مع الأحكام المخففة التي تفرضها ظروف استثنائية صاحبت عهده، وعلى رأسها فيروس كورونا وصغر سنّه، لن يخلو أي نقد بنّاء للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي ينهي ولايته الأولى عن عمر 44 عاماً، من صفة "الانتهازية" السياسية، حتى لو كانت وليدة عملية ديمقراطية، وفي صناديق الاقتراع.
وربما لهذا السبب، قد تكون صحف فرنسية عريقة، مثل "لوموند" و"لوفيغارو"، وأخرى أقل حجماً وانتشاراً، قد فتحت، خلال الأشهر والأسابيع الأخيرة، الكثير من النوافذ لأسئلة حول أسباب تعطل النظام في فرنسا، والذي يستوجب منذ سنوات طويلة الاختيارات المزعجة في الانتخابات، ومنها تلك التي أوصلت ماكرون إلى السلطة.
ويجزم الرئيس، الذي يخوض حملة الترشح لولاية ثانية يجرى التصويت لها في دورتها الأولى غداً الأحد، أن خمس سنوات في الإليزيه قد علمّته الكثير كي لا يعيد أخطاءه.
لكن ما يصبغ هذه السنوات الخمس يبقى "اللاإنجاز" على الصعيد الداخلي، وذوبان ماكرون، الذي جاء إلى السلطة رافعاً شعار "لا يمين ولا يسار"، في المنظومة، التي بنى معها قبل فوزه بالرئاسة عام 2017 علاقات وتحالفات، مكّنته من الاستفادة من لوبي سياسي ومالي كان داعماً له في الانتخابات.
ويجنح الرئيس كل يوم أكثر، منذ وصوله إلى الحكم، نحو اليمين، مداعباً أيضاً هواجس اليمين المتطرف، بعدما بنى لنفسه حيثية سياسية من أنقاض الحزب الاشتراكي الذي يضمحل في فرنسا.
وليس ماكرون اليوم هو نفسه مرشح 2017 الذي بنت عليه "أمة في تعاسة"، كما يوصف الفرنسيون اليوم، أملاً بالتغيير، فيما بالإمكان وصف سياسته، أو الماكرونية، بالمرحلة الانتقالية الفرنسية التي تنتظر ولادة جديدة.
عمل ماكرون مصرفياً في روتشيلد ثم وزيراً للاقتصاد في عهد هولاند
ماكرون... من روتشيلد إلى الإليزيه
ومن قَبل مدرسة مصرف روتشيلد في باريس، الذي عمل فيه مصرفياً عامين فقط، من 2010 إلى 2012، وبعده إلى قيادة وزارة الاقتصاد في عهد الاشتراكي فرانسوا هولاند، الذي انضم ماكرون إلى حزبه في عام 2001، ثم إلى الإليزيه، يترشح ماكرون لولاية ثانية، محاولاً تخطي فشل سلفيه نيكولا ساركوزي وهولاند في البقاء 10 سنوات في الحكم، الذي كان وصل إليه قبل خمسة أعوام، بفضل قصة نجاح شخصية تحسب له طوال مسيرته المهنية، ولكن خصوصاً باستغلال لحظة فارقة في التاريخ الفرنسي، ومتراكمة منذ وصول ساركوزي إلى الحكم.
وكان عهد ساركوزي قد أسّس لتراجع الثنائية الحزبية التقليدية في فرنسا بين اليمين واليسار، والتي ظلّت مهيمنة على تداول السلطة منذ بداية الجمهورية الخامسة.
ورفع ماكرون، الذي كان أسّس حزبه "إلى الأمام" عام 2016، قبل سنة واحدة فقط من ترشحه للانتخابات (ثم أصبح "الجمهورية إلى الأمام" بعد وصوله إلى الإليزيه)، شعار "لا يمين ولا يسار"، حيث كان، كما يقول هو نفسه في أحاديث عدة، قد آثر المجازفة بحزبه الذي أراده "عابراً للأحزاب"، حين تراجع هولاند عن الترشح لولاية ثانية.
وتحسّس ماكرون حينها سقوط هولاند، الذي كان عمل إلى جانبه في الإليزيه سكرتيراً عاماً مساعداً، في استطلاعات الرأي، ومستفيداً أيضاً من فضيحة مرشح اليمين (حزب الجمهوريين) فرانسوا فيون المالية للوصول إلى الإليزيه عام 2017 بعمر 39 عاماً، بعدما هزم زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان في الدورة الثانية.
وحظي ماكرون من دون شك، لتخطي الدورة الأولى، بدعم قوي من وجوه بارزة في الحزب الاشتراكي انضمت إلى حزبه، ولكن أيضاً، بدعم ممن يوصف بـ"عرّابه" السياسي، الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي، الرجل القوي في حزب الجمهوريين (اليمين المعتدل).
وإذا كان ساركوزي، الذي يتردد اليوم صدى صمته في دعم مرشحة اليمين الفرنسي فاليري بيكريس، ويرجح الكثيرون أنه سيجيّر أصوات الجناح الساركوزي داخل حزب الجمهوريين لماكرون (فيما يتخوف متابعون من ميل تيار فيون للتصويت للوبان)، هو عرّاب ماكرون السياسي، فإن ملهم الرئيس الآخر، الفيلسوف الراحل بول ريكور، قد منحه بُعده "الوسطي"، الذي أراح بروكسل وأوروبا حين فاز بالرئاسيات، التي جاءت وسط حمى "بريكست" وتصاعد اليمين المتطرف في أوروبا.
وبعد وصوله إلى السلطة، كان على ماكرون تنفيذ أجندة "إصلاحية" واسعة، كأساس مشروعه على الصعيد الداخلي، فيما رفع في الخارج شعار الدفاع عن المنظومة الأوروبية وتقويتها، خالقاً مع المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل ثنائية، تمكنت من خلق مناعة أوروبية في وجه الصعود الترامبي في الولايات المتحدة.
واستند ماكرون إلى مشروع قانون لدفع النشاط ومعدلات النمو، الذي كان أعدّه حين كان وزيراً للاقتصاد (قانون ماكرون)، للمضي في خطته الإصلاحية، التي يرى فيها خصومه، خصوصاً من اليسار، خطة هادفة للقضم الإضافي من تقديمات دولة الرعاية على الصعد الصحية والتعليمية والمكتسبات العمالية وغيرها.
مشروع إصلاحي داهمته الأحداث
وإذا كان عهد ماكرون لم يبخل على الفرنسيين بقوانين ومشاريع قوانين، تتعلق بمكافحة الإرهاب واندماج المسلمين وغيرها، فإن مشروعه "الإصلاحي" الأساسي لم يجد طريقه للتنفيذ بعد، ومنه رفع السن التقاعدي، لا سيما بعدما باغته أولاً حراك "السترات الصفراء" الاجتماعي في فرنسا، ثم فيروس كورونا.
فتح ماكرون خط تواصل مع فلاديمير بوتين وانتقد حلف شمال الأطلسي
مدافع شرس عن الاتحاد الأوروبي
على الصعيد الخارجي، لم يكن "اللاإنجاز" الداخلي أفضل حالاً كثيراً بالنسبة لأصغر رئيس فرنسي على الإطلاق، لا سيما مع ساكن البيت الأبيض السابق، الذي جرف معه جميع المسلّمات في السياسة الخارجية.
وفي مرحلة ما، كان الرئيس الفرنسي فائضاً في نشاطه، بحسب كتاب لإيزابيل لاسير عن السياسة الخارجية لماكرون. وكتبت لاسير، التي يبرز في كتابها مدح الرئيس: "لقد وقف بوجه ترامب، أعاد الانخراط مع روسيا، تحدث عن أوروبا السيادية، وبّخ السياسيين اللبنانيين، أساء التعامل مع زعماء منطقة الساحل، أثار النظام الجزائري، انخرط بيد من حديد في وجه بريطانيا، وانتقد ثقل حلف شمال الأطلسي، ثم دخل في مواجهة مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ولكن الأهم من كل ذلك أنه استثمر بكل ثقله مع المستشارة أنجيلا ميركل في مشروع إعادة انطلاق أوروبية".
ورأت الكاتبة أن ماكرون حاول، وسط ذلك، الاستفادة من فراغ أميركي، للتسلل عبر ثغرات شكلتها إعادة تشكل مراكز القوة الجيوسياسية في العالم.
لكنّ كلّ هذا النشاط لم يثمر إنجازات كبيرة على الصعيد الدولي، ومنه فشله في محاولاته تجنيب أوروبا الحرب الروسية على أوكرانيا، التي أدارها ماكرون منذ بدايتها من الإليزيه، فيما كانت ملفات خارجية كثيرة تحمل بصمة قوية لوزير خارجيته جان إيف لودريان، والتي جاءت في جزء منها استكمالاً لدبلوماسية عقود التسلح الساركوزية والهولاندية.
وإذا انقضت الحرب الروسية - الأوكرانية، فإن الرئيس الفرنسي الثامن في عهد الجمهورية الخامسة، والذي ترجح استطلاعات الرأي فوزه بولاية ثانية، يعتزم الاستفادة من خمس سنوات أخرى في الحكم لتنفيذ مشروعه الإصلاحي الاقتصادي من دون ضغوط أي حراك اجتماعي في صناديق الاقتراع.
وبغضّ النظر عن استمرار فرنسا في مشروع الخصخصة، فإن ماكرون ينهي ولايته الأولى، وقد أسّست في فرنسا لمرحلة "انتظار" باتت صفة الماكرونية الأساسية، حيث ينتظر الفرنسيون، الذين كانوا يصنفون أنفسهم أنهم "شعب اليسار" أو "شعب اليمين"، انجلاء الصورة، لعودة الثنائية الحزبية وبرامجها السياسية والاقتصادية الواضحة، أو الانتقال إلى مرحلة جديدة، تبدو فيها فرنسا أكثر تموضعاً إلى اليمين، وأكثر تقبلاً لليمين المتطرف، مع تحول الاشتراكية الفرنسية إلى ليبرالية أقرب إلى النسق الأميركي.
وستكون معركة الرئيس المحتمل الأساسية المقبلة ضمان بقاء الأكثرية له في البرلمان، وهي معركة قاسية، وستكون فيها الهزيمة مكلفة لحزب إلى الأمام، إذا ما أراد الاستمرار.