على فاغنر"، معتبراً أن "جدية الولايات المتحدة لا تكفي، لأنها لا تملك كل الأوراق، فهناك ملفات أخرى ترهقها مثل الصراع مع الصين والحرب الأوكرانية الروسية".
وبحسب هيبة، فإن الأهم بالنسبة للغرب هو استمرار تدفق النفط والغاز، ثم استجابة الجميع لجهود مكافحة الإرهاب، وملف المرتزقة والهجرة غير الشرعية، بالإضافة إلى ملفات سياسية وأمنية واقتصادية معلّقة في المنطقة، "لهذا ستكون المعركة السياسية المقبلة حامية، وقد يفاجئ المشهد اللاحق الجميع بوجوه سياسية غير متوقعة"، وفق اعتقاده.
يتموضع مجلسا النواب والدولة في حلف واحد استشعاراً بالخطر
وفي حال جرى انتخاب رئيس لليبيا، يستبعد هيبة فوز أي من الشخصيات الجدلية، بمن فيهم اللواء المتقاعد خليفة حفتر، مشيراً إلى وجود رغبة دولية في عدم دعم هذه الشخصيات ومنها حفتر الذي قد يكون طُلب منه عدم الترشح، لأن أياً منها لا يستطيع حكم كامل البلاد.
في المقابل، استبعد الكاتب السياسي فرج دردور، أن تطيح أي قرارات صادرة عن المجلسين بالمبعوث الأممي، فهو "معيّن من الأمم المتحدة وبتوافق من مجلس الأمن الذي يعلم بانتهاء صلاحية كل الأجسام السياسية الحالية، وأن وجودها بحكم الأمر الواقع فقط، ولن يكون لها أي أثر على موظفي الأمم المتحدة".
ولفت دردور، في حديث مع "العربي الجديد"، إلى دعم الأميركيين مبادرة باتيلي، ولا يستبعد أن يكونوا "مهندسيها" على حد وصفه، مستنداً على جولات دبلوماسية أميركية كثيفة طالبت بالذهاب إلى الانتخابات وعدم السماح بتمرير أي مراحل انتقالية.
وفي إشارة إلى المجلسين، قال دردور: "لا أعتقد أن جهات لا تمتلك الشرعية الكاملة تستطيع أن تؤثر في المشهد إذا ما قررت الأمم المتحدة فعلاً الذهاب في خطتها الجديدة".
ومع ذلك، لفت دردور إلى مشكلة في الأوساط الليبية تتعلق بـ"غموض آلية اختيار لجنة باتيلي"، معرباً عن أمله في أن تكون ممثلة لكل الشرائح الليبية، إلا أنه أكد أن شرعية اللجنة هي الأهم، مضيفاً أنها "سوف تستمدها من الأمم المتحدة، وبالتالي ستكون بشكل أو بآخر مفروضة، ولن يسمح بالطعن فيها".
وطرح دردور إشكالية أخرى تتعلق بالإطار الزمني، لافتاً إلى أن "كل المراحل المقبلة المؤدية إلى الانتخابات غير واضحة، لا من المجلسين ولا من الأمم المتحدة التي تريد الاقتراع قبل نهاية العام، لكن لا أعتقد أن الأمور على الأرض تسمح بالإسراع في الانتخابات".
وحول صمت حفتر عن كل المجريات السياسية الحالية، قال دردور "أثناء وجود مبادرات جديدة نلاحظ أن حفتر يأخذ خطوة إلى الخلف، ويتستر خلف ما يسميه القيادة العامة، ويزعم أن الجيش لا يتدخل في السياسة، ثم يتموضع من جديد إلى أن يتم تشكيل حكومة جديدة يقوم بعرقلتها بعد أن يشارك فيها ببعض الوزراء، وهذا ما تعوّدنا عليه، ولا أعتقد أن عقليته ستتغير في هذا الوضع".
وعن الدبيبة ورئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، اللذين لم يبديا أي موقف إزاء مبادرة باتيلي، رأى دردور أنه على الرغم من أن المبادرة قد تخدمهما "إذا تقرر استمرارهما في السلطة"، إلا أنهما يشعران بالخطر تخوفاً من خطوات أخرى غير متوقعة لتغيير الحكومة، وفق رأيه.
وأضاف: "من هنا نستشف عدم رضاهما عن المبادرة، مع أنهما لم يعلّقا عليها، أما مجلسا النواب والدولة فيتموضعان الآن في حلف واحد استشعاراً للخطر، وديدنهما أن يكون لهم موضع في المشهد المقبل، أو أن يستمر الوضع على ما هو عليه".