الاحتجاجات على "صفر كوفيد" أكبر تحدّ للرئيس الصيني

30 نوفمبر 2022
الشرطة في أورومتشي الأحد الماضي (جوش هورفيتز/رويترز)
+ الخط -

طرحت الاحتجاجات الشعبية العارمة التي تشهدها الصين هذه الأيام ضد سياسة "صفر كوفيد"، تساؤلات حول فاعليتها في التأثير على صنّاع القرار لحثهم على العدول عن نهجهم المتشدد في مكافحة الوباء، وكذلك مدى حجم العقبات التي يمكن أن تضعها أمام القيادة الصينية الجديدة، التي لا تزال تنتظر موعد انعقاد مجلس النواب في شهر مارس/آذار المقبل، للمصادقة على التشكيل الحكومي الجديد الذي سيقود البلاد خلال السنوات الخمس المقبلة.

وعلى ضوء الاحتجاجات الواسعة، انتشر عناصر الأمن في العاصمة بكين ومدينة شنغهاي، أمس الثلاثاء، لمجابهة المحتجين على سياسة "صفر كوفيد" والإغلاقات الناجمة عنها، فضلاً عن التضييق على الحريات السياسية. ووفقاً لوكالة "فرانس برس"، فقد انتشرت مجموعات صغيرة من عناصر الشرطة عند كلّ مخرج مترو في المدينتين، وحالت دون خروج تظاهرة كانت مقررة أول من أمس الاثنين في بكين.

وفي هونغ كونغ التي هزتها احتجاجات معارضة للصين في عام 2019، تجمع العشرات في الجامعة الصينية الاثنين الماضي، تضامناً مع المتظاهرين وتكريماً لضحايا حريق في أورومتشي.

وهتف المتظاهرون "لا تشيحوا بنظركم. لا تنسوا". والأسبوع الماضي، نشب حريق في أورومتشي، عاصمة منطقة شينجيانغ، معقل الإيغور، ما أثار غضباً عاماً، مع اعتبار كثيرين أن الإغلاق العام بسبب مكافحة كورونا أعاق مهمّة فرق الإنقاذ.

واتهمت وزارة الخارجية الصينية، أول من أمس الاثنين: "قوى ذات دوافع مبيتة" بإقامة رابط بين هذا الحريق و"الاستجابة المحلية لكورونا"، وفقاً للمتحدث باسم الوزارة تشاو ليجيان.


ليو بينغ: لا تزال الاحتجاجات في إطار ردود الفعل العشوائية غير المنظمة

ومع انتشار عناصر الشرطة بكثافة في الشوارع، قررت جامعات صينية إغلاق أبوابها وإعادة طلابها إلى بلداتهم وقراهم، مع تشديد الحزب الشيوعي الحاكم لضوابط مكافحة فيروس كورونا.

وذكرت إدارة جامعة تسينغهوا، التي درس فيها الرئيس شي جين بينغ وشهدت احتجاجات طلابية الأحد الماضي، أنها تهدف لحماية الطلاب من الإصابة بالفيروس. وكذلك أعلنت جامعات أخرى في بكين ومقاطعة غوانغدونغ، جنوبي البلاد.

لكن تفريق الطلاب وإرسالهم إلى منازلهم في بلدات نائية يقلل أيضاً من احتمالية المزيد من النشاط الطلابي، في أعقاب احتجاجات نظمت في حرم جامعي الأسبوع الماضي.

ووفّرت جامعات حافلات لنقل طلابها إلى محطات القطار. وقالت إن الفصول والامتحانات النهائية ستجرى عبر الإنترنت. وذكرت جامعة "بكين فورستري" على موقعها الإلكتروني: "سنرتب لإعادة الطلاب الراغبين إلى مساقط رؤوسهم". وقالت إن اختبارات الفيروس التي خضع لها أعضاء هيئة التدريس والطلاب كانت سالبة.

المتظاهرون يتحدّون الرئيس

تفيد الأرقام الحكومية بأن أرقام الإصابات في الصين منخفضة جداً مقارنة بتلك التي تسجلها الولايات المتحدة ودول كبرى أخرى وذلك بفضل سياسة "صفر كوفيد". لكن القبول العام في الصين لهذه السياسة تآكل مع حبس المواطنين في منازلهم ببعض المناطق لمدة تصل إلى أربعة أشهر، وتأكيدهم أنهم يفتقرون إلى إمكانية موثوقة للحصول على الغذاء والدواء.

وذكرت وكالة "أسوشييتد برس"، أن معظم المتظاهرين يشكون من القيود المفرطة، لكن البعض حولوا غضبهم إلى الرئيس شي جين بينغ. وفي مقطع مصور، تحققت منه الوكالة، هتف حشد في شنغهاي السبت الماضي: "شي جين بينغ! ارحل. ارحل. ارحل".

وبدأت احتجاجات في مناطق مختلفة في الصين الماضي، الأحد للمطالبة بإنهاء تدابير الإغلاق وبفتح مجالات أوسع للحريات السياسية، في موجة تظاهرات واسعة لم تشهد مثلها البلاد منذ احتجاجات الطلاب في عام 1989. لكن هناك مؤشرات إلى أن بعض السلطات المحلية تتخذ خطوات لتخفيف بعض القيود وتهدئة الاضطرابات.

وفي أورومتشي، قال مسؤول، أمس، إن المدينة ستمنح دفعة واحدة قدرها 300 يوان (42 دولاراً) لكل شخص "ذي دخل منخفض أو بلا دخل"، وأعلن عن إعفاء من الإيجار لمدة خمسة أشهر لبعض الأسر. وأفادت وكالة أنباء الصين الجديدة، الأحد الماضي، بأن بكين حظرت "ممارسة إغلاق البوابات في المجمعات السكنية المغلقة".

وقال أحد المعلقين المهمين في وسائل الإعلام الحكومية إنه يمكن تخفيف قيود كورونا، مشدداً على أن الشعب "سيهدأ قريباً". وعلى "تويتر"، كتب هو شيجين من صحيفة "غلوبال تايمز" التي تديرها بكين: "يمكنني أن أعطي تنبؤاً مطلقاً: الصين لن تصبح فوضوية أو خارجة عن السيطرة". وأضاف: "قد تتجاوز الصين شبح كورونا في وقت أقرب مما كان متوقعاً".


البيت الأبيض: يجب أن يُسمح للناس بممارسة حق التجمّع والاحتجاج

وتتابع الولايات المتحدة الاحتجاجات الصينية، مع إعلان البيت الأبيض، مساء أول من أمس الاثنين، أن الرئيس جو بايدن "يتابع عن كثب" التظاهرات. ورفض المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي جون كيربي الإفصاح عن موقف بايدن من المطالب التي يرفعها المتظاهرون، قائلاً إن "الرئيس لن يتكلّم بالنيابة عن المتظاهرين في أنحاء العالم. هم يتحدثون بأنفسهم".

لكنه شدّد مع ذلك على دعم الولايات المتحدة لحقوق المتظاهرين، مؤكداً أنه "يجب أن يُسمح للناس بممارسة حق التجمّع والاحتجاج سلمياً على سياسات أو قوانين أو أوامر لديهم مشكلة معها".

وفي وقت سابق من مساء الاثنين، لمّحت وزارة الخارجية الأميركية إلى أن سياسات الإغلاق المشددة في الصين مبالغ فيها، بينما قال متحدث باسمها "سيكون من الصعب جداً على الصين احتواء الفيروس عبر استراتيجية صفر كوفيد".

وتشكل هذه الاحتجاجات نادرة الحدوث في الصين والموجهة مباشرة ضد الحكومة المركزية والحزب الشيوعي، تحدياً شخصياً لرواية الرئيس شي جين بينغ، بشأن استجابة الحزب لاحتياجات الناس، وأخذها بعين الاعتبار أثناء التصدي لوباء كورونا. وهي الرواية التي لطالما تغنى بها الإعلام الرسمي الصيني، مشيداً بقيادة شي الشخصية لجهود مكافحة الأوبئة في البلاد، فضلاً عن أنها كانت مركز ومحور حملته الدعائية خلال السنوات الماضية.

وأيضاً يأتي الحراك الشعبي بعد شهر واحد من تمديد ولاية الرئيس شي لفترة ثالثة، الذي مثل خرقاً صريحاً لدستور الحزب، وذلك حين تم انتخابه بالإجماع في المؤتمر الوطني العام للحزب الشيوعي الذي عقد في العاصمة بكين في 16 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ليصبح الزعيم الأوحد والأقوى بين أقرانه منذ عهد الزعيم الراحل ماو تسي تونغ.

وفي تعليقه على التطورات الأخيرة، يقول أستاذ الدراسات السياسية في جامعة سوتشو، ليو بينغ، في حديث مع "العربي الجديد"، إن "مشاعر 1.4 مليار مواطن صيني تتحدى مصداقية الرئيس شي بشأن الاستجابة للوباء والحديث عن أولوية حياة السكان، وتبرير نهج صفر كوفيد على أنه يمثل البعد الإنساني في النظام الاشتراكي على خلاف النظم الرأسمالية التي لا تراعي إلا مصالحها الذاتية في استجابتها للكوارث والأوبئة".

لكنه في نفس الوقت يقلّل من تأثير الاحتجاجات على الاستقرار السياسي والاجتماعي في البلاد، موضحاً بأنها "لا تزال في إطار ردود الفعل العشوائية غير المنظمة، ما دامت تندلع بأماكن متفرقة وقد تكون معزولة عن مناطق أخرى، وبالتالي فإن ذلك لا يشكل تهديداً بالمعنى الحقيقي للنظام، كما كان الحال عليه في مظاهرات ميدان تيان إن مين عام 1989".

ويضيف الأستاذ الأكاديمي المقيم في تايوان، أنه "من خلال تجارب سابقة، يمكن التنبؤ بما قد تؤول إليه الأحداث، فعقيدة الحزب الشيوعي لا تعترف بالخطأ ولا تتراجع عنه، ولا ترضخ للضغوط خصوصاً إذا كانت من الداخل".

ويعطي أمثلة ذلك: "في أحداث سابقة مثل المجاعة الكبرى التي شهدتها البلاد في خمسينيات القرن الماضي، وكذلك أحداث الثورة الثقافية التي دمرت الصين على مدار عشر سنوات كاملة، لم يجر الحزب مراجعة تاريخية حقيقية، ولم يُحمل المسؤولية لزعيمه ماو تسي تونغ، حتى بعد رحيله. وربما المثل الأقرب هو الاحتجاجات الطلابية في عام 1989 التي سحقها الجيش الصيني بالمدرعات وسحل المتظاهرين في ميدان تيان إن مين في مذبحة لا يزال جرحها غائراً حتى اليوم".

تظاهرات الطلاب تتكرّر

من جهتها، لا تتفق الناشطة الحقوقية المقيمة في هونغ كونغ، شياو لين، مع قراءة ليو بينغ للأحداث، وتقول في حديث لـ "العربي الجديد"، إن "التظاهرات الحالية هي الأقرب للاحتجاجات الطلابية في أواخر ثمانينيات القرن الماضي"، مشيرة إلى أن "من يقودها الآن هم الطلاب الذين لديهم القدرة على الوصول إلى مصادر بديلة للمعلومات".

وتوضح أن "أبرز الجامعات التي شهدت احتجاجات على سياسة صفر كوفيد، هي جامعة تسينغهوا، التي درس فيها الرئيس شي حين كان طالباً"، معتبرة ذلك "تحدياً غير مسبوق للقيادة، إذ لم يتوقع أحد أن تخرج تظاهرات من حرم جامعة تعد واحدة من أعرق الجامعات الصينية وأكثرها رمزية، لكونها خرّجت عشرات القيادات والرموز السياسية".

وتضيف شياو، أن "العشرات من هؤلاء الطلاب هتفوا لحرية التعبير وطالبوا بالديمقراطية، ورسموا شعارات على جدران الجامعة تدين سياسة صفر كوفيد، كما حملوا أوراقاً بيضاء في إشارة إلى حجب المعلومات وتضليل الرأي العام من قبل أذرع الدعاية الحزبية".

وتلفت إلى أن "ما يميز هذه الاحتجاجات عن سابقاتها، أنها تحظى بتغطية إعلامية واسعة في ظل الثورة التكنولوجية، إذ على الرغم من الرقابة الصارمة التي تمارسها السلطات الصينية على فضاء الإنترنت، فإنها لم تتمكن من حجب الحقيقة ولم تستطع أن تلاحق التداول والتدفق الكبير لمقاطع الفيديو على منصات التواصل الرقمية".


شياو لين: التظاهرات الحالية هي الأقرب للاحتجاجات الطلابية في أواخر ثمانينيات القرن الماضي

بدوره، يؤكد الباحث في مركز كولون للدراسات السياسية لي يوان مارتن، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "القيادة الصينية ستكون أمام تحد حقيقي في شهر مارس المقبل حين يلتئم البرلمان للمصادقة على مخرجات مؤتمر الحزب الشيوعي، ما لم تستمع لصوت الشعب. وستكون مطالبة بإجابات واضحة عن جدوى سياسة صفر كوفيد، وتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية".

ويرى لي أنه "من المحتمل أن تضحي القيادة ببعض المسؤولين على مستوى الحكومات المحلية، من خلال تحميلهم المسؤولية عن سوء إدارة الأزمة والتسبب بمشاكل للسكان، وذلك كمخرج من عنق الزجاجة قبل استحقاقات شهر مارس. وقد تتجه للتخفيف التدريجي، بما يحفظ ماء الوجه أمام الضغوط الشعبية".

ويعتبر أن "على القيادة أن تدرك أن مخاطر الاستقرار الاجتماعي في ظل استمرار نفس النهج، قد تكون أخطر مما قد يترتب على الانفتاح والتعايش مع الوباء على الطريقة الغربية".

هذا وكانت السلطات الصينية قد تحركت لتخفيف السخط العام بسلسلة من القواعد الجديدة في وقت مبكر من الشهر الماضي، مثل تقصير أوقات الحجر الصحي للمسافرين الوافدين. وفي أعقاب الحريق الذي نشب في مدينة أورومتشي وتسبب في مقتل عشرة أشخاص لم يتمكنوا من الفرار بسبب إجراءات العزل، قال مسؤولون في العاصمة بكين إن استخدام الأشياء الصلبة لتطويق أو عزل المناطق أمر غير مسموح، وكذلك إغلاق طرق النجاة من الحريق وأبواب ومنافذ الوحدات والمجمعات السكنية.

في المقابل، تعهدت صحيفة "الشعب" اليومية، الناطقة باسم الحزب الشيوعي، في تعليق على صفحتها الأولى، صباح أول من أمس الاثنين، بالتمسك بثبات بالضوابط الحالية. وروّجت مرة أخرى لانتصار الصين في السيطرة على الوباء، داعية كوادر الحزب على جميع المستويات إلى التغلب بحزم على سوء التفهم والتراخي في التعامل مع وباء كورونا.