قضت المحكمة العليا الأميركية، الجمعة، بأن الإجهاض ليس حقا دستوريا للمرأة بحماية القانون الفيدرالي، وتركت الأمر لكل ولاية للتدبر بشأنه، لتكون بذلك تراجعت عن قرارها قبل 50 سنة الذي كان قد أكد العكس.
وكانت المحكمة أصدرت، الخميس، حكماً يؤكد على حق المواطن في حمل السلاح في الأماكن العامة لـ"الدفاع عن نفسه"، والذي يجيزه التعديل الثاني للدستور.
حسمها بهذا الشكل في القرارين كان متوقعاً، لكنه مع ذلك أحدث هزة باعتباره ليس فقط خروجاً على المعمول به، بل أيضا لأنه لا يقلّ عن عملية تحوّل متعمّد عن سابق تصور وتصميم ومفتوح على تداعيات اجتماعية وسياسية، وربما أمنية خطيرة حسب الردود: الأول رجوع إلى الوراء وتفريط بحريات مكتسبة بالنسبة لمعظم الأميركيين، والثاني تطور لا يتفق مع الحس العام ومنطق القانون في زمن يفترض أن يكون الفرد في حماية القانون وليس المسدس الشخصي، خاصة في أماكن التجمع العام والمدن والملاعب الرياضية وغيرها، التي يقوم فيها رجال الأمن بتوفير السلامة للناس.
وليس صدفة أن يأتي تصويت المحكمة على القرارين بصورة تعكس تركيبتها: القضاة الستة المحسوبون على خندق المحافظين صوتوا (مع)، والثلاثة الباقون المحسوبون على الخط الليبرالي صوتوا (ضدّ).
صحيح أن مثل هذا الانقسام يحصل في قضايا كثيرة تنظر فيها المحكمة، لكنها نادرا ما قررت في أمور مشحونة سياسياً كما هي حال هذين الملفين، وفي ظرف انقسامي عميق كالذي تمر به أميركا اليوم. الأهم أنه لم يسبق أن نظرت المحكمة العليا في دعاوى سبق لثلاثة من أعضائها المحافظين، الذين عُيِّنوا في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، أن أعطوا شبه تعهّد خلال جلسات امتحانهم أمام اللجنة العدلية في مجلس الشيوخ بأن "يحترموا" قرار المحكمة الذي يؤكد على حقّ المرأة في الإجهاض.
وكان تردد في حينه أن اختيارهم جرى على أساس التزامهم المسبق بالتصويت لنسف قرار الإجهاض، كما لم يسبق أن ذهبت المحاكم عموما في أميركا إلى أبعد من السماح لبعض الأفراد بحمل سلاح فردي شرط الحصول على رخصة من السلطات المعنية تكون مبنية على "مبرر" أمني وشهادة حسن سلوك.
الخروج الآن عن المألوف والسائد في القضيتين ترك الانطباع بل الاعتقاد بأن الحيثيات السياسية في القرارين كانت المحرك الأقوى أكثر من الحيثيات القانونية، وبأن ما تعذرت على الجمهوريين والمحافظين قوننته عبر الكونغرس، يعملون على تمريره وفرضه عبر المحكمة العليا التي تكتسب قراراتها مفعول القانون النافذ ما لم يصوّت الكونغرس على قوانين مخالفة لها، باعتباره المرجعية القانونية الأعلى.
المحكمة العليا التي تشكل قمة السلطة القضائية الأميركية تعتبر صمام الأمان في حماية الدستور، وبالتالي في تحقيق التوازن بين السلطات، وبما يؤدي إلى الحفاظ على الاستقرار واستمرار الانتظام في آليات النظام.
وبذلك، احتلت المحكمة تاريخياً منزلة عالية وحظيت بثقة واسعة جعلتها صمام أمان، ولو أن التعيينات فيها لا تخلو من الحزبية بحكم أن الرئيس هو الموكول له اختيار قضاة المحكمة العليا لسدّ الشغور، شرط موافقة مجلس الشيوخ. ومن الطبيعي أن يسمّي القاضي الأقرب إلى حزبه أو أقله القاضي الوسطي غير المناوئ له، وبذلك كان لا بد من أن تنعكس الحزبية أحيانا على قراراتها، خاصة في القضايا الرمادية، حيث تتوفر مساحة للاجتهاد المقبول. وتبدّى ذلك مثلاً في تصويت المحكمة في قضية النزاع على عدّ الأصوات في ولاية فلوريدا في انتخابات الرئاسة عام 2000 بين جورج بوش الابن وأل غور، والتي صوتت أكثرية أعضائها الجمهوريين آنذاك لصالح الأول، مع أن قضيته لم تكن متماسكة كفاية قانونياً.
لكن في الآونة الأخيرة صار التعيين الحزبي المكشوف قاعدة وشبه مشروط بعدم الوقوف ضد خطّ الرئيس الذي اختاره، خاصة تعيينات الرئيس دونالد ترامب، والتي بدّلت الميزان بقوة 6 مقابل 3 لصالح المحافظين.
صحيح أن المحكمة أخذت قرارات مقبولة ولغير ترامب في دعاوى انتخابات 2020، لكنها نأت عن النظر فيها لاجتناب التصويت ضده.
على هذه الأرضية جاءت أحكامها الجمعة والخميس بخصوص الإجهاض والسلاح، لتثير موجة واسعة من الاعتراض الممزوج بالغضب.
وصولها إلى هذا الحدّ أثار التوجس من أن يكون ذلك بداية توجه للمحكمة يرمي إلى فرض النموذج المحافظ على طريقة الحياة الأميركية، وما يقتضيه ذلك من قضم للحريات الشخصية التي تحققت، خاصة المتعلقة بالمرأة.
وقد حفلت الردود بكثير من التوتر والنفور والمخاوف من أن تكون المحكمة قد افتتحت بذلك حقبة جديدة تتمثل في قيامها بدور سياسي يرتدي ثوب القانون، ويؤدي في النهاية إلى خضات اجتماعية وأمنية مع ما تنطوي عليه من مضاعفات في وضع سريع الالتهاب.
وهذه نقطة لفت إليها الرئيس بايدن الذي ناشد المتظاهرين من الطرفين الابتعاد عن العنف والاكتفاء بالتعبير "السلمي" عن الموقف، فهو يعرف مدى احتقان الوضع أصلاً.
وبصدور القرارين ارتفع المنسوب، وإلى مزيد من الارتفاع، عندما تبدأ السلطات المختصة في الولايات التي يمتلك الجمهوريون الأغلبية في الكونغرس المحلي فيها بترجمة أحكام المحكمة العليا ونقلها إلى حيز التنفيذ. أما بالنسبة لبايدن وحزبه فقد يكون هذا التطور من نوع "ربّ ضارة نافعة"، إذ لو ساعدت الظروف وأحسن الديمقراطيون توظيفه فقد يتحول إلى بند انتخابي فعّال يمكن أن ينقذهم من هزيمة محققة في انتخابات الكونغرس في نوفمبر/ تشرين الثاني القادم.