يقسم شارع "الترنس"، وسط مخيم جباليا للاجئين الفلسطينيين شمالي قطاع غزة، المخيم إلى نصفين، وفيه كانت الحركة التجارية الكبرى في المخيم الأكثر اكتظاظاً بالسكان، لكنها اليوم ليست كما كانت قبل شهرين، والسكان لا يرون فرصة لتحسن سريع للأوضاع الاقتصادية والسياسية والمعيشية في المنظور القريب. التشاؤم الذي يظهر في وجوه الغزيين عموماً يبقى حاضراً مع تجدد الأزمات، فالكهرباء تصل بأحسن الأحوال 6 ساعات، مقابل قطعها 12 ساعة، والمياه بشكل أقل من الكهرباء، والتهديد بحرب إسرائيلية جديدة يطل بين الفينة والأخرى، وتراشق الاتهامات بين حركتي "حماس" و"فتح" يثير حفيظة السكان الذين يريدون خلاصاً وحلاً لأوضاعهم.
في الشوارع الضيقة لمخيم جباليا، الذي يضم عائلات مختلفة مُهجرة من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، تغيب الشعارات الوطنية إلى حد كبير عن جدران المنازل، على عكس ما كان سابقاً، حين كانت تملؤها الدعوات والشعارات الوطنية والحزبية. وبات المخيم أشبه بمدينة كبيرة. محال تجارية فارهة، وأبراج سكنية وعمارات مترامية الأطراف في كل شوارعها. لكن الحركة التجارية أقل من المطلوب بكثير، وفق التجار المحليين وأصحاب المحال التجارية الكثيرة، فيما البؤس في المنازل القديمة المكسوة بـ"الزينكو والقرميد" لا يحتاج إلى كثير من التمعن والنظر أيضاً. وأصبحت الحداثة عنواناً للمخيم الذي يقطنه أكثر من 100 ألف لاجئ فلسطيني، والذي انطلقت منه الانتفاضة الفلسطينية الأولى، ويعتبر حالياً معقلاً رئيسياً لكل التنظيمات الفلسطينية، وعلى رأسها "حماس" و"فتح"، اللتان تتنازعان السلطة.
يحكي الناس في جباليا عن تراجع القيم الوطنية. وباتت الحكايات المروية بين الناس عن الحال والواقع والأزمات أكبر من تلك المرتبطة بالاحتلال وفلسطين التاريخية والمعاناة القائمة منذ النكبة والتهجير والنكسة، حتى بات المشهد مقلوباً. غابت القدس، أو هكذا أريد لها، عن أحاديث الناس المنشغلين إلى حد القلق بمصيرهم وأوضاعهم ومستقبلهم الغامض، بل بيومهم الحالي. وبات الاحتلال، على كل ما سببه من مآس للفلسطينيين، وكأنه آخر الاهتمامات حالياً! في ظل واقع سياسي واقتصادي ومعيشي قاسٍ جداً، يضرب الجميع. منذ أكثر من عشر سنوات، كان المخيم جزءاً من أحداث الانقسام الفلسطيني والأحداث الداخلية، لكن ساكنيه أول من خرجوا احتفالاً باتفاق مكة للمصالحة الذي انهار سريعاً، وباتفاق الشاطئ الذي انبثقت منه اتفاقية تشكيلة حكومة الوفاق، الذي يتعطل تنفيذه منذ أكثر من ثلاث سنوات. في نظرات السكان، وأسئلتهم، وحكاياتهم، ينتظرون إنهاءً حقيقياً للانقسام، ينسيهم آلام عشر سنوات وثلاث حروب وعشرات التوغلات الإسرائيلية السابقة على أطراف مخيمهم، ويعيد الحياة إلى السوق المركزي وشارع "الترنس" والأمل بغد أفضل للجميع. بعيداً عن المخيم، لا يزال التشنج في المواقف السياسية يسيطر على مشهد التهديدات الأخيرة المتبادلة بين "حماس" و"فتح"، عقب الأزمات التي حمل كل طرف الطرف الآخر المسؤولية عنها، وعلت أصوات التهديدات والمبالغات في "الردح الإعلامي".
ومشهد المخيم المصغر، هو مشهد واقعي لكل مناطق قطاع غزة، التي يعيش السكان فيها، متعلقين بآمال إنهاء الانقسام وإتمام المصالحة والخروج من الأزمات التي تضرب الواقع الفلسطيني ككل، رغم أنّ الرهان على تغيير سريع في المواقف السياسية يبدو بعيد المنال، في الوقت الراهن. ويقول مستشار الرئيس الفلسطيني والقيادي في "فتح"، مأمون سويدان، لـ"العربي الجديد"، إنّه نتج عن الانقسام وسيطرة "حماس" بالقوة على غزة، والحصار الإسرائيلي الخانق، والقبضة الأمنية الحديدية من الحركة، حالة احتقان شديد وانسداد للأفق. ويرى أنّ حالة الإحباط تفشت بين المواطنين وشلت طاقاتهم الإيجابية، وتسبب ذلك بفقدان الأمل وغياب أي أفق إيجابي، الأمر الذي زعزع استقرار الجبهة الداخلية وعرض حالة السلم الأهلي لخطر حقيقي. وبالنسبة لمستشار الرئيس الفلسطيني فإنّ "الشباب هم الضحية الأولى للانقسام في واقع غزة الخطير، والمطلوب الآن أنّ يفهم أصحاب سلطة الأمر الواقع في غزة أن بيئة الظلم والتعصب والفقر تفتك بالمجتمعات، وتجعل الجميع، من دون استثناء، في دائرة الخطر. والحل الحقيقي يجب أن يتأسس على قاعدة مراعاة مصالح شعبنا ومستقبل شبابنا، ورؤية الواقع من منظور وطني عام وليس من منظور حزبي ضيق ومدمر، وتحقيق الوحدة الوطنية وتكاتف جميع القوى من أجل وضع خارطة طريق وطنية استراتيجية للخروج من المأزق، تستند في جوهرها إلى فكرة إيجاد حلول خلاقة للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية والخلافات الفكرية والسياسية"، وفق قوله.
أما حركة "حماس" التي تسيطر منذ 10 سنوات على القطاع، فيقول الناطق باسمها، عبد اللطيف القانوع، لـ"العربي الجديد"، إنها "لن تتخلى عن مسؤولياتها، أو القيام بواجباتها تجاه أبناء شعبنا للتخفيف من الأزمات المفتعلة التي يعيشها القطاع". ويشير إلى أنّ "حماس" تعقد لقاءات متواصلة مع الفصائل، وكل مكونات الشعب في غزة، من مؤسسات وهيئات وصناع قرار وكتّاب وسياسيين، لمواجهة الأزمات التي تعصف بالقطاع، لتشكيل حالة صمود من كل مكونات الشعب الفلسطيني لمواجهة الأزمات وإسقاط أيّ مؤامرة. ويلفت إلى أنّ المطلوب أمام حالة الغليان والكبت التي يعيشها الفلسطينيون في غزة أن يتراجع رئيس السلطة، محمود عباس، عن خطواته التصعيدية، مبيناً أنّ حركته تجري اتصالات مع عدد من الأطراف لمنع تدهور الأوضاع في غزة، وإنقاذ القطاع من أي كارثة محققة.
ويهتم السكان في قطاع غزة كثيراً هذه الأيام بتتبع وسائل الإعلام وملاحقة الأخبار المتعلقة بالأزمات والمواقف السياسية، علهم يجدون "فسحة أمل" تخرجهم من هذا الواقع، الذي يصفه الكاتب والمحلل السياسي، طلال عوكل، بالوضع المأزوم بشكل كبير بفعل الانقسام، وما نتج عنه من آثار باتت تتضح على المجتمع الفلسطيني الداخلي في غزة عبر ارتفاع منسوب الجرائم وانتشارها بشكل ملحوظ أخيراً. ويتوجب على حركة "حماس" أن تتخذ موقفاً تاريخياً وتجد طريقة للاتفاق مع حركة "فتح" من أجل إنهاء الانقسام الداخلي واستعادة الوحدة الوطنية، عبر التوافق والحوار، بعيداً عن استخدام أي من أدوات القوة، وفق حديث عوكل لـ"العربي الجديد". ويقول عوكل إن الأيام القليلة المقبلة ستكون هامة وحاسمة نظراً لانتهاء المهلة التي منحها عباس، والمحددة بـ 25 إبريل/نيسان الحالي، لحركة "حماس" من أجل إتمام المصالحة الفلسطينية، أو الدخول في المزيد من الإجراءات التي من شأنها تشديد الحصار.