بعد أسابيع من التسريبات، خرجت أول من أمس الأربعاء، إلى العلن، تفاصيل الاتفاق الأمني الموقع بين الولايات المتحدة وبابوا غينيا الجديدة، الواقعة في جنوب غربي المحيط الهادئ، والذي كان قد أثار حفيظة الصين وتحركات للمعارضة في بابوا غينيا الجديدة، طالبت بالكشف عن بنوده، وهو ما حصل الأربعاء مع عرض الاتفاق على البرلمان.
وبينما لقي الاتفاق، الذي تمّ توقيعه خلال زيارة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إلى بابوا غينيا الجديدة، في شهر مايو/ أيار الماضي، معارضةً داخلية شرسة خشية مساسه بالسيادة الوطنية واستقلال القرار، إلا أنه أضاف بعداً جديداً إلى خريطة الاصطفافات في منطقة المحيطين الهادئ والهندي، بين الصين وحلفائها من جهة والولايات المتحدة وحلفائها من جهة أخرى. ويعدّ الاتفاق بمثابة "تعويض" دسم عن فشل واشنطن في إبرام اتفاق مماثل في جزر سليمان، جنوب الهادئ، والتي كان قد زارها نائب الرئيس الأميركي السابق مايك بنس في 2018، ولكنها ذهبت إلى "حصّة" الصين.
ولكل من بابوا غينيا الجديدة وجزر سليمان أهمية دبلوماسية وجيوسياسية وعسكرية، وأيضاً اقتصادية، بالنسبة للولايات المتحدة والصين، اللتين تتنافسان اليوم في إطار يخشى بعض المراقبين أن يتحول إلى حرب باردة جديدة.
زار مايك بنس جزر سليمان في 2018، لكنها وقّعت اتفاقاً أمنياً مع الصين
وكان الرئيس الأميركي جو بايدن يعتزم زيارة بابوا غينيا الجديدة، الشهر الماضي، في سابقة لرئيس الأميركي، لكنه اضطر إلى قطع جولة رسمية في منطقة المحيطين الهادئ والهندي والعودة إلى واشنطن، بسبب الخلاف في الكونغرس مع الجمهوريين حول سقف الدين. وبدلاً منه، وقّع بلينكن الاتفاق الأمني، الذي يشمل أيضاً اتفاق تعاون أمني بحري، وحيث شارك وزير الخارجية الأميركي أيضاً في منتدى زعماء جزر المحيط الهادئ.
ويشمل الاتفاق مع بابوا غينيا الجديدة، بحسب ما كُشف عنه منذ التوقيع في 22 مايو الماضي، تطوير البنية التحتية العسكرية في هذا البلد، وتعزيز دعم قواته المسلّحة، ومحاربة الأنشطة البحرية "غير الشرعية".
وقال مسؤولون أميركيون حينها، بحسب ما نقلت عنهم مواقع إخبارية، إن واشنطن ستزود بابوا غينيا الجديدة بموجب الاتفاق، بما يصل إلى ما قيمته 12.4 مليون دولار من معدات حماية للجيش وقوات حرس الحدود، وقالت وزارة الخارجية الأميركية إنه من خلال "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية" (يو أس إيد)، فإن واشنطن ستؤمن 12.5 مليون دولار إضافية لكي تطور بابوا غينيا الجديدة أنظمتها ومقدراتها لمكافحة تغير المناخ وتلبية احتياجاتها من الكهرباء، فضلاً عن أن حرس الحدود الأميركي سيتمكن بوجب الاتفاق من العمل مع نظيره في هذا البلد لمحارية الصيد غير الشرعي. وأكد وزير خارجية بابوا غينيا الجديدة إلياس ووهينغو، حينها، أن الاتفاق الأمني يحافظ على سيادة بلاده ولا يخرق قوانينها، مشدداً على أنه بالإمكان توقيع اتفاقات مماثلة مع دول أخرى (في رسالة للصين)، وأنه "لا حصانة لأي قوات أجنبية ستعمل في البلاد".
وكشف، أول من أمس الأربعاء، المزيد من تفاصيل الاتفاق، مع عرضه من قبل الحكومة على البرلمان (سيكون الاتفاق على الأرجح أيضاً محل نزاع في المحاكم، حتى مع تصويت البرلمان عليه نظراً لوجود معارضة داخلية له). وبحسب بنوده، كما ذكرتها وكالة "فرانس برس" التي قالت إنها اطلعت على مضمونه، فقد بات بإمكان الجيش الأميركي تطوير وتشغيل قواعد عسكرية في بابوا غينيا الجديدة، كما سيكون بإمكان الولايات المتحدة نشر قوات وسفن في المطارات الرئيسية، بالإضافة إلى مواقع مثل قاعدة لومبروم البحرية في جزيرة مانوس وميناء بحري في العاصمة بور مورسبي.
وينص الاتفاق في هذا السياق، على منح واشنطن حقّ "الدخول بلا عراقيل" إلى المواقع، من أجل "تخزين مسبق لمعدات وإمدادات وعتاد"، وحق "استخدام حصري" لبعض القطاعات في القواعد التي يمكن أن تشهد "أنشطة بناء". ويفتح الاتفاق الباب أمام واشنطن لإنشاء وجود عسكري جديد في غرب المحيط الهادئ، في وقت يتزايد فيه التنافس مع بكين. وفي هذا السياق، يمكن استخدام الوصول إلى قاعدة لومبروم لتعزيز المنشآت الأميركية في جزيرة غوام (أرض أميركية) في الشمال، والتي يمكن أن تكون أساسية في حال نشوب نزاع على تايوان. وتخشى الولايات المتحدة من موطئ قدم للجيش الصيني في جنوب الهادئ، يمكن أن يطوّق منشآتها في غوام، ويجعل الدفاع عن تايوان أكثر تعقيداً في حال غزوها من قبل الجيش الصيني.
ينص الاتفاق على منح واشطن حقّ "الدخول بلا عراقيل" إلى مواقع لتخزين أسلحة وعتاد
واضطر رئيس وزراء بابوا غينيا الجديدة جيمس مارابي، أول من أمس، للدفاع مجدداً عن الاتفاق في مواجهة موجة الاحتجاجات الداخلية. وقال أمام البرلمان: "تركنا جيشنا يضعف في السنوات الـ48 الأخيرة"، مؤكداً أن "السيادة تتحدد بصلابة الجيش وقوته". لكن رئيس الوزراء السابق بيتر أونيل، اعتبر أن الاتفاق يجعل من بابوا غينيا الجديدة هدفاً"، مضيفاً أن "الولايات المتحدة تقوم بذلك لحماية مصالحها الوطنية الخاصة، ونحن جميعاً نفهم الجغرافيا السياسية التي تحدث داخل منطقتنا". وكان زعيم المعارضة جوزيف ليلالنغ قد اعتبر، الشهر الماضي، أن بلاده "كانت لها سياسة تقوم على أنه يجب أن نكون أصدقاء للجميع، وبصفر أعداء"، مضيفاً أنه "يجب أن لا تعمى أعيننا لدى رؤية الدولار".
وأصبحت بابوا غينيا الجديدة الغنية بالموارد الطبيعية والقريبة من طرق الشحن الرئيسية، محوراً أساسياً في المواجهة الدبلوماسية بين واشنطن وبكين، فيما تبحث معظم جزر الهادئ عن أموال من أجل التنمية خصوصاً، ومكافحة أزمة تغير المناخ. وتحاول واشنطن استمالة دول المحيط الهادئ بمجموعة من الحوافز الدبلوماسية والمالية مقابل الدعم الاستراتيجي، بعد قيام بكين بتحركات مماثلة. إذ فيما تتهافت الشركات الصينية على المناجم والموانئ عبر المحيط الهادئ، وقّعت بكين، العام الماضي، اتفاقية أمنية سرّية مع جزر سليمان المجاورة تسمح للصين بنشر قوات في البلاد.
تبحث معظم جزر الهادئ عن أموال من أجل التنمية خصوصاً، ومكافحة أزمة تغير المناخ
ويأتي توقيع الاتفاق بين الولايات المتحدة وبابوا غينيا الجديدة في إطار الاندفاعة الأميركية إلى المنطقة، لا سيما مع وصول بايدن إلى البيت الأبيض عام 2021. وفي سبتمبر/ أيلول الماضي، كشف بايدن عن أول استراتيجية أميركية للشراكة عبر الهادئ، والتي أكدت أن "تاريخ ومستقبل جزر الهادئ وأميركا مترابطان بشكل وثيق". وتتضمن الوثيقة بنداً لتوسيع البعثات الدبلوماسية في منطقة الهادئ من 6 إلى 9، ونشر المزيد من القوات الأميركية، وإعادة إنشاء مهمة لـ"يو أس إيد" في فيجي.
وفي الشهر ذاته، عقد بايدن قمة أميركية مع زعماء جزر الهادئ، هي الأولى التي يعقدها البيت الأبيض، حيث تعهد بتقديم ملايين الدولارات الأميركية لتعزيز حياة سكّان هذه الجزر. كما أعلن خلال القمة عن الاقتراب من إنجاز ما يسّمى "اتفاق الارتباط الحرّ" مع 3 من أبرز شركاء الولايات المتحدة من جزر المنطقة، وهي: ولايات ميكرونيزيا الاتحادية، وجمهورية جزر المارشال، وجمهورية جزر بالاو.
وتنظر الصين بعين الشكّ والريبة إلى ما ترى فيه محاولة أميركية لمحاصرتها. وكان المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية وانغ وينبين قد حذّر تزامناً مع زيارة بلينكن إلى بابوا غينيا الجديدة، الشهر الماضي، من أن بلاده "تعارض كل ما يمكن اعتباره تمهيداً لألعاب جيوسياسية في منطقة جزر الهادئ".
ولمنطقة جزر الهادئ، وهي مجموعة من الجزر والأرخبيلات بالإضافة إلى نيوزيلندا وأستراليا، أهمية استراتيجية كبيرة من حيث موقعها وغناها بالموارد الطبيعية. وكانت جزر الهادئ، بما فيها بابوا غينيا الجديدة، مسرحاً لمعارك حاسمة خلال الحرب العالمية الثانية. أما الاهتمام الأميركي المستجد بها، فبرز خصوصاً منذ عام 2018، مع تحرك الصين لانتزاع اتفاق أمني مع جزر سليمان، وهو ما حصل، لكن بكين فشلت في الحصول على موافقة الجزر للتوصل إلى اتفاق أمني وتجاري مع مجموعة جزر الهادئ.
وحاولت بابوا غينيا الجديدة، مع الإعلان عن توقيع الاتفاق، الشهر الماضي، وضعه في إطار الحاجة العسكرية، وتعزيز سبل حماية أراضي هذا البلد. وقال بيان صادر عن خارجيتها إن "بابوا غينيا الجديدة لا تملك أعداء، لكنها تتحضر لذلك"، متحدثة عن مسعى لتجنب النزاعات الحدودية، علماً أن لديها اتفاقاً أمنياً مماثلاً مع أستراليا وإندونيسيا.
ورأى ماهولوبا لافيل، من معهد لووي الأميركي للأبحاث، في حديث لشبكة "سي أن أن"، الشهر الماضي، أن "بابوا غينيا الجديدة، مع توقيعها الاتفاق، فإنها تقول لباقي الهادئ إن أكبر دوله (بابوا غينيا الجديدة)، قد اختارت الغرب، أستراليا وأميركا، كشريك أمني"، معتبراً أن هذا الاتفاق وأيضاً إنهاء جزيرة فيجي هذا العام لاتفاق تدريب شرطتها مع الصين، "يعدان انتصارين مهمين لأميركا، مع تموضع الجزيرتين الكبريين في المنطقة إلى جانب واشنطن ومحاولاتها الحد من تأثير الصين في منطقة الهادئ".
(العربي الجديد، فرانس برس)