الأسير وليد دقة... ميلاد ما بين إعدام ومؤبد

رام الله
مالك
مالك سمارة
صحافي وباحث فلسطيني.
17 ابريل 2023
الأسير وليد دقة.. مسيرة نضالية طويلة وموعد لم يتحقق بعد مع التحرير
+ الخط -
اظهر الملخص
- وليد دقة، الذي تحول من حياة بسيطة إلى المقاومة بعد تأثره بأحداث حرب لبنان ومجزرة صبرا وشاتيلا، قضى 37 عامًا في السجن حيث استخدم الكتابة كوسيلة للتعبير عن معاناة الشعب الفلسطيني.
- على الرغم من الحكم بالإعدام الذي تم تخفيفه إلى المؤبد، استمر دقة في الكتابة داخل السجن، مؤكدًا على أهمية الإنسانية والتعاطف في مواجهة القمع والاحتلال.
- قصة دقة تبرز النضال من أجل الحرية والكرامة ضد القمع، حيث استطاع أن يترك بصمة من خلال كتاباته وحياته داخل السجن، ملهمًا الكثيرين بقصته حتى بعد استشهاده في 7 إبريل 2024.

أعترف بأني لم أخطط لأي شيء، لا أن أكون مناضلاً أو عضوًا في فصيل أو حزب ولا حتى أن أتعاطى السياسة، ليس لأنّ كل هذا خطأ، أو أنّ السياسة أمر منكر ومبغوض كما يحلو للبعض أن يراها، بل لأنها كانت بالنسبة لي مواضيع كبيرة ومعقدة، أنا لستُ مناضلاً أو سياسيًا مع سبق الإصرار والترصد، بل أنا ببساطة كان من الممكن أن أكمل حياتي كدهان أو عامل محطة وقود كما فعلت حتى لحظة اعتقالي.. وكان من الممكن أن أتزوج زواجًا مبكرًا من إحدى قريباتي كما يفعل الكثيرون، وأن تنجب لي سبعة أو عشرة أطفال.. كل هذا كان ممكنًا، إلى أن شاهدت ما شاهدته من فظائع حرب لبنان وما أعقبها من مذابح- صبرا وشاتيلا

وليد دقة: الزمن الموازي

_________________

الاختراق الأول

قلّة من بعد ضابط الإبادة النازي أدولف أيخمان حكمتها إسرائيل بالإعدام، حينما صار الفلسطينيون، بكلمات محمود درويش، "ضحايا من احتكر دور الضحية". هذا الحكم، الموروث من الأب الاستعماري البريطاني، نُحّي عرفًا وحسب، ليس لاعتبارات عقائدية فقط، ولا توسّلًا لإنسانوية "العالم الحر"، ولا لأن الديمقراطيات الاستعمارية الحديثة أوجدت سبلًا أكثر "حنكة" و"كتمانًا" من القتل بمشهدية القرون الوسطى، بل أيضًا لأن ذلك لا يوفّي ضروراتها الأمنية؛ إذ يعرض القتيل في صورة البطل، ويزيّن في عيون الجميع استلهامه. وقد كان هذا في صلب النقاش الإسرائيلي الأخير حول تشريع هذه العقوبة بحقّ الأسرى. لكن الإعدام لم يُلغَ فعليًّا؛ فحتى اليوم يسمح القانون الإسرائيلي بإنزال عقوبة الموت في حالات "الجرائم ضد الشعب اليهودي"، وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، والإبادة الجماعية، وكذلك "الخيانة". كان وليد دقة، ابن باقة الغربية، إلى جانب محمود بكر حجازي، أصيل حي المصرارة في القدس، وكريم وماهر يونس، من عارة، من بين تلك القلّة.

لا عجب إذًا أن تكون الغالبية العظمى ممّن حوكِموا بالإعدام من فلسطينيي الداخل (صدر حُكم آخر بحقّ الأسير سعيد بدارنة في 1994، حينما دخلت المقاومة طور العمليات الفدائية وأعوز إسرائيل الردع). لم يصدر الحُكم إلا ليُستأنف، وليحمل في الجوهر رسائل بـ"الخيانة"؛ وفي ذاكرة الفلسطينيين الباقين من حملة التطهير العرقي خلال 1948 وصوم إسرائيلية كثيرة من هذا القبيل، بدءًا من "الطابور الخامس"، وهذا ما قالته رئيسة الحكومة الإسرائيلية في حينه غولدا مئير في رسالة مؤرشفة من عام 1951 تحذّر من لمّ شمل المهجّرين بأهلهم في الداخل، إلى وصفهم بـ"التهديد الوجودي"، وهذا ما قاله رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو في مؤتمر لحزب "الليكود" قبيل انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني 2021. إلا أنها ليست "خيانة" لدولة إسرائيل، وإنما للدور الوظيفي الذي رُسم سلفًا لفلسطينييها، "كمواطنين" من الدرجة الثانية، منسلخين تمامًا عن امتدادهم القومي، وعن حقوقهم الجوهرية، بما فيها المقاومة.

يمكن القول إن وليد دقة، برفضه حياة الهوامش تحت شرطية الاستعمار الإسرائيلي، بميلاده النضالي تأثّرًا بمجزرة صبرا وشاتيلا، بإنتاجه الأدبي المقاوم خلال 37 عامًا من الأسر، وصولًا إلى آخر المعارك التي يخوضها الآن، ببقية ما ترك له السرطان، بحثا عن لحظة يقضيها بين عائلته غير مقيّد- هو السيرة المضادّة للدور الوظيفي الذي أرادت إسرائيل تنميطه، بشعار "اقتل العربي من الداخل"، في أولئك الذين لم تستطع قتلهم أو تهجيرهم خلال النكبة.

الجوهر الإنساني

المقولة ذاتها تتكرّر في الأدبيات الإسرائيلية حول عقوبة الإعدام: "ذلك من شأنه أن يمنحهم رمزية الشهيد ويحوّلهم إلى أيقونة تحتذى". نقرأ هذا، مثلًا، في ورقة تقدير موقف للجنة القانونية في "الكنيست" من عام 2013، وفي دراسة لـ"المعهد الإسرائيلي للديمقراطية" منشورة عام 2018، وفي ورقة للحقوقية الإسرائيلية سمادار بن ناتان. يبرز هذا المأخذ كاحتراز أمني، بقدر ما ينطوي على عقوبة أيضًا، مؤداها "الحرمان من صورة الشهيد/البطل". لماذا تُلفّ الحبال على الأعناق، وهناك في السجون من "الخنق" والكبت والعتمة، ومن التغييب المادي والروحي، ومن أدوات الضبط وبواتق الصهر، ما قد يكون أكثر إماتة من الإعدام؟

لقد رأى وليد دقة ذلك قبلنا جميعًا، حين كتب أن الجوهر الإنساني بالذات هو المستهدف في حياة السجين مع تعاقب الساعات والأيام والسنوات: "أنت لست مستهدفًا ككائن سياسي بالدرجة الأولى، وأنت لست مستهدفًا ككائن ديني أو كائن استهلاكي تمنع عنه ملذات الحياة المادية. قد تتبنى أي قناعة سياسية تريد ويمكنك أن تمارس شعائرك الدينية، وقد يتوفر لك الكثير من الاحتياجات الاستهلاكية، لكن يبقى المستهدف بالدرجة الأولى الكائن الاجتماعي والإنسان فيك". السجن، إذًا، في فهم وليد دقة، هو عملية قتل للجوهر، ولفكرة الحياة بما كانت عليه من تواصلية رمزية وتفاعل مستمرّ مع الأشياء، لذا، بالنسبة له، كان "الشعور بأحزان الناس.. أي ناس، وتبلد المشاعر أمام مشاهد الفظائع.. أي فظائع، هاجسًا يوميًا، ومقياسًا لمدى صموده وصلابته".

السجن إذًا، ربطًا بما تقدّم، هو إزاحة عنيفة من صورة "الشهيد الحي" إلى قتام التغييب والنسيان. وهذا امتحان نفسي يسري علينا أيضًا، نحن الذين لا نرى القضبان من حولنا، قبل أن يسري على القابعين داخلها. إذا كان الإعدام يولّد شعورًا عامًّا بالصدمة والغضب، ويقدح رغبات التأسّي والثأر، فإن السجن يضعنا جميعًا أمام اختبار "الكف عن الشعور بالصدمة والذهول، وتبلد المشاعر أمام مشاهد الفظائع" التي يقاسيها أولئك المغيّبون عن يوميّاتنا، داخل السجون الإسرائيلية.

تبلغ تلك الفظائع أشدّها حينما يرى الأسير نفسه، بعد أعوام الأسر الطويلة، مصفّدًا إلى سرير، وليس حوله إلا قلة ممن يسمح الاحتلال بإدخالهم من الأهل، وقد لا يرى غده، بعدما كان، بالأمس، يعُدّ الأشهر الأخيرة من محكوميته. هذه هي الانعطافة التراجيدية التي بلغتها قصّة وليد دقة، بعد مسيرة نضالية طويلة. الآن، بعد 37 سنة من "تخفيف" حكم الإعدام، قد يصبح وليد دقة ثاني أسير يُعدم بصمت على سرير المرض خلال نحو عام، بعدما أعدم ناصر أبو حميد صمتًا بالأمس القريب.

اجتراح الشهادة

يمكن القول إن الحرمان من صورة "القدّيس الشهيد" (كما تسمّى في الأدبيات الإسرائيلية)، بعد استئناف حكم الإعدام، كان من أجل مشهدية كهذه يكون فيها دقة رهينة إعدام بطيء، ابتدأ من لحظة صدور حكم المؤبد، وانتهى، مع اقتراب انتهاء المحكومية، إلى فيروس مسرطن، فيه من الندرة قدرَ ما فيه من الريبة؛ ناهيك بأن بيئة السجون مسرطنة بالأساس، ثم ناهيك بالإهمال الطبي المتعمد. ولنا أن نتأمّل ما تستبطنه هذه المشهديّة الأخيرة، بالأساس، من قهر عنيف، وإسرائيل تنظر الآن إلى ضحيتها تحتضر في أسرّتها، وتحت كمامات الأوكسجين خاصّتها، وعين أجهزتها الطبية الحديثة، بينما تحتاج أدويتها للنجاة؛ إذا لا علاج للسرطان النخاعي الذي استوطن جسد وليد دقة، بعد سرطان الدم الذي يصارعه منذ نحو 8 سنوات، إلا الأدوية.

يكشف هذا الكلام ما في حالة وليد دقة من عنف وإماتة وألم، بقدر ما يضيء أيضًا على ما تختزنه من جلَد وكفاح، وابتكار لأسباب الحياة من داخل تلك المقابر المسيّجة، حيث اختطّ دقة سيرته، وترك أعظم أثره، رغم تقنيات الإخضاع واليأس، ومنظومة الإماتة الممنهجة، والتعذيب اليومي الذي يأتي "يعيش معك رفيق الزنزانة والزمن والباحة الشمسية والوفرة المادية النسبية"، كما يشرح دقة في كتابه "صهر الوعي". 

تنطوي حياة وليد دقة على مفارقة لافتة؛ ذلك بأن السنوات التي قضاها خارجه تكاد تغيب تمامًا عن مواجز السيرة التي نقرأها هنا وهناك؛ نحن لا نعرف الكثير عن نشأته وشبابه، وهو الذي عاش كأي إنسان يومي في الداخل، عاملًا بلا شهادة جامعية، متنقّلًا بين عدة حرف لكسب قوت يومه. السجن كان لحظة الميلاد؛ هنالك أتمّ تعليمه حتى درجة الماجستير في العلوم السياسية، وترك إرثًا معرفيًا غزيرًا، قياسًا على الظروف التي اضطرته أحيانًا لتسجيل الكلام على كفّ يده، ثم الاتكال على ذاكرة زوجته، سناء. من واقع السجن، كتب رسالة الزمن الموازي إلى عزمي بشارة، وفيها يجرّد مفهوم الزمن في المأسر عن الدقائق والأحداث التي نعيشها خارجه؛ وحكاية سرّ الزيت، التي كانت العمل الأول لليافعين ضمن أدب السجون الفلسطيني، ودراسة "صهر الوعي، أو إعادة تعريف التعذيب"، التي نشرت في مركز الجزيرة للدراسات وقدّم لها بشارة، وفيها إضاءات كاشفة لكلّ أسير محتمل عمّا ينتظره داخل الزنازين من تعذيب ملتبس، لا مرئي- أو "حداثوي"، بتعبير دقة نفسه.

إذًا، لمّا كان عزوف إسرائيل عن الإعدام، في أحد تصريفاته، حرمانًا للفلسطيني من الشهادة/البطولة، ولمّا كانت غاية إسرائيلة السجّانة/الدولة من تلك القضبان قتلًا أشدّ إماتة، أو كما يقول دقة في كتابه عن التعذيب، "إعادة صياغة البشر وفق رؤية إسرائيلية عبر صهر وعيهم"، كان البحث عن منافذ للحياة –تلك الاجتماعية التي يعيشها أيّ منّا، كزواجه وزفافه داخل أروقة سجن عسقلان ثم إنجاب طفلته ميلاد بالنطف المهرّبة، وتلك الجوهرية المتمثّلة في الكتابة وصقل الوعي والمقاومة اليومية- حيلة وليد دقة للانتصار على سجّانه. للشهادة في الواقع، كما في اللغة، تصريفات كثيرة أيضًا، وفي قصّة وليد دقة الكثير من الإلهام هنا؛ فهو على مدار السنوات السبع والثلاثين الماضية، كان يفعل ما يفعله الشهداء تمامًا: كان يرفض الموت الذي يُفرض عليه يوميًّا.

* استشهد الأسير وليد دقة في 7 إبريل 2024 في سجون الاحتلال

ذات صلة

الصورة
جنود الاحتلال قرب مقر أونروا في غزة بعد إخلائه، 8 فبراير 2024 (فرانس برس)

سياسة

أقر الكنيست الإسرائيلي، مساء اليوم الاثنين، تشريعاً يحظر عمر وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين التابعة للأمم المتحدة (أونروا) داخل الأراضي المحتلة.
الصورة
آلية عسكرية إسرائيلية قرب حدود قطاع غزة، 6 أكتوبر 2024 (ميناحيم كاهانا/فرانس برس)

سياسة

شهر أكتوبر الحالي هو الأصعب على إسرائيل منذ بداية العام 2024، إذ قُتل فيه 64 إسرائيلياً على الأقل، معظمهم جنود، خلال عمليات الاحتلال في غزة ولبنان والضفة.
الصورة
عماد أبو طعيمة لاعب فلسطيني استشهد في غزة 15/10/2024 (إكس)

رياضة

استشهد لاعب نادي اتحاد خانيونس، عماد أبو طعيمة (21 عاماً)، أفضل لاعب فلسطيني شاب في بطولة فلسطين للشباب 2022، وذلك في قصف إسرائيلي جنوبي قطاع غزة.

الصورة
تأثر بشار الشوبكي نجم منتخب فلسطين بتوقف الدوري المحلي (العربي الجديد/Getty)

رياضة

أسفر توقف المنافسات الكروية المحلية على أرض فلسطين المحتلة، عن آثار متفاوتة، خصّت أكثر من ستة آلاف لاعب كرة قدم يمارسون اللعبة في البلاد مع فرقهم.