تحولت العلاقة بين رئيس الجمهورية التونسي قيس سعيّد، ورئيس الحكومة هشام المشيشي إلى ما يشبه لعبة الشطرنج، كل واحد منهما يحاول أن يضع الآخر في زاوية حادة ليدفعه إلى الاستسلام. وما قصة أداء الوزراء الجدد لليمين سوى مثال معبّر عن هذه الأجواء المتقلبة. لقد انقضت أيام عديدة على تزكية الوزراء الجدد من قبل البرلمان، لكنهم بقوا عاجزين عن ممارسة مهامهم بسبب امتناع رئيس الجمهورية عن استقبالهم لأداء القسم أمامه. لا أحد يستطيع معرفة متى تسدل ستارة المسرح حتى ينتقل التونسيون إلى المشهد التالي.
تتواصل أزمة الثقة بين الرؤساء الثلاثة. ما يجري بينهم من مناورات، تحوّل إلى معضلة من شأنها أن تعطّل الدولة ومؤسساتها. الجميع بدأوا يفقدون الإحساس بأهمية الزمن في بلد يعاني من تحديات ضخمة على مختلف الأصعدة. فالحكومة تكاد تصاب بالشلل. وإذا كان ذلك عملاً مقصوداً عن وعي وإصرار، فإنّ الغاية منه خنق الحكومة والدفع بها نحو الاستقالة أو الإقالة، وسحب الثقة منها بحجة أنها لم تعد قادرة على التعاون مع رئيس الجمهورية ومعالجة مشكلات التونسيين.
أوساط عديدة تعتقد أنّ رئيس الحكومة استعجل بإجراء تعديل وزاري واسع
لكن على الرغم من ذلك، لا تستمدّ الحكومة قوتها من رئاسة الدولة في نظام برلماني. بإمكان مجلس النواب أن يقف في صف الحكومة لمنع رئيس الدولة من إسقاطها. مع ذلك، يستطيع قيس سعيّد أن يستعمل بعض صلاحياته من أجل محاصرة رئيس الحكومة، وتعطيل جزء من خططه، وإظهاره أمام الرأي العام في صورة العاجز، وتحميله مسؤولية الفشل في تلبية مطالب المواطنين.
بدأت أوساط عديدة تعتقد أنّ رئيس الحكومة قد استعجل بمسألة اللجوء إلى إجراء تعديل وزاري واسع، خصوصاً أنّ العديد من الوزراء الذين تمت إقالتهم كانوا من رجال الرئيس وبعض المقربين منه. كان هذا رأي الأمين العام لاتحاد الشغل، نور الدين الطبوبي، الذي كان قد دعا المشيشي إلى تأجيل قراره المتعلق بالتعديل الوزاري، لكن هذا الأخير لم يقتنع بوجهة النظر هذه.
كما أنّ بعض الوزراء الجدد تم اقتراحهم من قبل حزام المشيشي السياسي، وتحديداً حزب "قلب تونس" وحركة "النهضة" اللذين لهما خلافات كبرى مع قيس سعيّد. وهو ما زاد من حالة التوتر لدى الأخير، خصوصاً بعد الدعم البرلماني المريح الذي حصل عليه التعديل. إلا أنّ الرئيس استغلّ ملفات الوزراء المعيّنين، ووجه إليهم تهمة وجود شبهات تضارب مصالح مفترضة، ليقلب بذلك الطاولة على خصومه، ويرفض تمرير التعديل. هكذا انقلب السحر على الساحر، ووجد المشيشي، بمعية حزامه السياسي، نفسه في ورطة من الناحية العملية.
استاء قيس سعيّد كثيراً من مواقف رئيس البرلمان راشد الغنوشي، خصوصاً بشأن ما جاء في تصريحات أخيرة له، طالب فيها بنظام برلماني خالص في تونس، وأشار إلى أنّ دور الرئيس في هذا النظام "رمزي لا غير". وهو ما زاد من توتير الأجواء بين قصري قرطاج وباردو، في ظلّ ظروف تتواصل خلالها حالة الاضطراب والاشتباك بين الكتل داخل المؤسسة البرلمانية.
في المقابل، أخذ المشيشي يتقدّم بحذر نحو "الإجراء المستحيل"، إذ وجه رسالة أولى إلى رئيس الدولة يطلب منه فيها تحديد موعد القسم، لكنه لم يلق جواباً. أعاد الكرة ثانية، ثمّ تقدم باستشارة إلى المحكمة الإدارية بعد أن لقي دعماً من قبل العديد من خبراء القانون الدستوري، الذين شجعوه على تجاوز رئيس الدولة، وأن يطلب من الوزراء أداء القسم أمامه، وبعدها مباشرة يتولون مهامهم الجديدة. كذلك ذهب شخص في حجم الخبير الدستوري عياض بن عاشور إلى حدّ القول إنه يمكن إقالة رئيس الجمهورية بحجة ارتكاب جريمة دستورية وصفها بـ"الخطأ الجسيم".
هناك من يعمل على إخراج الخلافات من داخل المؤسسات والأطر الضيقة، والنزول بها إلى الشارع
لكن من يقدر أن يخطو خطوة في هذا الاتجاه؟ ومن يمكنه سحب الشرعية من رئيس يتحدث باسم ثلاثة ملايين من الناخبين؟ ألا يعتبر ذلك مجازفة يصعب التكهن بنتائجها وتداعياتها على هذا البلد المنهك، وقد تُدخل البلاد في مأزق سياسي خطير.
لا يمكن أن تدار تونس بهذه الطريقة. الصراع الدائر لا يمكن معالجته عبر الفتاوى القانونية والدستورية، على الرغم من أهمية الدستور. الأزمة سياسية بامتياز، لهذا وجب أن يكون الحل سياسياً، وأن تراعى فيه مصالح تونس وحماية الانتقال الديمقراطي وهشاشة الأوضاع. هناك من يعمل على إخراج الخلافات من داخل المؤسسات والأطر الضيقة، والنزول بها إلى الشارع. هناك شعارات تم رفعها خلال التظاهرات الأخيرة، بعضها ليس بريئاً في مقاصده ودلالاته، إذ فيه تلويح بسيناريو خطير عندما تتم الدعوة إلى حل البرلمان، أو يرفع شعار آخر يتعلق بحل الأحزاب. وهناك من دعا إلى إسقاط النظام والمنظومة، في حين أنّ بعض الشعارات لم يتم حذفها من الموقع الرسمي لرئاسة الجمهورية. وهو ما فاجأ المراقبين، وجعل بعضهم يتساءلون: هل ذلك من باب السهو؟ أم أنّ تكراره في أكثر من مناسبة تلويح بسيناريوهات واردة في المدى المنظور؟