تحليل قانوني؛ حول آليات حظر مشاركة الإسرائيليين؛ مستوطنين وعسكريين، في الأحداث الرياضية العالمية
الرياضة هي إحدى ساحات المنافسة الحضارية الجديدة بين الشعوب عوضاً عن الحروب والمنافسات الدموية المدمرة في المعارك العسكرية، لذلك تأتي هذه المنافسة وفق آلية اتفق على وصفها بـ "ألعاب رياضية". يتنقل الرياضيون بين الأندية والدول المختلفة، لكن في المناسبات الدولية عليهم أن يصطفوا ضمن فرقهم الوطنية التي تمثل بلدانهم.
كثيراً ما تردد المنظمات الرياضية الدولية مقولة "لا سياسة في الرياضة" أو "الرياضة فوق السياسة"، في حين يثبت فحص التاريخ عكس ذلك. بعد سن حكومة جنوب أفريقيا البيضاء قوانين الفصل العنصري في 1948، بدأت حملة محلية؛ قادها المؤتمر الوطني الأفريقي، ثم تبنتها الدول الأفريقية التي استقلت تباعاً، من أجل طرد جنوب أفريقيا من المنظمات الرياضية، تحقق الأمر عبر قرار اللجنة الدولية لكرة القدم الفيفا عام 1961، ثم اللجنة الدولية الأولمبية في العام 1964، ثم لم تعد جنوب أفريقيا إلى المنظمتين إلا عام 1992، بعد إلغاء قوانين الأبارتهايد.
من الواضح أن مناهضة الأبارتهايد وطرد جنوب أفريقيا من مسارح الألعاب الدولية قرارات ذات طابع سياسي، لا يتسع هذا المقال لتعداد جميع الممارسات العنصرية التي طبقتها جنوب أفريقيا والمتضمنة ضمن تعريف الأبارتهايد، نذكر منها منع مشاركة اللاعبين غير البيض في النشاطات الرياضية الحكومية، عدم السماح للفرق الدولية بمشاركة أعضائها غير البيض في الفعاليات الرياضية في جنوب أفريقيا.
ترتكز مقاومة الأبارتهايد على أساسات قانونية، أولها قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة ضد سياسات جنوب أفريقيا، التي تكررت سنوياً منذ العام 1952، ثانيها مواقف مجلس الأمن منذ العام 1960 حتى إلغاء الأبارتهايد عام 1990. كلاهما يصف سياسة الأبارتهايد بأنها تهديد للسلم والأمن الدوليين A-RES1761(XVII).
في العام 1966؛ صنفت الأمم المتحدة الأبارتهايد بـ "جريمة ضد الإنسانية" في القرار 2202 A (XXI) بتاريخ 16 يناير/كانون الثاني 1966، في 30 نوفمبر/تشرين الثاني 1973 تبنت الأمم المتحدة ميثاق القضاء ومعاقبة الأبارتهايد، التي أصبحت مثبتة كـ "جريمة ضد الإنسانية"، في المادتين الأولى والثانية من الميثاق، في العام 1977 أرفق الأبارتهايد ضمن جرائم الحرب في الملحق الأول لاتفاقيات جنيف لعام 1949، ثم كـ "جريمة ضد الإنسانية" في المادة السابعة لميثاق روما للمحكمة الجنائية الدولية عام 1998.
من الجدير بالذكر هنا قراءة التعريف الوارد في المادة الثانية من ميثاق الأبارتهايد 1973، بأنه "جريمة الأبارتهايد ...تشمل سياسات وممارسات فصل عنصري وتمييز كتلك التي تمارس في جنوب أفريقيا...".
الأبارتهايد الإسرائيلي
منذ سنوات طويلة؛ تصدر الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان الدولية؛ منها إسرائيلية وفلسطينية، تقارير سنوية موثقة ومحكمة؛ لا مجال لسرد تفاصيلها الكاملة، في عام 2017 صدر تقرير قدمه ريتشارد فولك إلى لجنة الأمم المتحدة لغرب آسيا، فصل ممارسات الأبارتهايد الإسرائيلي في الأراضي المحتلة، خلص التقرير إلى تطابق تلك الممارسات مع تعريف الأبارتهايد المعتمد في الميثاق الدولي لعام 1973.
في الموضوع نفسه؛ هناك تقريران مهمان، هما تقرير مايكل لينك عام 2017، وتقرير فرانشيسكا ألبانيز في العام 2022، بصفتهما المقرر الخاص لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة المعني بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967.
لا يمكن الاستمرار في إبطاء الإجراءات العقابية بحق إسرائيل، عبر تعليق عضويتها في المنظمات الرياضية الدولية، ومنعها من المشاركة في كل النشاطات الرياضية الدولية
كذلك تقرير المفوضة الدولية نافي بيلاو عام 2022، عن التحقيق في وضع حقوق الإنسان في الأراضي المحتلة، وتقرير المنظمة الإسرائيلية بتسيلم في ديسمبر/كانون الأول 2021، وتقرير منظمة العفو الدولية "أمنستي" في فبراير/شباط 2022، وتقرير هيومان رايتس ووتش أبريل/نيسان 2021، وأخيراً؛ تقرير منظمة "ييش دين" الإسرائيلية، والرأي القانوني الذي قدمه المحامي الإسرائيلي مايكل سفارد في يونيو/حزيران 2020.
في مايو/أيار 2022؛ وقعت 70 منظمة أهلية من جميع أنحاء العالم؛ نسق الحملة كل من منظمة مدافعون عن العدالة ومنظمة سبيل، على عريضة موجهة إلى الفيفا، تطالبها بتعليق عضوية إسرائيل، بسبب ارتكاب جريمة الأبارتهايد. عددت العريضة ممارسات عدة وصفتها بـ العنصرية؛ وفق تعريف الأبارتهايد، منها: ضم أندية كرة القدم خاصة بالمستوطنات إلى اللجنة الإسرائيلية لكرة القدم، والسماح للاعبيها بالمشاركة في الفريق الوطني، الذي يمثل إسرائيل في المنافسات الدولية.
الجرائم الإسرائيلية
تثبت التقارير المذكورة؛ بما لا يدع مجالاً للشك، ارتكاب سلطات الاحتلال الإسرائيلي جريمة الأبارتهايد، إضافة إلى ذلك؛ تفصل التقارير جرائم أخرى عديدة، معرّفة في القانون الدولي، ترتكبها سلطات الاحتلال الإسرائيلي يومياً بحق الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة.
حسب تصنيفها في قانون المحكمة الجنائية الدولية يمكن رصد الجرائم التالية: الجرائم ضد الإنسانية (المادة 7) ومنها الفصل العنصري، جرائم حرب تحت المادة 8، تشمل الاستيطان والمعاملة المهينة والحاطة بالكرامة، كذلك تشمل المادة (8) مكرر جريمة العدوان، وضرب الحصار وضم الأراضي.
تعلم إسرائيل؛ علم اليقين، أنها تمارس كل تلك الجرائم الموصوفة أعلاه؛ سواء كلياً أو جزئياً، منذ نشأتها عام 1948، من خلال منظومة الاحتلال العسكري للأراضي المحتلة. لذلك أنشأت وحدة قانونية خاصة، تتولى تقديم العون القانوني إلى جنود وضباط الجيش الإسرائيلي، المحتمل ملاحقتهم جنائياً خارج إسرائيل، بسبب جرائم ارتكبوها خلال مشاركتهم في الخدمة العسكرية في الأراضي المحتلة.
من المعلوم أن الخدمة العسكرية تحت القانون الإسرائيلي إلزامية للرجال والنساء فوق سن الثامنة عشرة، تدوم حوالي السنتين ونصف السنة، ذلك يعني أن كل المواطنين معرضون للخدمة في الأراضي المحتلة، والمشاركة في العمليات العسكرية ضد المواطنين الفلسطينيين وفي الممارسات التي تعتبر جرائم حرب تحت القانون الدولي. لذلك هناك صحة في المقولة القائلة "لا يوجد في إسرائيل مدنيون، الجيش الإسرائيلي يملك دولة وليس العكس".
المادة (3) من ميثاق الأبارتهايد، والمادة (25) من نظام روما 1998، حددتا في تعريفاتهما المسؤولية القانونية عن جريمة الأبارتهايد والجرائم الأخرى الموصوفة في القانون، التي تطال الأفراد؛ سواء في الوظائف الرسمية أو خارجها، وأعضاء المنظمات والمؤسسات، وممثلي الدول، دون أي استثناء لموقع رسمي في الدولة.
يجب أن يدرك كل من يخدم في الجيش الإسرائيلي؛ المجندون منهم والنظاميون، على مختلف رتبهم ومسؤولياتهم، أنهم معرضون شخصياً للملاحقة والمساءلة القانونية، على خلفية نشاطاتهم العسكرية في الأراضي المحتلة.
حصل الحدث الأهم؛ في هذا المجال، يوم 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2022، حين صوتت لجنة تصفية الاستعمار التابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة؛ وفق المادة 96، على طلب رأي استشاري من محكمة العدل الدولية، عبر إحالة مسألة الاحتلال الإسرائيلي وآثاره وتبعاته واستمراره لمدة طويلة إلى محكمة العدل الدولية.
نُذكر هنا بما كتبه البروفيسور جون دوغارد؛ المقرر الخاص السابق لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، في تقريره المؤرخ بـ 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2007، عن وضع حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة "بعض عناصر الاحتلال الإسرائيلي تمثل أشكالاً من أشكال الاستعمار والفصل العنصري مخالفة للقانون الدولي". كما اقترح حينها؛ أن تطلب الجمعية العامة فتوى من محكمة العدل الدولية، حول التبعات القانونية للاحتلال المستدام، الذي يتصف بسمات الاستعمار والفصل العنصري بالنسبة للشعب المحتَل.
بعد كل تلك التقارير الصادرة عن أجهزة الأمم المتحدة وسواها من منظمات المجتمع المدني الموثوقة، اقتنعت الجمعية العامة أخيراً؛ بأن أوان المعالجة موضوع الاحتلال الإسرائيلي قانونياً قد حان! رد الفعل الإسرائيلي العنيف على القرار، دليل؛ لا يترك مجالاً للشك، على خطورة الأمر عليها كدولة، وعلى جنودها وضباط جيشها، من إمكانية ملاحقتهم قضائياً، ومساءلتهم على النشاطات التي شاركوا فيها في الماضي، حتى بعد انتقالهم إلى الحياة المدنية.
من الواضح أن مناهضة الأبارتهايد وطرد جنوب أفريقيا من مسارح الألعاب الدولية قرارات ذات طابع سياسي
تنص المادة 29 من نظام روما على أن المسؤولية القانونية لا تسقط بالتزامن، إعلان الأبارتهايد كـ "جريمة ضد الإنسانية" أدخلها تحت الولاية القضائية الدولية، صدرت عدة فتاوى قضائية بهذا الشأن، تؤكد جميعها؛ إن مقاومة الأبارتهايد ملزمة للجميع، كل الدول الأعضاء عليهم مسؤولية قانونية، تفرض عليهم منع ممارسات الأبارتهايد، ومحاكمة أي شخص متهم بهذه الجريمة يتواجد على أراضيهم، سواء وقعت الدولة على الميثاق أم لم توقع.
رغم تطور القانون الدولي والتشريعات المحلية؛ ورغم إنشاء المحكمة الجنائية الدولية ونجاحها في بعض القضايا، لم يحاكم أي شخص؛ سواء من جنوب أفريقيا أو غيرها، على جريمة الأبارتهايد!
قبل يوم من انطلاق دورة (الفيفا) الحالية في الدوحة؛ أعلن السيد جياني إنفانتينو رئيس الفيفا "يجب على الأوروبيين أن يتوقفوا عن النقاق، وعليهم أن يراجعوا تاريخهم قبل أن يعظوا غيرهم باحترام حقوق الانسان". لنفحص هذا الموقف؛ حين أعلنت الفيفا واللجنة الأولمبية عن طرد جنوب أفريقيا منهما، لم يكن الأبارتهايد قد صنف على اعتباره جريمة تحت القانون الدولي أو المحلي في أي دولة، كما لم تكن الأمم المتحدة قد أصدرت ميثاق الأبارتهايد، الذي عده جريمة تهدد الأمن والسلم الدوليين، بل كان ذلك استجابة لضغوط شعبية ودولية وحكومية، مارستها بعض الدول ومنظمات حقوق الإنسان الدولية.
تعلن المادة (3) من ميثاق الفيفا "تلتزم الفيفا باحترام كل حقوق الإنسان المعترف بها دولياً، وسوف تسعى لنشرها والدفاع عنها". هذا يتفق مع مبادئ اللجنة الأولمبية، خاصة "ممارسة الرياضة حق إنساني"(4) وتؤكد منع التمييز العنصري في الرياضة (6).
مع ذلك أعلنت الفيفا في عام 2017 عن موقفها القاضي بعدم تعليق مشاركة ستة أندية من المستوطنات الإسرائيلية في ألعاب الفيفا المعتمدة. يومها أعلن السيد إنفانتينو "حان الوقت كي تبادر الفيفا إلى العمل"، لكن يبدو اليوم أنه ما زال يبحث عن طبيعة هذا العمل، بعد مضي خمس سنوات على تصريحه، رغم كل هذه الإثباتات الدامغة والقرارات الدولية، التي تدين إسرائيل بممارسة جريمة الأبارتهايد وجرائم أخرى عديدة، ناتجة عن احتلالها الأراضي الفلسطينية.
في السياق ذاته؛ لم تنتظر الفيفا طويلاً قبل إعلانها تعليق مشاركة الفرق الرياضية الروسية، بعد احتلال القوات الروسية لأراضي أوكرانية، مع أن الغزو الروسي لا يتعلق بأمور رياضية روسية أو أوكرانية، بل يعبر عن موقف الفيفا السياسي من الاحتلال، ويتماشى مع الرأي العام الغربي بالذات. أيضاً؛ لم تنتظر الفيفا سابقاً حتى تجرم الأبارتهايد، عندما علقت مشاركة جنوب أفريقيا في دوراتها! الفيفا واللجنة الأولمبية منظمات دولية رسمية؛ ملزمة بجميع مبادئ القانون الدولي، الأمر الذي قد يعرضها إلى المساءلة، نتيجة عدم التزامها بقوانين منع الأبارتهايد.
من الواضح؛ تهمة النفاق مثبتة بحق الفيفا واللجنة الأولمبية، وفق الرأي العام الدولي، لذا آن الأوان لهما كي تعملا على تبرئة نفسيهما من هذه التهم، أمام الرأي العام والمحاكم الدولية. أولاً؛ عبر الاعتراف بتشابك الرياضة والسياسة، فالأولى لا تعمل بمعزل عن الثانية.
ثانياً؛ عليهما التأكيد على أن حقوق الانسان واحدة لا تتجزأ، أي انتهاك لها سوف يلاقي نفس الرد والفعل، كما حصل مع جنوب أفريقيا وروسيا، دون انتقائية. ثالثاً؛ جميع الدلائل المتوفرة، تثبت أن إسرائيل مخالفة صراحةً لجميع القوانين الدولية، لذا تقع عليها تهمة ارتكاب جرائم عدة؛ أهمها الأبارتهايد، بالتالي؛ لا يمكن الاستمرار في إبطاء الإجراءات العقابية بحق إسرائيل، عبر تعليق عضويتها في المنظمات الرياضية الدولية، ومنعها من المشاركة في كل النشاطات الرياضية الدولية، واتخاذ قرار قطعي ونهائي بإلغاء كل الفعاليات التي تساهم بها الأندية الرياضية التي تنتمي إلى المستوطنات الإسرائيلية. آليات العمل واضحة ومتوفرة في الأنظمة الداخلية، وفي مواثيق هذه الهيئات، لذا يمكن تفعيلها بسهولة حسب الإجراءات النافذة.
بغض النظر عن دوافع وصحة الضجة التي أثيرت حول الدورة الحالية المقامة في قطر، وعن مدى مراعاة الفيفا لاحترام جميع حقوق الإنسان المعترف بها دولياً، وعن مدى التزام الفيفا بالدفاع عنها، يثبت كل ذلك أن الفيفا لا تستطيع تجنب التعامل مع الأمور السياسية في مجال عملها الرياضي.
حقوق الإنسان المعترف بها دولياً لا تتجزأ، ما يتوقعه ويستحقه الإنسان الفلسطيني هو نفس الذي يستحقه الأفريقي والأوكراني. بماذا يختلف احتلال روسيا لأراضي أوكرانية؛ الذي دفع الفيفا لقرارها السريع، عن الاحتلال الإسرائيلي لكل الأراضي الفلسطينية ولجزء من أراضي أربع دول مجاورة؟ رد الفيفا واللجنة الأولمبية؛ يجب أن يكون واحدا في كل الأحوال والحالات.