قالت مصادر دبلوماسية مطلعة لـ"العربي الجديد" إن السفارة المصرية في روما أبلغت ديوان وزارة الخارجية في القاهرة أول من أمس السبت، بوجوب القيام بتحركات سياسية واستخبارية واقتصادية عالية المستوى وسريعة، بسبب رصدها تصاعداً في الخطاب النيابي والسياسي والإعلامي المعارض للقاهرة في إيطاليا، سعياً لإلحاق مصر بكل من السعودية والإمارات في تطبيق القانون المحلي رقم 185 لسنة 1990 الذي يمنع توريد الأسلحة إيطالية الصنع إلى الدول التي تنتهك حقوق الإنسان.
يأتي هذا بعد ساعات من إعلان وزير الخارجية الإيطالي لويجي دي مايو أن بلاده أوقفت صفقة لبيع أكثر من 20 ألف صاروخ، منها 12700 للسعودية والباقي للإمارات، تقدر قيمتها بأكثر من 400 مليون يورو، بسبب تورط البلدين وفقاً لتقارير إيطالية في أعمال غير إنسانية بالحرب في اليمن. وأكد دي مايو أن "عمل الحكومة الإيطالية مستوحى من القيم والمبادئ الأساسية. نحن نقوم بذلك حتى في هذه الساعات، ونعمل بجدية والتزام".
تصاعد الخطاب في روما لإلحاق مصر بالإمارات والسعودية لجهة منع توريد الأسلحة إليها
وأضافت المصادر أن التحرك النيابي الإيطالي لإصدار قرار مشابه بشأن مصر يرتكز على ثلاثة محاور رئيسية، أولها أن مصر تعتبر دولة قمعية ترتكب جرائم ضد حقوق الإنسان وبعضها ضد مواطنين أوروبيين وإيطاليين، وتحديداً الطالب جوليو ريجيني الذي تخفي مصر الحقيقة حول ظروف مقتله، وتمتنع عن تقديم المساعدة الكافية للقضاء الإيطالي، وصولاً إلى امتناعها عن تسليم المتهمين الأربعة الذين تحوم حولهم الشبهات في جرائم اختطاف ريجيني وتعذيبه حتى القتل.
والمحور الثاني، والذي ترفضه مصر بشدة وتسعى لتقديم بيان رسمي بخصوصه من خلال نواب يمينيين قريبين منها في روما، هو ادعاء نواب معارضين أن مصر متورطة بشكل غير مباشر في حرب اليمن من خلال تحالفها مع السعودية والإمارات. ويطرح هؤلاء احتمالات غير مؤيدة بدلائل حتى الآن على أن مصر تؤجر أو تبيع من الباطن بعض الأسلحة الأوروبية التي تشتريها في الآونة الأخيرة وجعلت منها المستورد الأول لتلك الأسلحة خارج أوروبا، إلى كل من السعودية والإمارات، للالتفاف على قرارات منع أو تقليص توريد الأسلحة للبلدين، الأمر الذي قد يعرّض القاهرة حال ثبوته لعقوبات كبيرة من الدول المصدرة.
ويزعم أصحاب هذا الطرح أن الاقتصاد المصري الضعيف غير قادر على تمويل تلك الصفقات الضخمة، التي بلغت في عام 2019 ثلاثة أمثال قيمتها في عام 2018 لتكون الأعلى في تاريخ العلاقات بين البلدين، وتجاوزت بعشرات الملايين القيمة الإجمالية للمشتريات خلال العقد الأخير كاملاً، بواقع مبلغ إجمالي 238 مليوناً و55 ألفاً و472 يورو، مقابل 69.1 مليون يورو تقريبا في عام 2018. وتنوعت المشتريات بين أسلحة جديدة بقيمة تجاوزت 97 مليون يورو، وقطع غيار للمعدات وبرمجيات وتراكيب وإضافات بقيمة 141 مليون يورو، حيث جاءت مصر في المركز الرابع عالمياً بين مستوردي الأسلحة الإيطالية، خلف الكويت وقطر وألمانيا.
أما المحور الثالث للهجوم على مصر فهو تقني داخلي، يسعى من خلاله النواب المعارضون إلى تفسير مختلف عن التفسير الحكومي القائم لقانون منع توريد الأسلحة. وتتمسك حكومة جوزيبي كونتي بأن القانون يفوض مجلس الوزراء في تحديد مدى التزام الدولة المشترية بحقوق الإنسان ومدى ارتكابها مخالفات للقانون الإيطالي والقواعد الأوروبية الخاصة، والتي تم تطبيقها على مصر مرة واحدة فقط في أعقاب فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة في صيف 2013، إذ استمر تعليق بيع الأسلحة من الدول الأوروبية لعام واحد بدعوى استخدام بعضها في قتل المتظاهرين وتدجيج الآلة القمعية للجيش والشرطة.
لكن النواب المستاءين مما يصفونه بالتراخي الرسمي إزاء مصر، يطالبون بإسناد تفسير هذا القانون إلى القضاء الذي يتخذ هذه الأيام موقفاً متشدداً وغاضباً من التعامل المصري في قضية ريجيني، الأمر الذي يهدد بإجراءات طويلة ستحاول مصر من خلال اتصالاتها المقبلة عرقلتها حتى لا تؤثر على المفاوضات الجارية حول باقي مكونات صفقة التسليح القياسية التي ربما تصل قيمتها الإجمالية إلى 11 مليار يورو. كذلك لا تريد مصر أن يؤثر ذلك على المباحثات الموازية مع عدد من كبار الصانعين في إيطاليا، حول مشاريع إنشاء مصانع وورش كبرى بمصر لتصنيع القطع البحرية والبرّية لبيعها لدول الخليج العربي وأفريقيا، وتحويلها لمركز إقليمي لهذا الغرض. وهذه الفكرة كان قد عرضها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي على كونتي العام الماضي، وكشفها "العربي الجديد" في يونيو/ حزيران الماضي، كما كانت محل نقاشات بين شركة "فينكانتيري" الإيطالية المصنعة للفرقاطات "فريم" ووزارة الدفاع المصرية في 2018، لكن الأجواء المتوترة بين البلدين آنذاك على خلفية قضية مقتل ريجيني عرقلت استمرار المفاوضات.
ويتزامن هذا التصعيد مع تزعم حركة الخمس نجوم، اللاعب الأبرز في ميدان السياسة الإيطالية حالياً، للحراك الأوروبي ضد مصر، وهي الحركة التي ينتمي لها - وكان يرأسها - وزير الخارجية الإيطالي لويجي دي مايو. ووجّه نواب حزب دي مايو في البرلمان الأوروبي، وعلى رأسهم المقرب منه فابيو كاستالدو، انتقادات لاذعة لمنح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وسام جوقة الشرف للسيسي، خلال زيارة الأخير إلى باريس في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، ما دفع عدداً من الشخصيات العامة الإيطالية والأوروبية لإعلان تخليها عن الوسام، من بينها كتاب وفنانون.
يطرح المعارضون أن مصر تؤجر أو تبيع أسلحة للسعودية والإمارات، المنخرطتين في حرب اليمن
وسبق أن قالت المصادر المصرية والأوروبية المطلعة على هذا الملف، لـ"العربي الجديد"، إن الاتصالات أكدت انقسام الموقف داخل الحكومة الإيطالية إزاء وضع سياسة موحدة للتعامل مع مصر. ويتزعم دي مايو اتجاهاً يطالب باتخاذ إجراءات حاسمة لتعطيل صفقات السلاح التي عقدها السيسي أخيراً مع الشركات الإيطالية ولم تصدر الحكومة قراراً بشأنها حتى الآن، علماً أن الخارجية الإيطالية، وهي الجهة المنوطة بإصدار تأشيرات تنفيذ التعاقدات، لم تتخذ أي قرار ضد مصر خلال السنوات الثلاث الماضية. لكن تلك التأشيرات لا تكون في الغالب قراراً خاصاً بالوزير أو مجموعته فحسب، بل تصدر بعد مداولة في مجلس الوزراء، فضلاً عن اعتبارات أخرى تتعلق بجهات التمويل والإقراض الرسمية الإيطالية.
وعلى النقيض من دي مايو، فإن رئيس الوزراء (المستقيل أخيراً) جوسيبي كونتي ووزراء الدفاع والتجارة والاقتصاد يتخذون موقفاً مختلفاً، ومن خلال اتصالات مباشرة ووسطاء، تصل نصائح منهم للقاهرة بالبحث عن تنازلات غير مكلفة لتستطيع الحكومة مواجهة المطالبات البرلمانية والإعلامية بممارسة ضغوط أكبر على السيسي في قضية ريجيني. وبدلاً من موتها بمرور الوقت، أصبحت هذه القضية تتخذ أشكالاً مختلفة من الخطورة على سمعة مصر المتردية أساساً في الخارج، خصوصاً بعد قرار الادعاء الإيطالي بتحريك دعوى غيابية ضد الضباط الأربعة المشتبه فيهم. من جهته، يروج الإعلام اليساري والحقوقي في إيطاليا على نطاق واسع لحقيقة أن السيسي استطاع من خلال صفقات التسليح الإساءة لسمعة روما وإظهارها كدولة لا تستطيع حماية أرواح أبنائها في الخارج.
ومن حصيلة هذا التناقض بين التيارين داخل الحكومة، وعدم قدرة أصحاب التيار المهادن لمصر على إعلان موقفهم بصورة كاملة، لا سيما في ظل التراجع الشعبي الواضح لقوى اليمين المتشدد الصديقة لنظام السيسي مثل حزب رابطة الشمال الذي يرأسه وزير الداخلية السابق ماتيو سالفيني، فإن الحكومة الإيطالية متوافقة حتى الآن على المضي قدماً في سياسة يمكن وصفها بـ"زيادة كلفة الاعتذارات المصرية"، أو بالأحرى، زيادة الصفقات المطلوب من السيسي عقدها وزيادة أسعارها أيضاً، مقابل استمرار الضغوط الرسمية في إطارها الحالي. وتتمثل هذه الضغوط من خلال إصدار البيانات والمناشدات والإعراب عن القلق، دون امتداد الأمر إلى اتخاذ إجراءات عقابية على الصعيد الإيطالي أو الأوروبي، سواء بوقف التسليح والقروض أو خفض المساعدات المالية والمعونات في مجالات مختلفة.