بداية، وجب التوضيح أن نظام الفصل العنصري (الأبارتهايد) كان وما يزل ضروريا لتحقيق المشروع الصهيوني، أي أنه أداة وليس هدفا بحد ذاته، فالأيديولوجية الصهيونية ليست كولونيالية فحسب، بل إحلالية الطابع، وبالتالي تتطلب عمليات تطهير عرقي، وإلغاء هوية وتاريخ الشعب الفلسطيني.
صحيح أن العالم بدأ يستفيق على نظام الأبارتهايد الصهيوني، لكنها صفة رافقت الدولة الصهيونية منذ بداية نشوئها، وما "النكبة" إلا ممارسة عمليات تطهير عرقي بقوة السلاح، لضمان تشريد الشعب الفلسطيني، ولكن عملية التشريد لم تكن عنوان مرحلة تأسيس بل عملية مستمرة تطلبت إرساء نظام فصل عنصري كأداة لاقتلاع تدريجي للشعب الفلسطيني من أرضه.
فالمشروع الصهيوني يرتكز على إنكار وجود وتاريخ شعب أصلي موجود على أرض فلسطين، فوجود هذا الشعب يتعارض ومخططات إنشاء وطن لليهود مرتكزة على أسطورة أرض الميعاد لـ"شعب الله المختار" في توظيف ديني من مؤسسي الصهيونية الذي كان أغلبهم أقرب إلى العلمانية، أي أن معظم هؤلاء، وفي مقدمهم تيودور هيرتزل، لم يكونوا من اليهود المتزمتين دينيا، بل إن المشروع الصهيوني دمج الأسطورة الدينية، والفكر والممارسة الكولونياليين مع بعض عناصر الدولة القومية الحديثة، التي تطورت في بعض مؤسساتها مع العصر ومحاكاة الغرب.
هنا، وبالرغم من التمييز واستهداف اليهود في أوروبا ، بحجة العداء للسامية، المبنية على كذبة بشعة في عنصريتها مفادها أن اليهود جماعة مختلفة تنتمي إلى "العرق السامي الدخيل" على حضارة "الرجل الأبيض"، ولذا يجب التخلص من وجوده في أوروبا الحضارية، بالرغم من كل ذلك والمجازر انتهاء بالمحرقة "الهولوكوست" فقد تماهى عدد من مؤسسي الصهيونية مع حضارة الرجل الأبيض، بل سعوا إلى تقليد الكولونيالية، لأن تفكيرها لم يكن ثوريا أو يخرج عن الثقافة الاستعمارية العنصرية حولهم.
لم تكن النكبة سوى بداية لممارسة عمليات تطهير عرقي بقوة السلاح، لضمان تشريد الشعب الفلسطيني بشكل مستمر
وارتكز هؤلاء على إرث أوروبا الاستعماري وعلى نفَس الفوقية العنصرية، وهو تراث الكولونيالية الأوروبية في أفريقيا وآسيا، إضافة إلى السلوك المتوحش للغزاة الأوروبيين ومحاولة إبادة السكان الأصليين في قارات "العالم الجديد".
لكن الصهيونية ركزت على عنصر آخر لا يمكن تحقيق المشروع الصهيوني بدونه، وهو إلغاء تاريخ وهوية الشعب الفلسطيني، فلا يمكن أن تكون هناك شرعية لمشروع إحلالي صهيوني في بحر من العالم العربي ومشاعر القومية العربية الجامعة، من تاريخ ولغة مشتركين، دون إبادة للهوية والتاريخ العربي الفلسطينيين، الذي يشمل الأقليات غير اليهود الموجودة في فلسطين التاريخية، فالجميع أصبح مستهدفا وفي خطر من أبعاد ومحمولات المشروع الصهيوني.
لا يعني ذلك أنه لم يكن هناك عناصر من عملية إلغاء تاريخ السكان الأصليين في الاميركيتين وأستراليا، لكن الفرق أن الغزاة البيض لم يكونوا يهتمون بهذا التاريخ أصلا، لبُعد العالم الجديد عن تقاطعات وتاريخ العالم القديم ومؤسساته. وهو ما أتاح لهم تأسيس تاريخ جديد يبدأ بوجودهم في هذا العالم.
وهذا ينطبق إلى حد ما على جنوب أفريقيا، وبدايات نشوء "الأفريكانر" وهي حركة عنصرية بدأها المستوطنون الهولنديون ووضعت الجذور التي أسست لنظام الفصل العنصري بعد استقلالها عن بريطانيا.
لكن في حالة الحركة الصهيونية لم يكن، ولن يكون، ممكنا تأصيل دولة مستوطنين غازية ترتكز على حق مزعوم في أرض فلسطين لكل يهود العالم ، دون تغيير جميع المعالم الجغرافية والديموغرافية ودون وأد تاريخ الشعب الفلسطيني وهويته.
فمنذ البداية دمرت إسرائيل أكثر من 700 قرية فلسطينية وجرى تفريغها وتغيير ملامحها. ولو أتيح لمؤسسي إسرائيل لقضوا على كل المدن الفلسطينية وعلى التراث الفلسطيني من عادات وتقاليد وطعام واللباس الفلسطيني التقليدي.
وما الهجمة الشرسة التي نشهدها الآن لمصادرة التراث الفلسطيني من أزياء ومأكولات إلا مؤشر على الفشل في القضاء على التراث الفلسطيني، لتلجأ إلى محاولة سرقته ومصادرته، خصوصا وأنه لا يوجد تراث أصيل أو جذور للهوية الإسرائيلية الجديدة التي جرى تشكيلها وتجميعها.
ولا ننسى هنا أن إسرائيل أنشئت في بداية عصر انتهاء الكولونيالية المباشرة وصعود حركات التحرر الوطني في العالم وبداية انطلاق المد العربي الوحدوي المناهض للاستعمار.
لذا، حاولت إسرائيل منذ ما قبل نشأتها ممارسة عمليات التطهير العرقي، وإن كانت محدودة، لتهجير الشعب الفلسطيني، وإرساء نظام فصل عنصري وفرض أحكام عسكرية عزلت المدن والقرى العربية وحاولت حرمانهم من تدريس اللغة العربية وعزلهم عن باقي الشعب الفلسطيني والعالم العربي.
عملية العزل القاسية هذه أرخ لها توفيق طوبي وإميل توما، وجريدة الاتحاد الحيفاوية وأشعار توفيق زياد ومحمود درويش (في شبابه) في إطلاق صرخته الشعرية "سجل أنا عربي" في مواجهة الفصل العنصري ومحاولة إبادة الهوية العربية الفلسطينية.
مأزق المشروع الصهيوني منذ البداية تمثل في وجود حياة منظمة وزخم ثقافي وحضاري في فلسطين، فكانت ملتقى للفنانين والأدباء والشعراء، بصورة متواصلة وممتدة مع العالم العربي. وكان للحواضر الفلسطينية مساهمة فاعلة في الثقافة العربية بما فيها اللغة.
وجود فلسطين في الوجدان العربي لم يبدأ منذ النكبة، وإنما كان سابقا لذلك بوقت طويل. لذلك هزت محاولة إلغاء المشروع الصهيوني للوجود الفلسطيني العالم العربي، لأنها كانت محاولة لسرقة جزء من التراث العربي.
لم يقتصر المشروع الصهيوني على إلغاء الذاكرة التي سبقت النكبة، بل شملت محاولة إلغاء الحاضر الفلسطيني وثقافة المقاومة والنضال للحفاظ على الهوية الفلسطينية التي تبلورت بعد النكبة، خصوصا وأن هناك أجزاء من فلسطين التاريخية بقيت غير محتلة بعد نكبة 1948، مع استمرار المثقفين الفلسطينيين في المنفى، من لاجئين وغير لاجئين، بالعطاء الثقافي وتطويره وجعله معروفا أكثر للعالم. وبقي هذا الزخم الثقافي يروي ويحكي الرواية الفلسطينية للوجود الفلسطيني على أرض فلسطين واستمرار شعلة النضال من أجل الحقوق الفلسطينية.
لكن ذلك كله لم يردع الدولة الصهيونية عن تزوير تاريخ فلسطين، وما الاستكشافات الأثرية المتتالية والتنقيب في كل مكان إلا محاولة لإيجاد أسس للرواية الصهيونية وردم الرواية الفلسطينية.
لذا، استمر الأبارتهايد بعد الاحتلالات الصهيونية العسكرية لباقي الأرض الفلسطينية (الضفة الغربية بما فيها القدس، وعزل قطاع غزة). فلا يمكن ضم باقي الأراضي الفلسطينية دون إدامة سياسات التمييز العنصري والتطهير العرقي وعمليات التهجير وتفريغ الأرض من سكانها وتغيير الجغرافيا والديموغرافيا للتمكن من تغيير الواقع.
واستقت الحركة الصهيونية الدروس من نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، لتأسيس جيوب ومناطق سكانية محدودة معزولة حاضرا ومستقبلا، تماما كما كان نظام "البانتوستانات" الذي ابتدعه نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا.
لكن الفرق أن نظام الأبارتهايد الذي أسسته حركة الأفريكانر التي انضم إليها المستوطنون الإنكليز والهولنديون في جنوب أفريقيا في إطار الحزب الوطني، لم يكن يسعى إلى حلم أو رؤية مسبقة قبل قدوم الأوروبيين إلى أفريقيا من خلال ممارسة تجارة العبيد واستكشاف الثروات ونهبها.
لم يقتصر المشروع الصهيوني على إلغاء الذاكرة التي سبقت النكبة، بل شملت محاولة إلغاء الحاضر الفلسطيني وثقافة المقاومة والنضال للحفاظ على الهوية الفلسطينية التي تبلورت بعد النكبة
طبعا هناك تقاطعات، أهمها أن هؤلاء المستوطنين حاولوا الاستناد إلى غطاء ديني روج له المبشرون البروتستانت الذين ساندوا حركة الأفريكانر، التي روجت مقولات مثل شعب الله المختار والأرض الموعودة. لكن المقصود بها لم يكن تغيير تاريخ أفريقيا القديم الذي كانوا ينظرون إليه بوصفه أدنى مرتبة من تاريخ أوروبا، وأن رؤيتهم للأفريقيين كانت محصورة فقط في خدمة السيد الأبيض وجيشه ومزارعه ومناجمه المسلوبة.
فنظام الأبارتهايد جنوب الأفريقي الذي تأسس عام 1948 بعد الاستقلال عن بريطانيا، حصر مفهوم الاستقلال بالحرية والانعتاق للبيض فقط عن بريطانيا. لكنه لم يشعر بخطر هوية منظمة للسود في جنوب أفريقيا تهدد كيانه إلا بعد انطلاق الحركة المناهضة للأبارتهايد داخل جنوب أفريقيا وامتدادها إلى المحيط الأفريقي.
ادعاء الحركة الصهيونية أن فلسطين هي أرض الميعاد ووطن ليهود العالم ماضيا وحاضرا ومستقبلا، بغض النظر عن رأي سائر يهود العالم، يحتم عليها استمرار وأد الذاكرة الفلسطينية وبالتالي التاريخ الفلسطيني، حتى تتعدى إطار اعتراف الأمم المتحدة بدولة إسرائيل ودولة فلسطين عبر قرار (181)، لأنها تريد السيطرة والتمدد على كامل الأرض الفلسطينية التاريخية.
لكن حلم المشروع الصهيوني بوأد الهوية الفلسطينية في مدة قصيرة لم يتحقق بسبب نضال الفلسطينيين وفشل سياسات عزل الشعب الفلسطيني عن المحيط العربي.
بالتالي، فإن عمليات التطبيع التي نراها الآن، وبخاصة بعد خرق دول الأطراف العربية الغنية التي دخلت في الاتفاقيات الإبراهيمية (رسميا أو بشكل شبه رسمي) منحت إسرائيل فرصة غير مسبوقة لتشاركية مع دول عربية تعترف بالرواية الصهيونية وتشكك في تاريخ الشعب الفلسطيني وحاضره.. وهذا لم يكن موجودا او ممكنا من قبل.
الحماس الإسرائيلي لهذه الاتفاقيات لا يقتصر فقط على الأبعاد المادية والاقتصادية في امتصاص أموال الدول النفطية المشاركة في هذه الاتفاقيات، ولكن الأخطر هو بروز ثقافة عربية، وإن كانت محدودة، إلى الآن، تدين نضال الشعب الفلسطيني ولا تعترف بحقوقه، وهذا هو هدف استراتيجي للمشروع الصهيوني.
وهو ما تأجّج بتزايد شراسة الهجمة الاستيطانية الصهيونية على الأرض الفلسطينية، والتوسع في القمع والقتل والأسر، فقد وجدت اسرائيل من يؤيد ذلك علنا في العالم العربي.
ما تقدم هو حلقة جديدة ومنعطف جديد في مخطط وأد التاريخ والذاكرة الفلسطينية؛ فهناك اعتقاد صهيوني أميركي بأن تغيير الوعي العربي نحو إزاحة القضية الفلسطينية من الوجدان العربي الجمعي، سيشكل قفزة نوعية لعزل الشعب الفلسطيني ونضاله، بل وتجريم هذا النضال، فنبدأ بإنكار الحقوق كجزء من وأد التاريخ والذاكرة.
لكن هذه ليست نهاية القصة؛ فالتحدي الذي يواجه الشعب الفلسطيني ازداد صعوبة وتعقيدا. فهو يفتح عليه جبهات جديدة كانت سابقا سندا له.
فالشعب الفلسطيني لا يستطيع استعداء الشعوب العربية وخسارتها، في الوقت الذي يفترض مواجهة موجة التطبيع المتناقضة مع حقوقه.
وهذا يستدعي أن يكون واجب التصدي للتطبيع على كاهل الفلسطينيين في الخارج، كل حسب مقدرته ووضعه، والمثقفين العرب والشعوب العربية نفسها، لمساندة معركة الفلسطينيين ضد محاولات قتل الذاكرة وإلغاء التاريخ الفلسطيني.