اتفاق التجارة بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي يحمل أفخاخاً كثيرة
يهدف الاتفاق إلى تقليص الأضرار التجارية للطرفين مع حلول يناير
سيُعقد مجلس العموم البريطاني الأربعاء المقبل للمصادقة على الاتفاق
"ما نسميه بدايةً، هو غالباً نهاية، ولصنع أي نهاية، يجب أن تكون هناك بداية". بهذه العبارات المقتبسة من كتابات الشاعر الإنكليزي الأميركي تي أس إليوت، احتفت رئيسة المفوضية الأوروبية، أوروسولا فون ديرلاين، أول من أمس الخميس، بإنجاز اتفاق التجارة الحرّة بين الاتحاد الأوروبي وبريطانيا، والذي يعني فعلياً، طيّ صفحة "بريكست"، ودخول الطرفين عملياً في مرحلة ما بعده. ولم تخل عبارات فون ديرلاين من الإشارات المريرة تجاه مغادرة بريطانيا، لكنها كانت واضحة في نشر شعور الارتياح الأوروبي من عبء طويل، زاد العلاقات الأوروبية - البريطانية تسميماً منذ سنوات. من جهته، توجه رئيس الوزراء البريطاني، إلى مواطنيه، بعبارات كان يرى أنهم بأمسّ الحاجة إليها مع حلول الميلاد، بعد أشهر طويلة من الإغلاق والمعاناة مع فيروس كورونا، ولكن خصوصاً بعد 4 سنوات ونصف سنة مضنية، طبعت يومياتهم وحياتهم السياسية بالخلافات، والمشاحنات، و"الانقلابات"، بسبب "بريكست". هدية جونسون، والتي نسب نجاحها لـ"فريق البريكسيتيين" المتشددين، بعد مفاوضات مضنية بين لندن وبروكسل، استمرت 10 شهور، أراد أن ينقلها بروحٍ "قومية"، تؤكد حصول بريطانيا على "سيادتها"، بعد عقود من الصراع الداخلي على مغزى الوجود في منظومة الاتحاد الأوروبي، وبعدما غادرت "الاتحاد" في شهر يناير/كانون الثاني الماضي، من دون أن تنفك عن سوقه بعد. هذا النجاح أعاده الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، من ناحيته، إلى "حزم" الاتحاد، في استعراض قوة موحدة، لمنع بريطانيا من أن تتحول إلى منافس شرس وغير عادل لسوق الاتحاد، الذي قد يجد نفسه أيضاً فريسة وحيدة أمام قوى صاعدة، مثل الصين. وفي الداخل البريطاني، يرى كثر أن الاتفاق الذي أنجزه جونسون، لا يختلف كثيراً عما كانت ستخطه رئيسة الوزراء السابقة تيريزا ماي، التي "أزيحت" بما يشبه "الانقلاب" داخل حزب المحافظين، بعد رفض خطتها للاتفاق التجاري. وفيما سيواصل المتشددون داخل الحزب، عملية التسويق للاتفاق، على أنه إنجازهم، أو ضمان ألا تكون هناك أي أفخاخ للعودة إلى قواعد الاتحاد التنظيمية، سيظلّ فريق معاكس، يحلم بعودة التقارب مع بروكسل، مع أي قيادة بريطانية جديدة. في المحصلة، يهدف الاتفاق، لكلا الطرفين، ليس فقط لإنهاء سنوات طويلة من قلّة الثقة، أو زواج بالإكراه، قد يبقي بحسب أحد الدبلوماسيين الأوروبيين العلاقة مربوطة، رغم كل شيء، "ولكن من دون حب"، بل لتقليص الأضرار على الواقع التجاري بينهما، مع حلول الأول من يناير/كانون الثاني المقبل، الموعد الرسمي لخروج بريطانيا من السوق المشتركة، والذي كان من الممكن أن يقع ضمن سيناريو أسود، أي من دون اتفاق. في ذاك السيناريو، كان اقتصاد بريطانيا سيتقلص 40 مليار باوند سنوياً، وسيخسر 300 ألف وظيفة.
ليس اتفاق جونسون أفضل مما كانت طرحته تيريزا ماي
وكما ذكرت صحيفة "لوموند" الفرنسية، عن أنه "من المفيد أن نظهر أحياناً بهيئة مجانين"، فقد نجح جونسون، في الشكل، في احتكار النجاح، لأن خروجاً بلا اتفاق، كان سيُصعب عليه البقاء في الحكم، وهي الحال في أي نظام ديمقراطي. لكن الاتفاق بحدّ ذاته، ليس أفضل مما طرحته ماي (خطة تشيكرز)، وليس بالشدّة التي طالب بها منظرو "بريكست" منذ عقود، كما أنه يبقى الخطوة الأولى في طريق الألف ميل لما بعد "بريكست"، حيث قد تحصل حوله مراجعات ومناكفات، قد تكون آثارها السلبية أصعب على بريطانيا من "الاتحاد". أما الاتحاد الأوروبي، وبغض النظر عن مشاكله الاقتصادية، فعليه أن يبقى مهجوساً بأن بريطانيا قد لا تكون الأولى والأخيرة في الدرب الانفصالي.
ومع وفائه بوعده الانتخابي الوحيد، أي إنهاء ملف "بريكست"، أصبح جونسون ومجموعة "المتشائمين من أوروبا"، الذين روجوا قبل أعوام لـ"أسهل انفصال في التاريخ"، وحيدين لتقرير مسار المملكة المتحدة بعد طيّ الصفحة. ومع بداية ظهور بنود الألفي صفحة التي تضمنها الاتفاق، ورغم نسب جميع الأطراف "الانتصارات" لنفسها، والتهليل بـ"بدايات مشرقة"، سواء للاتحاد مع الدول الـ27 المتبقية فيه، أو بريطانيا، الدولة الأولى التي تخرج منه منذ إنشائه، يبدو أن كل المحتفين، ولو بدرجات متفاوتة، قد قدموا تنازلات، لتجنب "لا اتفاق" مدمر لاقتصادهم، وتحديد مستقبل علاقتهم، بالحد الأدنى. أما بالنسبة لبريطانيا، فقد تجنبت أن تخضع لمعايير منظمة التجارة العالمية، مع كل ما لذلك من عواقب.
وكانت المفاوضات حول الاتفاق التجاري قد انطلقت في مارس/آذار الماضي، وهدّد الجانب البريطاني مراراً بوقفها، لكنها وضعت منذ يوم الإثنين الماضي حصراً في أيدي فون ديرلاين وجونسون، حيث وصلا النهارات بلياليها، للتوصل إلى الاتفاق، الذي أعلن بعد ظهر الخميس. ورغم قلّة وزنه الاقتصادي، حمل قطاع الصيد (قيمته حوالي 600 مليون باوند سنوياً فقط)، بعداً وطنياً، وبالتالي سياسياً، لبريطانيا وعدد من دول الاتحاد (فرنسا وبلجيكا والدنمارك وأيرلندا وهولندا)، ما عقّد مفاوضات اللحظات الأخيرة. كما أن مسائل خلافية أخرى، ومنها طريقة حلّ الخلافات، وإجراءات الحماية من أي منافسة غير عادلة، قد جرى حلّها خلال الأيام الأخيرة.
ووصف جونسون مساء الخميس، الاتفاق بأنه "هدية" عيد الميلاد للبريطانيين. وقال في فيديو نشره على "تويتر"، إن "لدي هدية صغيرة لمن يبحثون عن شيء يقرؤونه بعد عشاء العيد"، مضيفاً وهو يحمل أوراق الاتفاق "ها هي، بشرى فرح عظيم، لأن هذا اتفاق لمنح اليقين للشركات والمسافرين وجميع المستثمرين في بلدنا اعتباراً من الأول من يناير، اتفاق مع أصدقائنا وشركائنا في الاتحاد الأوروبي". وتابع أن اتفاق الخروج من الاتحاد الأوروبي كان "مجرد مقبلات"، واتفاق التبادل التجاري الحر اليوم هو "وليمة مليئة بالأسماك". وقدّر جونسون أن الاتفاق سيكون "قاعدةً لشراكة سعيدة وناجحة ومستقرة مع أصدقائنا في الاتحاد الأوروبي لأعوام مقبلة". وأعلن مجلس العموم البريطاني، أنه سيُعقد الأربعاء المقبل للمصادقة على الاتفاق، قبل 48 ساعة من دخوله حيّز التنفيذ. وأكد حزب العمّال المعارض نيته التصويت لصالحه، ما يعني ضمان أن يمر، نظراً للإغلبية التي يمكلها جونسون. وأعلن زعيم حزب "بريكست" البريطاني، نايغل فاراج، الانتصار بدوره، مؤكداً أن "الحرب انتهت"، ومبدياً دعمه لجونسون، "الرجل الذي أنهى العمل". ويعتبر فاراج من أبرز ناشطي "بريكست"، وأكثر الوجوه السياسية في البلاد تأثيراً في حملة الخروج. وأكد أنه لو كان عضواً في البرلمان، لكان سيصوت "بالمبدأ" لصالح الاتفاق، رغم خشيته من أن تضطر بلاده على إثره لتكون أكثر ارتهاناً للقواعد الأوروبية.
أوروبياً، سيكون على فون ديرلاين إرسال نص الاتفاق إلى عواصم دول التكتل، والتي يتوقع أن تستغرق ما بين يومين أو ثلاثة لتحليل الاتفاق، واتّخاذ قرار بشأن إن كانت ستقر تطبيقه المؤقت. واجتمع أمس الجمعة، سفراء الاتحاد الأوروبي لبدء تقييم الاتفاق. وفور التوقيع عليه، ونشر نصّه في مجلة الاتحاد الأوروبي الرسمية، يدخل الاتفاق حيّز التنفيذ في 1 يناير، ومن ثم ستكون لدى البرلمان الأوروبي فرصة إقراره بأثر رجعي في مرحلة ما من عام 2021، وذلك لحاجة كل دولة فيه أولاً لإقراره، بعد ترجمته.
تجنبت بريطانيا أن تخضع لمعايير منظمة التجارة العالمية، مع كل ما لذلك من عواقب
ومع خروج بريطانيا من السوق الموحدة ومنطقة الاتحاد الجمركي، سيظلّ المتعاملون التجاريون عبر المانش يواجهون مجموعة من القواعد الجديدة والتأخيرات. ويتوقع خبراء اقتصاد، بأن يتضرر كلا الاقتصادين اللذين أضعفهما بالفعل وباء كورونا، مع تعطل سلاسل الإمداد وازدياد التكاليف. وعلى الرغم من الاتفاق، فقد حذّر الطرفان من أن "تغييرات كبيرة" مقبلة ستطرأ بالنسبة للأفراد والأعمال التجارية في أنحاء أوروبا، إذ لن يكون من الممكن أن يواصل مواطنو المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي الاستفادة من حرّية الحركة للإقامة (أكثر من 90 يوماً بلا تأشيرة) والعمل (بلا إجازة عمل) على طرفي الحدود. وأكدت بروكسل أن "حرية حركة الناس والبضائع والخدمات ورؤوس الأموال بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي ستنتهي"، مضيفة أن الطرفين "سيشكلان سوقين منفصلين: فضاءان تنظيميان وقانونيان منفصلان". ولفتت إلى أن ذلك سيخلق قيوداً (حواجز جمركية بلا ضرائب) في الاتجاهين على تبادل البضائع والخدمات وعلى الحركة عبر الحدود والمبادلات، غير موجودة اليوم". لكن التهديد بالعودة إلى التعريفات الجمركية و"الكوتا" أزيل، وهو ما تسوق له بريطانيا على أنه من أهم الإنجازات التي كسبتها، إذ إنه لن تكون هناك أي رسوم أو حصص على المنتجات البريطانية والأوروبية التي يتبادلها الطرفان. وسيبقى على الصادرات البريطانية الامتثال لمعايير الصحة والسلامة التي يضعها الاتحاد الأوروبي، وهو ما حاولت بريطانيا التملص منه، بينما تحكم قواعد صارمة المنتجات المصنوعة من مكوّنات مصدرها خارج المملكة المتحدة أو الاتحاد الأوروبي. كما تغادر لندن بفعل الاتفاق برنامج التبادل الجامعي "ايراسموس" ليحل مكانه برنامج آلان تورنغ، على اسم عالم الرياضيات البريطاني الشهير. ولا يمنع الاتفاق إدخال ضوابط جمركية وإجراءات إدارية تستغرق وقتا طويلا بالنسبة إلى الشركات المعتادة على التعاملات السريعة. كما أن قطاع الخدمات البريطاني، ومنه المصارف، والذي يساهم في حوالي 80 في المائة من الناتج المحلي، سيخضع لضوابط وتحديات لم يحسمها الاتفاق.
ورأى ستيفن بوش، في موقع "نيو ستايت مان"، إنه من الصعب الآن تقييم الاتفاق التجاري. وبرأيه، فإن مجموعة "البريكستيين"، التي أطاحت تيريزا ماي في 2019، أرادت اتفاقاً بأي ثمن، لكنها "لا تعرف ماذا تريد منه". وأضاف أنه من جهة نظر "قومية"، فإن أفضل الاتفاقات بالنسبة للمتشددين كان "الخروج من دون اتفاق"، لكن من وجهة نظر جونسون، فهو "أراد اتفاقاً يسمح لإنكلترا واسكتلندا وويلز أن تتجنب الرسوم الجمركية، والفلك التنظيمي للاتحاد الأوروبي، وهو ما حصل عليه"، أما ماي فكان اتفاقها سيؤمن إنهاء حرّية الحركة للأفراد، كما أرادت، وضمان أن تتمكن بريطانيا من إبرام اتفاقات التجارة الخاصة بها، مع الإبقاء على أقرب العلاقات مع الاتحاد، والتي تخدم هذين الهدفين". أما من وجهة نظر من كانوا يريدون البقاء، فإن الاتفاق هو أسوأ: إذ إن بريطانيا لم تعد لديها علاقات تجارية خالية من التوتر مع الاتحاد، ولم تعد عضواً في الاتحاد الجمركي، أو السوق الموحدة، ولكن نظراً إلى الجغرافيا، ووضع الاتحاد كقوة تنظيمية مهيمنة، فإن قواعدها ستبقى مرسومة من قبل القانون الأوروبي، من دون أن يكون لديها القدرة على رسم أو التأثير في قوانين الاتحاد مباشرة.
وأجرت صحيفة "ذا غارديان" مقابلات مع مواطنين بريطانيين، تفاوتت آراؤهم حول الاتفاق بين الإحباط والرضى. وأعرب كين تومبسون، عن سعادته بالاتفاق، وأن يكون قد جرى التوافق لتأسيس علاقة طويلة الأمد مع الاتحاد الأوروبي. وأضاف "على الأقل، إنها خطوة إلى الأمام، الكل بإمكانه تنفس الصعداء، وأن نتوقف عن الدوران حول بعضنا كدجاجات بلا رأس". من جهته، بدا تشارلز ليا محبطاً، معتبراً أن اتفاق جونسون "ليس أفضل من اتفاق ماي. لا أدري لماذا سار على هذا الطريق. لم يسمحوا لنا بالاطلاع على التفاصيل، وقد كان يجب أن نعرفها قبل استفتاء 2016". وأضاف أنه "اتفاق سيئ ليس لبريطانيا فحسب، بل للاتحاد الأوروبي وجميع أعضائه".