استمع إلى الملخص
- **تفاصيل الموازنة والاتفاقات بين الحكومتين:** الموازنة بقيمة 179 مليار دينار ليبي، مع تقسيم تنفيذ بنودها بين الحكومتين، حيث تتولى حكومة الوحدة الوطنية بندي الرواتب ودعم المحروقات، بينما تتقاسم الحكومتان بند التنمية والإعمار.
- **الضغوط الدولية والتداعيات السياسية:** الضغوط الدولية دفعت نحو إقرار موازنة موحدة لتوحيد الحكومتين، لكن بعض المحللين يرون أن هذا القرار قد يعزز الانقسام ويهدد بإلغاء أمل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية.
وسط غياب تام في التفاصيل، صوت مجلس النواب الليبي خلال جلسة مغلقة في بنغازي، مساء أمس الأربعاء، بالموافقة على الموازنة المالية للدولة للعام الحالي 2024، دون أن يبين من سيشرف على تنفيذ هذه الموازنة، وسط انقسام حكومي حاد تمثله حكومتان، حكومة الوحدة الوطنية بطرابلس، وحكومة مجلس النواب ببنغازي.
ودفعت خطوة مجلس النواب إلى عدد من أسئلة المراقبين الحائرة التي لا تزال دون جواب حتى الآن، ومخاوف من أن تساهم هذه الخطوة في تعزيز حالة الانقسام الحكومي إذا ما ذهبت الموازنة لحكومة مجلس النواب، وأن تكون تكريساً لتقسيم البلاد إذا ما كانت الميزانية "موحدة"، وستذهب بالتقاسم إلى الحكومتين.
وتحفّظ الناطق الرسمي باسم مجلس النواب الليبي عبد الله بليحق، في اتصال مع "العربي الجديد" عن توضيح الجهة المناط بها تنفيذ الموازنة، واكتفى بالقول إنها "ميزانية موحدة للدولة الليبية". وزاد من حجم الغموض حول خطوة الموافقة على الموازنة أن مجلس النواب عقد جلسة مناقشتها خلال يومي الثلاثاء والأربعاء بشكل مغلق، ما غيب العديد من التفاصيل حول أبوابها والحكومة المناط بها تنفيذها، بالإضافة لعدم دستورية الإجراء الذي يتطلب إشراك المجلس الأعلى للدولة في مناقشة الموازنة، وفقاً للنصوص الدستورية بالاتفاق السياسي الموقع في الصخيرات.
واللافت في إجراءات مجلس النواب حيال هذه الموازنة أنها اعتمدت على مرحلتين، الأولى نهاية إبريل/نيسان الماضي بقيمة 90 مليار دينار بمقترح من حكومة مجلس النواب، والثانية أمس الأربعاء بقيمة مضافة قدرها 89 مليار دينار ليبلغ إجماليها 179 مليار دينار ليبي، وهو الرقم الذي أُعلن بالأمس. وأثناء انعقاد جلسة مجلس النواب الليبي وجه رئيس المجلس الأعلى للدولة، محمد تكالة، خطاباً لرئيس مجلس النواب عقيلة صالح، طالبه بضرورة إحالة مشروع الموازنة إلى مجلس الدولة، كما ينص على ذلك اتفاق الصخيرات، لدراسته وموافاته بالرأي حياله، وأكد له أن مجلس الدولة سيعترض على القانون بـ"رفض أي نتائج تترتب بشأن قانون الموازنة المذكور، والاعتراض عليها، ناهيك عن تعرضه للطعن بالطرق المقررة قانوناً".
كما أبدى رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، اعتراضه على الخطوة، مبيناً عدة اشتراطات دستورية متلازمة للموافقة على أي موازنة، وضرورة وجود "مقترح مشروع للقانون مقدم من السلطة التنفيذية لاختصاصها في ذلك"، والتشاور مع المجلس الأعلى للدولة قبل إحالة القانون على مجلس النواب الذي يجب عليه التصويت لإقرار القانون بعدد 120 نائباً.
لكن مجلس النواب لم يرد حتى الآن على موقفي المنفي وتكالة، وفيما التزمت حكومة الوحدة الوطنية بالصمت حيال خطوة مجلس النواب، أصدرت حكومة مجلس النواب بياناً قبيل إعلان المجلس عن موافقته على الموازنة بالتأكيد على أنها "موحدة" لكل البلاد، وأنها اجتهدت فيها لمراعاة كل "الملاحظات المطلوبة من جميع الأطراف".
وفي الغضون، كشفت مصادر برلمانية لـ"العربي الجديد"، أن جملة من الاتصالات برعاية أميركية جرت خلال الأسابيع الماضية بين الحكومتين في طرابلس وبنغازي، لمناقشة سبل الاتفاق على إقرار "موازنة موحدة"، وانتهت إلى عقد اجتماعات مباشرة بين مسؤولي الحكومتين آخرها في العاصمة التونسية منتصف يونيو/حزيران الماضي.
وفي تفاصيل أخرى، أوضحت معلومات المصادر أن الاجتماعات المباشرة بين مسؤولي الحكومتين شارك فيها محافظ البنك المركزي، الصديق الكبير، وبلقاسم، نجل اللواء المتقاعد خليفة حفتر، الذي يتولى رئاسة جهاز يعرف باسم صندوق إعمار ليبيا، ورئيس المؤسسة الوطنية للنفط فرحات بن قدارة، ومسؤول من اللجنة المالية بمجلس النواب، بالإضافة لمسؤولين من وزارة الخزانة الأميركية، وانتهت كل هذه الاجتماعات إلى الاتفاق على تولي حكومة الوحدة الوطنية تنفيذ بندي الموازنة الخاصين بالرواتب ودعم المحروقات، فيما تتقاسم الحكومتان بند التنمية والإعمار.
وفيما كشفت المصادر ذاتها النقاب عن أن القيمة المضافة إلى الموازنة يوم أمس الأربعاء، والبالغة 89 مليار دينار، هي ديون سابقة مستحقة على معسكر خليفة حفتر، جرى الاتفاق على تسديدها من خلال حكومة مجلس النواب، يرى الأكاديمي وأستاذ العلاقات الدولية رمضان النفاتي، أن تصريح بليحق وبيان حكومة مجلس النواب الليبي "كاف للتأكيد على أن الموازنة سيجري تقسيمها على الحكومتين لتنفيذها، ويؤكد هذا أكثر موقف الحكومة في طرابلس الذي يخيم عليه الصمت الموحي بالموافقة الضمنية". وفي تماهٍ مع معلومات المصادر، يشير النفاتي في حديث مع "العربي الجديد"، إلى أن واشنطن، وحلفائها في الاتحاد الأوروبي، يتحدثون منذ فترة طويلة عن "ضرورة توحيد الموازنة والتقسيم العادل للثروة".
ودخلت الموازنة المالية حيز التجاذبات السياسية باعتبارها إحدى أوراق الضغط، خاصة من جهة مجلس النواب الليبي المناط به إصدار قوانين الموازنات والموافقة عليها، فدخوله في خلاف سياسي حاد مع حكومة الوحدة الوطنية جعله يمتنع عن الموافقة على مقترح من جانبها للموازنة العامة، ما جعل الحكومة تدخل في برامج ترتيبات مالية للحصول على الأموال من البنك المركزي طيلة السنوات الماضية، إلا أن الأخير امتنع مؤخراً عن صرف تلك الترتيبات إلا بموافقة من مجلس النواب، إثر تقارب جرى بين محافظ البنك المركزي الصديق الكبير، ورئيس مجلس النواب الليبي عقيلة صالح، ضمن صفقات الصراع السياسي القائم في البلاد.
وعلى الرغم من إشراف البعثة الأممية على تشكيل لجنة مالية عليا، برئاسة المجلس الرئاسي، وبتمثيل كل الأطراف الليبية، لتحديد أوجه الإنفاق العام، ومتابعة الترتيبات المالية، وضمان التوزيع العادل للثروة، فإنها فشلت في استمرار عقد اجتماعاتها، بسبب خلافات أعضائها، لتعود أزمة الملف المالي والموازنة العامة للبلاد للواجهة مجدداً، وآخر مشاهدها القرار الغامض لمجلس النواب يوم أمس الأربعاء.
واعتبر النفاتي أن الخلفية التي تقع وراء قرار الموازنة تتمثل بضغوط خارجية دولية على جميع الأطراف بالقبول بميزانية موحدة لكلا الحكومتين بعد أن تعذرت الجهود السياسية لتوحيد الحكومتين أو إنشاء حكومة موحدة جديدة. وبشكل أوضح يرى النفاتي أن هذا الضغط تمثله الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي "لأنها تحلل أن الصراع بين جميع الأطراف أساسه اقتصادي وعلى المال تحديداً، ولذا فإن إقرار ميزانية موحدة قد يكون طريقاً نحو توحيد الحكومتين في الأيام المقبلة".
ويضيف: "مثل هذا الإجراء يمكن القوى الغربية من أمر مهم جداً في ظل ما استجد في ليبيا والمحيط الإقليمي، فوجود موازنة واضحة ستمكن الغرب من مراقبة حركة المال والصرف في جانب معسكر خليفة حفتر الذي تحوم حوله شبهات التصرف في الأموال، دون رقابة لشراء أسلحة روسية، وفي ظل انعدام أي أفق سياسي ينهي الانقسام، سيبقى حفتر في ظل مجلس النواب الليبي وحكومته، ومثل هذه الخطوة هي الطريق للتضييق عليه ووضعه تحت المراقبة".
ووفقاً لرأي النفاتي فإن للدول الغربية، خاصة أميركا، أهدافاً أخرى أكثر عمقاً من خلال صنع هذه المقاربة بين جميع الأطراف الليبية، وهي الاتجاه أكثر في طريق زيادة الهيمنة والرقابة على مصادر التمويل، وتحديداً النفط الذي بات ورقة مقلقة لسببين، موضحاً أن "السبب الأول استفادة حفتر من عوائده في شراء الأسلحة الروسية فلا يوجد مصدر له غير النفط، والسبب الثاني الاقتراب الروسي من منابع النفط، لا سيما في الجنوب الذي باتت تنتشر فيه قواته، وبعضها يوجد فعلياً داخل مواقع النفط".
لكن الناشط السياسي عبد السلام الأجهر يوجه قراءته إلى "الآثار السلبية والكارثية" لقرار مجلس النواب الليبي المترتبة على الصعيد السياسي في البلاد، إذ يرى أن إقرار موازنة بالتقاسم بين الحكومتين سيعزز حالة الانقسام، بل يرى أنه قرار بمثابة إقرار الانقسام الحكومي، وانتهاء مواقف أطراف الصراع إلى قناعة بضرورة التفاهم للبقاء وفق مبدأ المشاركة، وقال متحدثاً لـ"العربي الجديد": "ما فعله مجلس النواب الليبي هو مبدأ سيسير عليه الوضع في المدد اللاحقة، وبتوالي الوقت من الممكن جداً أن تخرج حكومة في الجنوب وتطالب بنصيبها من الموازنة".
ويتابع الأجهر حديثه بالقول: "كل هذا يعني أن أمل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية تبخر وأصبح من الماضي، لكن الأكثر خطراً هو أن يكون تقسيم الموازنة طريقاً لتكريس مفهوم التقسيم بتجاوز أزمة الانقسام إلى تقسيم فعلي، ومثل هذا الوضع ما دام لا يهدد مصالح الكبار الدوليين فلن يضير بالنسبة لهم، وربما تحمل الرؤية الدولية تصوراً لحل الأزمة عبر نموذج الفيدراليات، بالمقارنة بين خطوة مجلس النواب بالأمس ومطلب تقسيم الثروة الذي لم يكف المتدخلون الخارجيون عن المناداة به أساساً لحل المشكلة السياسية".