لا تزال استقالة مديرة الديوان الرئاسي التونسي نادية عكاشة، تثير الجدل في البلاد، خصوصاً بعد ما كشفته الاستقالة من عمق الأزمة السياسية في البلاد، وصراع النفوذ وخلافات الأجنحة.
ولم تعلّق الرئاسة لغاية اليوم على الاستقالة، عدا سطرين في الجريدة الرسمية، بإعفاء عكاشة من مهامها، ولم يتحدث الرئيس قيس سعيّد كعادته عن الموضوع في اجتماعاته، وربما يحصل ذلك مساء اليوم الخميس في مجلس الوزراء، ولكن الأكيد أن هناك حالة من الارتباك واضحة في صفوف سعيّد وأنصاره، بعدما مسّته الاستقالة من شعارات الزهد في الحكم وحالة الطهورية، في مقابل اتهام منافسيهم بأنهم يتعاملون مع الدولة وكأنها غنيمة.
ويرى الأمين العام لحزب "التيار الديمقراطي" غازي الشواشي، في تصريح إذاعي، أن "عكاشة كانت تعمل مع الرئيس جنباً إلى جنب، وبالتالي فهي عمود أساسي من أعمدة مشروعه، وبالاستقالة تشعر كأن معركة الشقوق قد انتهت لفائدة الطرف الثاني، وهو الشخصية الثانية القوية الآن، وزير الداخلية توفيق شرف الدين، المتحالف مع شقيق رئيس الدولة ومع شقيقة حرم الرئيس، وهذا الشق القوي يبدو أنه هو من يفرض الأجندات الآن، وهو الذي يقوم بالتعيينات داخل وزارة الداخلية وداخل السلك الدبلوماسي".
ويعلّق رئيس المعهد العربي للديمقراطية، الوزير السابق خالد شوكات، في تصريح لـ"العربي الجديد"، بالقول إن "قصر قرطاج سواء قبل 25 يوليو/تموز أو بعده هو أقرب إلى عش الدبابير، وأن خطة مدير الديوان الرئاسي تتعرض دائماً إلى ضغوط عالية، سواء في عهد الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي أو الرئيس المنصف المرزوقي أو سعيّد، وكل من تداولوا على موقع مدير الديوان الرئاسي لم يتجاوزوا تلك الفترة التي أدركتها عكاشة، ففي فترة السبسي تداول 4 رؤساء دواوين، وهذا بشكل عام وبصرف النظر عن الرئيس".
ووصف هذه الوظيفة بأنها "مِمْسحة، فعادة ما يمسح فيها الرئيس أخطاءه ونقاط ضعفه، وكلّ من يطمع في الرئيس أو لديه مصلحة يمرّ عبرها، ولذلك فمهمة التوفيق بين المصالح المتناقضة تبدو كالسير على الحبال، وتؤدي بالضرورة إلى ارتكاب الحماقات". وأضاف أن "العمل مع الرئيس الحالي سعيّد هو أكثر صعوبة ومشقة، فهذه الاستقالة هي العاشرة تقريباً من مستشاريه ومعاونيه، لأنه شخص يحمل أفكاراً خاصة وغريبة، في حين أن أغلب من عملوا معه أناس عاديون يتعاملون مع السلطة بشكل عادي، وبالتالي فليس في مقدور هذه السيدة أن تصمد أكثر مما صمدت".
وحول انكشاف كواليس الصراعات بين دوائر القرار، والتأثير داخل القصر بسبب الاستقالة، أكد شوكات أن "الطهورية لا يصدقها إلا السذج، وسعيّد أقام قصته على مجموعة من الأساطير عرتها مثل هذه الاستقالة، وما سبقها من استقالات، وما سيتلوها أيضاً".
وبيّن أن "مثل هذه التجارب الشعبوية مبنية على الأكاذيب وسرعان ما تعرّيها الوقائع والحقائق"، مشدداً على أن "هذه الاستقالة ستعزز نهاية الأوهام والأساطير، فكل السرديات غير الصادقة ستنكشف عوراتها، وما جرى مع عكاشة لن يختلف حاله مع من يقدّمون الآن أنفسهم على أنهم مقربون منه ويحملون مشروعه، لأنه لا وجود لمشروع، ولا لبرنامج، ولا لرؤية، ولا لأي شيء".
وقال شوكات إن "قوس الانقلاب سيغلق سريعاً، فهو قوس شاذ لا يتفق لا مع تاريخ الدولة في تونس، ولا مع التحديات المطروحة، ولا المصالح العليا للبلاد، وهذا البناء الهش الذي بناه هذا الرجل سينهار قريباً".
ولفت إلى أن "تونس بلد مفتوح ومنفتح لا يعيش الانغلاق ولا يطيقه، فلسنا دولة ريعية يمكنها العيش في عزلة، بالنظر إلى موقعها وطبيعة اقتصادها، وبالتالي لا يمكنها أن تواصل هكذا، وفي تقديري، فإن المعطى الإقليمي والدولي لعب دوراً باستمرار في تونس منذ استقلالها، وسيلعب دوراً أكبر في هذه المرحلة لأنها مفاجئة للخارج كما هي مفاجئة للداخل، فشركاء تونس التقليديون، لا يصدقون ما يقع في تونس، وبعد حالة الدهشة اكتشفوا أن الأمور سريالية وعبثية".
وفسّر تدخل الأطراف الخارجية بالقول إن "مصالحهم كبيرة في هذا البلد الذي استثمروا فيه طيلة سنوات، لأنهم يعتقدون أنه الطريق الأفضل، وعندما حادت السفينة، اتصلوا به مرات وخاطبوه وأصلحوا له ونصحوه، ولكنه لم يستوعب، أو أنه غير قادر على الاستيعاب، أو يظن أنه ما زال قادراً على خداع الخارج".
تحركات دبلوماسية لحلحلة الأزمة
وفي هذا الخصوص، لاحظ المراقبون تحركات عديدة في اتجاه حلحلة الأزمة، وبدا لافتاً دبلوماسياً تحرّك السفيرين، الألماني بيتر بروغل، والفرنسي أندريه باران، ولقاءاتهما مع عدد من المسؤولين التونسيين، وخصوصاً الفرنسي، الذي زار أمس الأربعاء، الأمين العام لاتحاد الشغل نور الدين الطبوبي، مؤكداً "تقديره للدور الذي يقوم به الاتحاد العام التونسي للشغل في كل المحطات التي مرت بها تونس".
وأكد السفير الفرنسي "الدعم المتواصل الذي تلقاه التجربة الديمقراطية التونسية"، والتي تتطلب "مساندتها بمشاركة الجميع للخروج من الوضع الاقتصادي الصعب الذي تمر به البلاد"، مجدداً حرص فرنسا على العمل "كصديق وشريك لتونس، ودعم مسارها الديمقراطي، ومساعدتها للخروج من الوضع الاقتصادي الصعب".
ورأى وزير الصحة الأسبق والقيادي في مبادرة "توانسة من أجل الديمقراطية" عبد اللطيف المكي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "تحت جلباب سعيّد بدأت تظهر لوبيات وتحالفات داخلية وخارجية، ولكنهم سيستغلونه ثم يقولون له شكر الله سعيكم، كما حدث مع بن علي بعد سنوات من الحكم، حيث إنه وبعد أن صنع لوبيات، وجد نفسه رهينة عندها". وشدد على أن "سعيّد سيصل إلى هذه المرحلة في أشهر قليلة لأنه لا يملك خبرة بن علي ولا عصبة بن علي".
وبخصوص ما راج بشأن فرضية وضع رئيس البرلمان راشد الغنوشي قيد الإقامة الجبرية، قال المكي "لا أتصور أن تكون عكاشة هي من طلبت ذلك، لأنها كانت على صلة بالغنوشي عندما طرح ملف رئاسة الحكومة، وكانت على صلة بشخصية عربية نقلت عرضها بأنها لو أصبحت رئيسة للحكومة، فستساهم في الخروج من الأزمة، وحدث ذلك بأسبوعين فقط بعد الانقلاب".
وأضاف أن "عكاشة أبلغت الغنوشي عن طريق وسيط ثانٍ كان من قيادات "النهضة" سابقاً بأنه لا علاقة لها بملف نورالدين البحيري ووضعه قيد الإقامة الجبرية". وبيّن المكي أن "هناك محاولات لتحميل عكاشة مسؤولية التجاوزات التي وقعت من خلال التسريبات الأخيرة".