مرّت العلاقات الأفغانية ـ الباكستانية بمنعطفات ومراحل مختلفة خلال فترة وجود القوات الأجنبية والأميركية في أفغانستان (منذ عام 2001 وحتى الآن). وبذل الحلفاء الدوليون والمسؤولون في الدولتين جهوداً من أجل بناء الثقة بين كابول وإسلام أباد، إلا أن التوتر كان سيد الموقف في علاقاتهما، رغم تشابكهما دينياً واجتماعياً وتجارياً وسياسياً. وأساس انعدام الثقة حالياً هو اتهام كابول لإسلام أباد بدعم المسلحين، تحديدا حركة "طالبان"، مؤكدة أن باكستان تساند الحركة من خلال نظام متكامل، وأن ثلاثة كيانات تابعة للحركة تتخذ من باكستان مقراً لأنشطتها وهي: "شورى كويته"، و"شورى بيشاور"، و"شورى باره جهنار" (شبكة حقاني الموالية لطالبان).
ومع بداية ما وصفه الرئيس الأفغاني أشرف غني بعهد جديد لأفغانستان بعد خروج القوات الأجنبية، يتطلع البلدان لبناء الثقة من خلال الزيارات المتبادلة وتنفيذ خطط أمنية على الحدود. غير أنه في خضمّ هذه المساعي فجّرت تصريحات المستشار الأمني للرئيس الأفغاني والمقرّب منه، حمد الله محب، جدلاً كبيراً بين كابول وإسلام أباد، ما دفع الأخيرة إلى إبلاغ الأولى بقطع علاقاتها مع مكتب المستشار. وأكدت إسلام أباد، وفق تسريبات صحافية، أنها لن تتعامل في المستقبل مع محب، رداً على اتهامه إسلام أباد بدعم المسلحين، وحديثه حول وضع القبائل البشتونية والبلوشية في باكستان. وفي السياق، سبق أن استدعت الخارجية الباكستانية السفير الأفغاني لدى إسلام أباد نجيب الله علي خيل، وسلمته رسالة احتجاج شديدة اللهجة.
اتهم مستشار غني الأمني باكستان بالضلوع في اغتيال نجيب الله
وأثار موقف باكستان حيال محب غضباً في كابول، ودفع محب للقول في مؤتمر صحافي له أخيراً، إن "الأجدى بباكستان التي تنوي قطع العلاقات مع أفغانستان، أن تقطعها مع الجماعات الإرهابية، كطالبان وغيرها، وحينها ستحل المشاكل كلها". وشدّد على أن باكستان التي تهدد بقطع العلاقات مع بلاده لم تكن في الأساس تضمر نوايا حسنة تجاهها. وعدّد في السياق الأحداث والهجمات الأخيرة، مثل الهجوم على مدرسة في كابول في 8 مايو/أيار الماضي، الذي راح ضحيته أكثر من 60 طالبة، وهجوم إقليم لوكر المجاور للعاصمة، في 30 إبريل/نيسان الماضي، الذي قُتل فيه 23 شخصاً، ظناً منه أن باكستان تدعم الجماعات التي تنفذ هذه الهجمات.
أما التصريحات التي أثارت غضب باكستان تحديداً، فهي تلك التي أدلى بها محب خلال زيارته الشهر الماضي إلى مدينة جلال أباد، شرقي أفغانستان، مؤكداً في جلسة قبلية هناك أن باكستان لا ترتاح لاستتباب الأمن في أفغانستان، بل تربك الوضع في بلاده بيد من وصفهم بـ"عملاء إسلام أباد". وأشار أيضاً إلى أن الرئيس الأفغاني الراحل محمد نجيب الله، قتلته "طالبان" بعد السيطرة على كابول في 1996، بأمر من باكستان لأن الرجل وقف في وجه مخططات إسلام أباد وسياساتها التدميرية. كما تحدث محب عن الوضع الداخلي لباكستان، تحديداً الحراك الذي يقوم به البلوش والبشتون، قائلاً إن باكستان لا تمنحهما حقوقهما، وهو ما أدى إلى انتفاضتهما، وتشكيلهما خطراً على مستقبل باكستان.
وكان الرئيس الأفغاني قد جدد أيضاً اتهامه لباكستان بدعم المسلحين ولكن بنبرة أكثر هدوءاً مقارنة بتصريحات محب. وقال غني في محاضرة ألقاها في جامعة كابول في الأسبوع الحالي بعنوان "التغيير المنشود"، إن بلاده تبدأ صفحة جديدة من العلاقات مع دول المنطقة ودول العالم بأسرها بعد خروج القوات الأجنبية من أفغانستان. واعتبر أن على باكستان أن تختار أحد الخيارين، إما الوقوف مع الجماعات المسلحة أو الوقوف إلى جانب الشعب ودعم المساعي لأجل السلام، مشدّداً على أن باكستان أحد أهم التهديدات لأمن بلاده إذا واصلت سياساتها الحالية.
لكن مستشار الرئيس الأفغاني في الشؤون السياسية، نائب رئيس المجلس الأعلى الوطني للسلام، أكرم خبلواك، اعتبر أن أمام أفغانستان خياراً واحداً: "المصالحة مع باكستان وبناء الثقة معها". وأوضح أن على البلدين نسيان الماضي والتطلع للمستقبل. وأضاف في حوار له مع قناة "شمشاد" المحلية في 31 مايو الماضي، أن باكستان جددت وعدها بتغيير سياساتها، ويبدو أنها جادة في القضية لذا علينا أن ننتظر وننسى الماضي.
كما أشار خبلواك إلى أن دول المنطقة كلها، من دون استثناء، تعمل لمصالحها، ويجب عدم هدر الوقت في انتظار أن تبدّل أي دولة سياساتها وإستراتيجيتها من أجل إستراتيجيتنا نحن. بالتالي يجب علينا أن نبني إستراتيجيات ناجعة كي ندفع تلك الدول لتغيير سياساتها، لذلك يجب دعوة باكستان للعمل معنا وتحويل أفغانستان إلى جسر بينهم وبين دول آسيا الوسطى، لنتقدم جميعاً اقتصادياً وتجارياً. وسيدفع ذلك إلى المحافظة على مصالح الجميع في السلم والتجارة والاقتصاد بدلاً من الحرب بالإنابة.
وحول هذه التطورات المتلاحقة، يؤكد المحلل الأمني الأفغاني عتيق الله أمر خيل، في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أنه بالنظر إلى سير الأحداث التي شهدتها بلادنا خلال العقود الأربعة الماضية نجد أن دور باكستان مهم وخطير. وهي أساساً تعمل على تأمين مصالحها عبر استمرار الحرب في أفغانستان، لكنها تعبت في الفترة الأخيرة، بالتالي على الحكومة الأفغانية أن تعمل الآن مع باكستان لأجل بناء الثقة، ولإفهام إسلام أباد أن مصالحها تكمن في إحلال الأمن في أفغانستان، لا في مواصلة الحرب.
مؤشرات على تغيّر النظرة الباكستانية للتعامل مع أفغانستان
ويضيف أمر خيل، أن باكستان تواجه ملفات داخلية حادة، وستقبل بتغيير سياساتها إزاء أفغانستان، لأن استمرار العنف سيؤثر عليها، في ظلّ معاناتها من مظاهر التسلح بصور مختلفة، خصوصاً بعد تيقنها، كما هو شأن باقي دول المنطقة، أنه لا يمكن لـ"البان" العودة إلى السلطة بقوة السلاح، كما حصل في تسعينات القرن الماضي.
ويبدو أن إسلام أباد مصممة على المضي قدماً في التعامل مع ملف السلام الأفغاني، مع العمل للمحافظة على مصالحها وعمقها الإستراتيجي. في السياق، لفت وزير الإعلام الباكستاني فواد حسين شودري، في حوار له مع قناة "جيو" الباكستانية، في الأسبوع الحالي، أن بلاده مصرّة على العمل من أجل إقرار الأمن في أفغانستان. وأدرج الزيارات الأخيرة لمسؤولين باكستانيين، تحديداً زيارة قائد الجيش الجنرال قمر جاويد باجوه، وزيارة المبعوث الباكستاني الخاص لشؤون أفغانستان محمد صادق، إلى كابول، في سياق مساندة باكستان عملية السلام في أفغانستان، بل واستعدادها للتعاون الثنائي بجد وإخلاص في القضية. لكنه شدّد على أن المعضلة الأساسية والعقبة الرئيسية في وجه عملية السلام موجودة في كابول، قاصداً بذلك الرئيس الأفغاني أشرف غني. واعتبر أنه في حال كان لغني شكاوى معينة، فعليه الحديث مع باكستان من خلال قنوات مختلفة، بدلاً من التوجه إلى وسائل الإعلام والحديث معها.
ويرى مراقبون أنه مع إعلان كابول فتح صفحة جديدة من العلاقات مع دول المنطقة، فإن عليها أن تصفي حساباتها مع إسلام أباد، وأن تعمل لبناء الثقة معها، إذ لا يمكن تحقيق الأمن في المنطقة من دون التعاون بين الدولتين. في المقابل، على باكستان أن تعي أن استمرار الحرب في أفغانستان، سيؤثر سلباً عليها، لذلك يجب أن تغيّر سياساتها، خصوصاً مع امتلاكها الكثير في سياق الضغط على "طالبان" وإنجاح عملية السلام.