تواجه التنظيمات المتشددة في الشمال الغربي من سورية أزمات عدة، إذ تعاني من انقسامات داخلية وتصاعد الرفض الشعبي لبقائها في المشهد السوري. وينظر المدنيون لوجودها على أنه أحد أسباب تمكن النظام السوري من البقاء في السلطة، حيث اتخذها مع حلفائه الروس والإيرانيين ذريعة للفتك بالسوريين على مدى سنوات، فضلاً عن الاستياء من انتهاكاتها بحق المدنيين وتقييد الحريات.
وتنتشر في الشمال الغربي من سورية العديد من هذه التنظيمات التي تتبنى الفكر السلفي الجهادي، أو تدور في فلكه. وفي حين يجمعها هدف واحد، فإن لكل تنظيم وسائله، ما عمّق حدة الخلافات بينها، وأدى إلى صدامات عسكرية، في ظل محاولات مكشوفة من قبل "هيئة تحرير الشام" ("جبهة النصرة" سابقاً)، أكبر هذه التنظيمات، في الهيمنة وتذويب كل الحركات والتنظيمات والمجموعات المتشددة فيها.
تعاني حركة "أحرار الشام الإسلامية" منذ عدة شهور من أزمتين
وتعاني حركة "أحرار الشام الإسلامية" منذ عدة شهور من أزمتين. الأولى دورها في الصراع، والذي تقلص خلال العامين الماضيين إلى الحد الأدنى من قبل "هيئة تحرير الشام" الساعية إلى تذويب كل التنظيمات المتشددة فيها. والثانية أزمة قيادة، إذ يتنازعها تياران، الأول موالٍ إلى "الهيئة" بشكل كامل، ويقوده القائد السابق للحركة حسن صوفان ومعه المجلس العسكري، والثاني يقوده قائد مجلس شورى الحركة جابر علي باشا، والذي يحاول إبقاء الحركة بعيداً عن "الهيئة" ويرفض هيمنة الأخيرة على المشهد في محافظة إدلب. وتناقلت وسائل إعلام معارضة، أمس الخميس، أنباء عن إعادة تعيين المهندس مهند المصري قائداً لها، في محاولة لتطويق الخلاف المستفحل داخل مجلس شورى الحركة.
ومنذ تأسيسها أواخر العام 2011، من قبل مجموعة من الجهاديين السلفيين، أطلق النظام سراحهم من سجن صيدنايا، أبرزهم حسان عبود (أبو عبد الله الحموي)، مرّت الحركة بالعديد من المنعرجات السياسية والعسكرية. وكانت الحركة في السنوات الأولى من الثورة السورية أبرز الفصائل المقاتلة لقوات النظام، قبل أن تبدأ في التراجع، خصوصاً أمام "هيئة تحرير الشام"، حيث اندلعت بين الجانبين اشتباكات دامية أفضت إلى انحسار دورها في الشمال الغربي من سورية. وفي 2015، حاولت "أحرار الشام" النأي بنفسها عن الحركات والتنظيمات الجهادية، من خلال تغيير شعارها من "مشروع أمة" إلى "ثورة شعب" للاقتراب أكثر من فصائل المعارضة السورية التي تتبنى توجهاً وطنياً خالصاً.
وفي السياق، تبدو أزمة "هيئة تحرير الشام" أكبر وأعمق، إذ لم تستطع إقناع الشارع السوري المعارض بكونها جزءا من الحل، وليست سبباً للمشكلة، رغم تشكيلها حكومة "إنقاذ" في الشمال الغربي من سورية لإدارة المنطقة من قبل شخصيات مدنية. ورغم المحاولات المستمرة من قبل "الهيئة" لإعادة تعويم نفسها في المشهد السياسي السوري، من خلال التعامل الإيجابي مع التفاهمات بين موسكو وأنقرة، وتسهيل مهام الجيش التركي بالانتشار في محافظة إدلب، إلا أن المجتمع الدولي يتعامل معها كتنظيم إرهابي لا يمكن أن يكون طرفاً في أي حل سياسي للقضية السورية. وأعلن برنامج "مكافآت من أجل العدالة"، التابع لوزارة الخارجية الأميركية، أواخر الشهر الماضي، تخصيص واشنطن مبلغ 10 ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات يمكن أن تساعد في القبض أو تصفية زعيم "هيئة تحرير الشام" أبو محمد الجولاني، مشيراً إلى أن الأخير "يتظاهر بالاهتمام بسورية، لكن الناس لم ينسوا جرائم تنظيمه، جبهة النصرة، بحقهم". وتعد الخطوة الأميركية مؤشراً واضحاً على رفض المجتمع الدولي لأي دور لـ"هيئة تحرير الشام" ومتزعمها في مستقبل سورية، وهو ما يعمّق الأزمات التي تواجه "الهيئة"، التي وسّع تراجعها الدراماتيكي أمام قوات النظام، في الربع الأول من العام الحالي، الهوّة بينها وبين الشارع السوري المعارض.
لم تستطع "هيئة تحرير الشام" إقناع الشارع السوري المعارض بكونها جزءا من الحل
وظهرت "جبهة النصرة" في المشهد السوري في 2012، كفرع لتنظيم "القاعدة" في سورية. وطيلة سنوات أجرت عدة تغييرات، وأعلنت فك ارتباطها بـ"القاعدة" في يوليو/تموز 2016. إلا أن كل هذه المحاولات لم تنجح في تعديل طريقة تعامل السوريين معها كتنظيم متشدد أسهم خطابه في بقاء بشار الأسد في السلطة. وانشق عن "هيئة تحرير الشام" العديد من الشخصيات التي رفضت "تساهل" الجولاني في العديد من القضايا، خصوصاً ما يتعلق بالتعاطي الإيجابي مع الاتفاقات التركية الروسية الخاصة بمحافظة إدلب. وشكلت هذه الشخصيات تنظيماً أكثر تشدداً، سرعان ما جذب إليه مجموعات جهادية متعددة، بينها "حراس الدين"، الذي يواجه هو الآخر العديد من الأزمات، والتي من المتوقع أن تقلص دوره إلى الحدود الدنيا، وربما تلاشيه. وقد وضعت واشنطن قيادات هذا التنظيم المتشدد في بنك أهداف طيران التحالف الدولي في سورية، حيث جددت، منذ أيام، تخصيص ملايين الدولارات لمن يساعد في القبض، أو التخلص من أبرز متزعمي هذا التنظيم، وهم: سامي العريدي (أردني)، وأبو عبد الكريم المصري (مصري)، وفاروق السوري (سوري). كما تقف "هيئة تحرير الشام" حجر عثرة أمام تنظيم "حراس الدين"، حيث تحاول الحد من تأثيره من خلال القوة العسكرية الكبيرة التي تمتلكها. ولجأت "الهيئة" إلى القوة، منتصف العام الحالي، لمنع تشكيل غرفة عمليات، حملت اسم "فاثبتوا"، ضمّت فصائل متشددة، أبرزها "حراس الدين".
من جانبه، بيّن الباحث السياسي السوري عرابي عرابي، في حديث مع "العربي الجديد"، أن هذه التنظيمات "تعاني من أزمة انقطاع مع المجتمع السوري". وأوضح أن لديها رؤى للتغيير مخالفة لرؤية هذا المجتمع الذي فرضت نفسها عليه، معتبراً أنه لا يوجد لهذه التنظيمات جذور في سورية تساعدها على البقاء. وبيّن أن هذه التنظيمات "سريعة التفكك والتشظي". وقال: لديها أزمة قيادة، لأنها تعود في كل القضايا الى تنظيم "القاعدة"، وهو ما يستهلك وقتاً من أجل الحصول على التوجيهات. وأوضح أن هذه التنظيمات "لديها رؤية متطرفة وقاتلة"، مضيفاً: هي مستهترة بالدماء، وهذا أمر يدفع الناس للابتعاد عنها.