مع دخول الحرب الروسية على أوكرانيا أسبوعها الثاني، اليوم الخميس، بات واضحاً أن السيناريوهات والأهداف تختلف هذه المرة تماماً عن الحرب الروسية مع جورجيا في عام 2008، حينما شنّت موسكو عملية عسكرية استمرت خمسة أيام فقط، وفرضت من خلالها واقعاً سياسياً جديداً، واعترفت باستقلال إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية عن تبليسي.
كما أن الحرب الأوكرانية اختلفت عن مثيلتها الجورجية، من جهة إبداء الغرب حزماً أكبر في فرض عقوبات اقتصادية غير مسبوقة على موسكو. بينما أظهر الجيش الأوكراني درجة غير متوقعة من القوة العسكرية والولاء للقيادة السياسية للبلاد. وجاء ذلك على عكس ما راهن عليه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، عند توجيهه دعوة صريحة إلى العسكريين الأوكرانيين للانقلاب على الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وعدم الامتثال لأوامر من وصفهم بـ"الزمرة".
ولعل تعقيد الوضع الميداني وإقرار وزارة الدفاع الروسية بمقتل نحو 500 من عسكرييها منذ بدء العملية العسكرية، هو ما دفع موسكو إلى تعزيز الجهود التفاوضية وعقد المفاوضات مع الوفد الأوكراني في بيلاروسيا، والتي انعقدت أولى جولاتها يوم الإثنين الماضي، والثانية (متوقعة) اليوم.
رهانات بوتين في الداخل الأوكراني
ورأى الخبير في شؤون أوروبا الشرقية والوسطى، إيفان بريوبراجينسكي، أن الغزو الروسي لأوكرانيا كان متوقعاً، لكن ليس على هذا النطاق، معتبراً أن بوتين يراهن على القوى الموالية لروسيا في الداخل الأوكراني ووصولها إلى السلطة.
الحرب الأوكرانية اختلفت عن مثيلتها الجورجية، من جهة إبداء الغرب حزماً أكبر في فرض عقوبات اقتصادية غير مسبوقة على موسكو
وقال بريوبراجينسكي، في حديث لـ"العربي الجديد" من العاصمة التشيكية براغ: "كنت أتوقع أن تقدِم روسيا على غزو أوكرانيا، ولكن ليس بهذا النطاق، حيث كنت أرجح وقوع غارات جوية فقط. لكن غزو أوكرانيا كان أمراً حتمياً مع التساؤلات فقط عن موعد ذلك، وما إذا كان سيحدث الآن أو في نهايات الربيع أو في الصيف".
وحول توقعاته للخطط الروسية في أوكرانيا المستقبلية بعد الحرب، قال: "لا يجري الحديث عن الاحتلال بالمعنى الحرفي للكلمة، بل فرض شبه محمية، مع الإبقاء على فرصة للانسحاب من البلاد". وأضاف: "يبدو أن بوتين يراهن على أن أوكرانيا تحتضن ما يكفي من القوى الموالية لروسيا حتى تتولى السلطة وتحافظ عليها، مع الإبقاء على القوات الروسية على امتداد الحدود الأوكرانية الخارجية". لكنه رأى أنه "مع ذلك، لا يزال هناك خطر الاحتلال الكامل، وضم المناطق الجنوبية في المستقبل والممر عبر مدينة ماريوبول إلى شبه جزيرة القرم وحصول قطع من الأراضي المتلاحمة بالقرم التي تمر بها قنوات نهر دنيبر المزودة القرم بالمياه".
تحدي الهيمنة الأميركية
على الصعيد الدولي، تتبلور ملامح أهداف موسكو التي تذهب أبعد من غزو أوكرانيا، بل تمتد إلى إعادة النظر في هزيمة موسكو في "الحرب الباردة" بعد تفكك الاتحاد السوفييتي وتحدي الهيمنة الأميركية في النظام العالمي الجديد.
ومن المؤشرات الداعمة لهذه الترجيحات، استعراض روسيا عضلاتها النووية بعد إصدار بوتين، يوم الأحد الماضي، أمراً بتحويل قوات الردع التابعة للجيش الروسي إلى حالة "النظام الخاص لأداء الدورية القتالية"، بينما حذّر وزير خارجيته، سيرغي لافروف، من أن "الحرب العالمية الثالثة في حال وقوعها، ستكون باستخدام أسلحة نووية".
وفي موسكو، اعتبر المحلل السياسي المتخصص في الشأن الأوكراني، ألكسندر تشالينكو، أن الحرب الحالية ليست تلك التي تنتهي بالمفاوضات بين الطرفين المنتصر والخاسر، ولن تغير ملامح الدولة الأوكرانية فحسب، وإنما النظام العالمي بأسره. وقال تشالينكو، في حديث لـ"العربي الجديد"، إنه "حتى إذا بقيت هناك دولة تسمى أوكرانيا بعد هذه الحرب، فإنها ستكون بلداً مختلفاً تماماً، وأشبه بمحمية روسية".
وفي ما يتعلق بالنتائج الدولية طويلة الأجل للحرب الروسية على أوكرانيا، أضاف تشالينكو: "ستؤدي هزيمة أوكرانيا إلى إعادة بناء النظام العالمي، حيث لن تعود الولايات المتحدة هي التي تحدد الرأي العام العالمي، بعد عجزها عن حماية أفغانستان ثم أوكرانيا". وبرأيه، فإنه "صحيح أنه يتم فرض عقوبات على روسيا، ولكنها أليمة لأوروبا نفسها، حيث تردّ عليها روسيا بالمثل، وهي ستغلق مجالها الجوي أمام شركات الطيران الغربية التي اعتمدت دوماً على الأجواء الروسية لتنفيذ الرحلات إلى الصين وغيرها من الدول في شرق آسيا". كما يصعب، بنظره، "تصور استغناء ألمانيا التي تعتمد الاقتصاد الأخضر، عن مشروع السيل الشمالي 2 لنقل الغاز الروسي، وعدولها عن مشروعها أن تصبح أكبر مجمع للغاز في أوروبا".
الغرب أمام اختبار
في المقابل، يمضي الغرب قدماً في تضييق الخناق على الاقتصاد الروسي، مع الإعلان عن مجموعة من العقوبات غير المسبوقة، بما فيها قطع بعض المصارف الروسية عن نظام "سويفت" العالمي للتحويلات المالية، وتجميد أصول المصرف المركزي الروسي، وإغلاق أجواء ومطارات الاتحاد الأوروبي أمام الطائرات الروسية.
ألكسندر تشالينكو: الحرب الحالية لن تغير ملامح الدولة الأوكرانية فحسب، وإنما النظام العالمي بأسره
واعتبر الصحافي الأوكراني فيتالي بورتنيكوف، أن الحرب الروسية على أوكرانيا تشكل اختباراً للغرب ومدى جديته في معاقبة موسكو، معرباً عن دهشته من عدم اعتراف روسيا بزيلينسكي رئيساً شرعياً، على الرغم من فوزه الكاسح في الانتخابات.
وقال بورتنيكوف، في اتصال مع "العربي الجديد" من مدينة لفيف الأوكرانية، إن "بوتين يراهن على استسلام أوكرانيا، كما أن روسيا لا تعترف بشرعية السلطة الأوكرانية، على الرغم من أن زيلينسكي فاز بأغلبية 73 في المائة من الأصوات في الانتخابات الرئاسية الأخيرة". ورأى أن أوكرانيا "أمام خيارين اليوم، إما أن تستسلم وتصبح بلداً تحت الاحتلال، وإما أن تواصل المقاومة".
وعلّق بورتنيكوف على مهمة الغرب في خنق روسيا اقتصادياً، مضيفاً أن "لحظة الحقيقة حانت للغرب والاختبار لحزمه في مواجهة روسيا، والرهانات اليوم أعلى كثيراً مما كانت عليه في الحالة الجورجية في عام 2008".
ومن مؤشرات تأثر الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الروسية بالحرب على أوكرانيا والعقوبات الغربية، حالة الذعر التي سادت الأسواق الروسية منذ بدء الغزو قبل نحو أسبوع، وسط تراجع سعر صرف العملة الروسية الروبل إلى أدنى مستويات تاريخياً متجاوزة عتبة الـ100 روبل للدولار الواحد، والمعارضة الداخلية الواسعة للحرب.
ولعل هذا ما دفع السلطة الروسية إلى إبداء درجة عالية من الحزم، لمنع خروج أي تظاهرات رافضة للحرب، وتوقيف أكثر من 6400 شخص شاركوا في الفعاليات الاحتجاجية منذ بدء العمليات العسكرية، وفق أرقام موقع "أو في دي إنفو" الحقوقي.
انقسام داخلي روسي
رصد "العربي الجديد" أثناء جولة في وسط موسكو انتشاراً مكثفاً لعناصر الشرطة وقوات هيئة "الحرس الروسي"، وسط إغلاق الساحة الحمراء الكائنة بجوار الكرملين والمناطق المحيطة بها، وكذلك ساحة بوشكين التي تعد مسرحاً رئيسياً لاحتجاجات المعارضة الروسية.
فيتالي بورتنيكوف: الحرب الروسية على أوكرانيا تشكل اختباراً للغرب ومدى جديته في معاقبة موسكو
وأعرب أغلب المارة ممن تحدثوا لـ"العربي الجديد" وطلبوا عدم ذكر أسمائهم، عن معارضتهم شن بلادهم حرباً على أوكرانيا، إذ قالت مواطنة: "يجب ألا تكون هناك حروب في القرن الـ21، بل يمكن تسوية الخلافات عبر المفاوضات". وأضاف آخر: "يعتمد عملي على نظام سويفت بشكل مباشر، وإذا تم قطعنا عنه، ستتكبد شركتي خسائر فادحة وستغلق، وسأخسر أنا عملي". وقال ثالث: "أعارض الحرب، ولكنني لا أشعر بالتضامن مع أوكرانيا".
ومع ذلك، أكد البعض دعمهم للعملية العسكرية الروسية، ومنهم سيّدة قالت: "نحارب دفاعاً عن مواطنينا. على مدى ثماني سنوات، لم نتحرك لوقف قصف المدنيين في دونباس، وما كان لهذا الوضع أن يستمر إلى ما لا نهاية".
وفي الوقت الذي لم تنشر فيه نتائج استطلاعات رأي أجريت بعد بدء الحرب، إلا أن مدير عام "مركز عموم روسيا لدراسة الرأي العام" (حكومي)، فاليري فيودوروف، كشف أن الاستطلاعات الجارية حاليا تظهر أن 68 في المائة من المستطلعة آراؤهم يدعمون الأعمال الروسية، زاعما زيادة شعبية بوتين على إثرها.
وقال فيودوروف، في حديث لصحيفة "فيدوموستي" الروسية: "المستفيد من هذا الوضع هو الرئيس وحزبه (روسيا الموحدة). يجري ما يسمى الالتفاف حول العلم. عندما تدخل البلاد نزاعا عسكريا، فنسب تأييد القوى الحاكمة تزداد دائما".