قفز الجنرال بيني غانتس إلى معترك الحياة السياسية في إسرائيل، في 28 ديسمبر/ كانون الأول 2018، غداة حل حكومة بنيامين نتنياهو الرابعة، وفي ظنه أن رصيده العسكري، لا سيما سجله الإجرامي في العدوان على غزة عام 2014، سيحلّق به إلى رئاسة الحكومة، وهو ما جعله يُبرز في دعايته الانتخابية في أول معركة انتخابية قادها العداد الذي يُظهر قتله أكثر من ألف فلسطيني في عدوان "الجرف الصامد". وأنهى الجنرال، الذي شكّل لفترة وجيزة أملاً لمناهضي نتنياهو بإزاحة الأخير من المشهد الإسرائيلي، سيرته السياسية، بنفس عقلية الجنرال القاتل الذي يرفض الاعتراف بالهزيمة، مدللاً أمس في مقابلة مطوّلة في "يديعوت أحرونوت" على "خبرته بالقتال وعدم الاستسلام"، بعشرات القبور للقتلى الذين خلّفهم وراءه في لبنان. فقد استفزه السؤال الذي وجّهه له صحافيا "يديعوت أحرونوت"، غابي بار حاييم، ويوفال كارني، عندما حاولا رسم صورة "وادعة له" بقولهما له: "لا بد أنك سمعت أكثر من مرة جملاً على غرار: هو رجل طيب، نواياه حسنة، إسرائيل تهمه لكنه ليس سياسياً ولا قاتلاً". لم يتحمّل الجنرال هذه التهمة، فقال مجيباً "قاتل صرف - تعالوا إلى عشرات القبور في لبنان المسجلة على اسمي. لا يمكن لأحد أن يعلمني ما هي الحرب وكيف يتم حسمها".
فَقَد حزب "كاحول لفان" الذي أسسه غانتس 7 من أصل 14 نائباً له في الكنيست
هذه هي العقلية التي لا تزال تحرك الجنرال غانتس وهو في أسفل درك، بعد أن فَقَد هالته، وتفرّق الجمع عنه خلال أقل من عشرة أيام. فمنذ 23 ديسمبر/كانون الأول الماضي وحتى الأول من يناير/ كانون الثاني الحالي، فَقَد حزب "كاحول لفان" الذي أسسه الجنرال غانتس 7 من أصل 14 نائباً له في الكنيست، بدأت باستقالة النواب الثلاثة الذين صوّتوا ليلة 23 ديسمبر الماضي ضد قانون يتيح تمديد عمر الحكومة وحسموا بأصواتهم الثلاثة الأغلبية لحل الكنيست، وهم ميكي يحيموفيتش، وأساف زمير، ورام شيفع. بعد ذلك انسحب أيضاً من حزب "كاحول لفان" وزير العدل آفي نيسان كورن، وأعلن انضمامه لحزب "الإسرائيليون" الجديد، الذي أعلن رئيس بلدية تل أبيب روني خولدائي عن تأسيسه الخميس. وتبع وزير العدل يوم الثلاثاء من هذا الأسبوع، ثاني أبرز شخص في الحزب وهو الجنرال غابي أشكنازي، والنائب يزهار شاي، لتعلن أخيراً عضو الكنيست عيناف كابلا هي الأخرى الانسحاب من الحزب والانضمام إلى حزب "الإسرائيليون". بهذا لم يبق حول الجنرال غانتس سوى نصف الأعضاء الذين كانوا في كتلة حزبه البرلمانية، فيما شكّل الاستطلاع الذي نُشر أمس الجمعة الضربة القاضية، عندما أظهر أن "كاحول لفان" لن يتجاوز نسبة الحسم وبالتالي لن يكون ممثلاً في الكنيست المقبل، إذا ظلت صورة الوضع على ما هي عليه في الاستطلاعات.
ويمكن القول عملياً إن حزب "كاحول لفان"، والذي ظهر بداية تحت مسمى "حوسن ليسرائيل" وتعني "مناعة إسرائيل"، هو ثاني حزب يؤسسه جنرال في إسرائيل تحت مسمى حزب وسط، لكنه لا يصمد أكثر من عامين. فقد سبقه في انتخابات عام 1977 التي أفضت إلى نقل الحكم في إسرائيل إلى "الليكود" بقيادة مناحيم بيغن، أول حزب وسط أسسه الجنرال يغئال يادين، حتى اسم "داش"، لكن الحزب وعلى الرغم من فوزه بـ15 مقعداً، وترجيحه كفة الحكم لصالح "الليكود"، سرعان ما عانى من خلافات داخلية أدت إلى تفكيكه نهائياً في عام 1978.
لكن الأهم في سياق "كاحول لفان" أن غانتس وخلافاً للجنرال يغئال يادين، حظي بفرصة لتشكيل حكومة بعد انتخابات مارس/ آذار وحصوله على توصية لأول مرة من أحزاب القائمة العربية بتشكيل الحكومة. لكن عنصرية غانتس وبعض شركائه في "كاحول لفان" جعلته يفضل أن يكون شريكاً في حكومة مع نتنياهو على تشكيل حكومة تعتمد على دعم النواب العرب لها من الخارج، على الرغم من أنه كان قد تعهد خلال ثلاث معارك انتخابية متتالية بعدم الدخول في حكومة مع نتنياهو والعمل لإقصائه من الحكم.
وكان قرار غانتس، وبدعم من الجنرال غابي أشكنازي، التخلي عن تحالفه مع "ييش عتيد" و"تيلم" ونقض وعده للناخبين، السبب الرئيسي في أفول نجمه، وزاد في ذلك تخبّطه واستسلامه المتواصل لخروقات نتنياهو لاتفاقية الائتلاف الحكومي، وتهميشه المستمر له ولرفاقه في "كاحول لفان"، ولا سيما في عدم اطلاعه على اتفاقي التطبيع مع الإمارات والبحرين، وزيارة نتنياهو السرية إلى السعودية (والتي لم تعترف بها الأخيرة رسمياً)، والتطبيع مع المغرب، ليفقد ثقة الإسرائيليين به، وقبلهم شركاؤه في "كاحول لفان"، وهو ما دفع ثلاثة منهم إلى كسر قرار الحزب بالامتناع عن التصويت على قانون تمديد مهلة إقرار الميزانية، والتصويت ضد القرار المذكور، مما أدى نهائياً إلى حل الكنيست والاتجاه إلى انتخابات جديدة.
ومع حل الكنيست، بدأت عملية الفرار من سفينة الجنرال غانتس، وزاد من وتيرتها انشقاق غدعون ساعر عن "الليكود" وتشكيله حزباً جديداً باسم "أمل جديد" لإسرائيل من جهة، وإعلان رئيس بلدية تل أبيب هو الآخر عن تشكيل حزبه سوية مع وزير العدل من "كاحول لفان" آفي نيسان كورن، من جهة أخرى.
ظهور الحزبين الجديدين، الأول في أقصى اليمين، والثاني يتموضع بين الوسط واليسار، لم يُبقِ مبرراً بنظر الإسرائيليين لحزب غانتس، فسرّع ظهورهما وانتقال عدد من أعضاء "كاحول لفان" إلى مركب حزب "الإسرائيليون" من نهاية "كاحول لفان" وبدء تفككه إلى حد عدم قدرته على ما يبدو على اجتياز نسبة الحسم.
في المقابل، يشهد معسكر اليسار والوسط مزيداً من ولادة الأحزاب الجديدة، بعد حزب "الإسرائيليون" وحزب "عوفر شيلخ" (المنشق عن حزب ييش عتيد)، إذ أعلن البروفيسور يرون زليخا هو الآخر تأسيس حزب جديد، فيما يواصل حزب "العمل" اتصالات لتشكيل تحالفات جديدة تضمن له البقاء في الكنيست. وستستمر حالة المخاض وظهور أحزاب جديدة، وربما تأتي بعضها من أقصى اليمين، حتى الرابع من فبراير/ شباط المقبل، وهو الموعد الأخير لتسليم قوائم الأحزاب التي تعتزم خوض معركة الانتخابات المقبلة المقررة في مارس/ آذار المقبل.
يشهد معسكر اليسار والوسط مزيداً من ولادة الأحزاب الجديدة
وحتى ذلك الوقت ستشهد الساحة الحزبية في إسرائيل تغييرات كثيرة، قد تصحبها مفاجآت على شكل تحالفات جديدة ربما تصل إلى حد تكرار تجربة التحالف بين أحزاب الوسط واليسار، خصوصاً حزب "الإسرائيليون" الجديد مع حزب "ييش عتيد" بقيادة يئير لبيد، الذي قد يفك شراكته مع حزب "تيلم" الذي يقوده الجنرال الأسبق موشيه يعالون، وقد يشمل التحالف أيضاً بقايا حزب "العمل" في محاولة لبناء تكتل يسار وسط يمكن له أن يحصل على نحو 30 مقعداً ويشكّل قطباً ثالثاً مقابل معسكر نتنياهو وحزب غدعون ساعر.