يتوجّه الجزائريون اليوم السبت إلى صناديق الاقتراع للمرة الرابعة منذ الحراك الشعبي في فبراير/شباط 2019، لاختيار أعضاء المجالس البلدية والولائية، في انتخابات محلية تأتي وسط قلق لدى المجتمع السياسي بشأن قدرة السلطة المستقلة للانتخابات على ضمان نزاهة هذا الاستحقاق، خصوصاً بسبب طابعه المحلي، الذي تتداخل فيه عوامل سياسية واجتماعية معقّدة، ومخاوف من استمرار العزوف الكبير للناخبين، لا سيما في ظل أزمة اجتماعية وغلاء الأسعار، وتراجع مؤشرات الأمل في التغيير السياسي لدى عموم الجزائريين بعد الحراك الشعبي.
ويتنافس في هذه الانتخابات، التي دعي للتصويت فيها 23.7 مليون ناخب، 40 حزباً سياسياً على المجالس المحلية في 1541 بلدية، أبرزها سبعة أحزاب، هي جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي (موالاة)، وحركة البناء الوطني وجبهة المستقبل وصوت الشعب (من الحزام الحكومي)، وحركة مجتمع السلم وجبهة القوى الاشتراكية من كتلة المعارضة، والتي كانت قاطعت المسار الانتخابي بعد الحراك، إضافة إلى قوائم المستقلين. وكما ستتنافس على مقاعد المجالس الولائية في 58 ولاية، بينها 10 ولايات جديدة، ستتشكل فيها مجالس ولائية للمرة الأولى بعد فصلها عن الولايات الأم، فيما استمرت أحزاب أخرى في خيار المقاطعة، مثل العمال والتجمع من أجل الثقافة والديمقراطية.
لن تجرى الانتخابات في ثماني بلديات لم تتقدم فيها أي قائمة، في ولايتي تيزي وزو وبجاية
ولن تجرى الانتخابات في ثماني بلديات لم تتقدم فيها أي قائمة، في ولايتي تيزي وزو وبجاية شرقي الجزائر. وتتجه سلطة الانتخابات إلى تنظيم انتخابات جزئية فيها خلال الأشهر المقبلة، فيما تخوض قوائم مفردة تتبع أحزاباً ومستقلين، الانتخابات من دون أي منافسة من قوائم أخرى، في 45 بلدية تقدمت فيها قائمة وحيدة، وهو ما يعني مسبقاً فوزها بكامل المقاعد في المجلس البلدي. ويجري الانتخاب هذه المرة وفق نظام القائمة المفتوحة. ويمكن للناخب أن يختار من قائمة واحدة فقط، من يريد من المرشحين الذين يصوّت لصالحهم. وكان السكان البدو الرحل قد بدأوا التصويت منذ الأربعاء الماضي في مكاتب متنقلة، إذ ينص القانون على السماح بتصويتهم 72 ساعة من موعد الاقتراع العام، في عشر ولايات في الصحراء وعلى الحدود، تنتقل إليهم مكاتب التصويت.
ومقارنة مع باقي الاستحقاقات الانتخابية في الجزائر، تبدو الانتخابات المحلية الأقل أهمية بالنسبة للسلطة والأحزاب، بخلاف انتخابات الرئاسة والبرلمان، لكونها مؤسسات حكم محلي محدودة الصلاحيات ومتجاوزة، ويهيمن على قرارها حكّام المقاطعات والولايات الذين تعيّنهم الرئاسة. لكن هذه الانتخابات هي الأكثر أهمية بالنسبة للمواطن، إذ تنبثق منها المجالس الولائية والبلدية، وهي الأكثر قرباً من المواطنين بصفتها المشرفة بشكل مباشر على الشؤون الخدمية والحياتية للجزائريين.
أما الأحزاب السياسية البارزة، فتنظر خلال هذا الاستحقاق إلى أفق أبعد، وضمن سياق آخر من الحسابات تطاول الانتخابات الرئاسية لعام 2024، وبدرجة أكثر التركيز على الانتخابات النيابية المقررة عام 2025، إذ إن السيطرة على المجالس المحلية تضمن توسيع قاعدة الحزب في العمق الشعبي، وما يحققه منتسبو الحزب في هذه المجالس، لجهة تنمية البلديات وخدمة السكان، سيظهر بوضوح في الاستحقاقات المقبلة، إذ تستفيد هذه الأحزاب من ذلك لصالح توسيع وعائها الانتخابي. ولن تتوانى الأحزاب عن استخدام جهد منتخبيها في المجالس المحلية كقاعدة للفوز بأكبر عدد من المقاعد في البرلمان المقبل، وضمان حضور أكبر في التشكيل الحكومي، إضافة إلى أن أي نجاح عملي لمنتخبيها، سيوفر لها أساساً لتركيز وجودها وتوسيع قاعدتها الشعبية.
وعلى صعيد آخر، بالنسبة لعدد قليل من الأحزاب الجزائرية المتميزة بالنضالية والعمل المؤسسي، كحركة مجتمع السلم وجبهة القوى الاشتراكية، فإن وجود كوادرها في المجالس المنتخبة، يمثل فرصة لتدريب منتخبيها على العمل السياسي والإداري والنيابي، استعداداً للدفع بهم في الاستحقاقات السياسية والانتخابية المقبلة.
لكن أحزاباً سياسية قادمة حديثاً إلى المشهد في الجزائر، وكانت قد حققت حضوراً لافتاً في الانتخابات النيابية الماضية، تراهن خلال الانتخابات المحلية على تكريس تقدّمها في المشهد، وتسعى لتأكيد جدارتها بالنتائج التي حققتها في البرلمان، على غرار حركة البناء الوطني (منشقون عن مجتمع السلم)، وبشكل أكبر جبهة المستقبل (منشق عن جبهة التحرير)، وحزب صوت الشعب الذي يشارك للمرة الأولى في الانتخابات المحلية. وهو رهان دفع هذه الأحزاب إلى حالة من الاستقطاب العشوائي للمرشحين، بغض النظر عن أي علاقة نضالية أو تطابق أفكارهم السياسية مع خيارات الحزب.
تراهن أحزاب سياسية قادمة حديثاً إلى المشهد على تكريس تقدّمها
وتعد انتخابات تشكيل مؤسسات الحكم المحلي هذه السابعة منذ بدء عهد التعددية السياسية، بعد انتفاضة أكتوبر/تشرين الأول 1988، لكنها الأولى من نوعها التي تجري بعد الحراك الشعبي الذي أطاح بنظام الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة. وهي رابع استحقاق انتخابي يجري منذ الحراك بعد انتخابات الرئاسة في ديسمبر/كانون الأول 2019، والاستفتاء على الدستور الجديد في نوفمبر/تشرين الثاني 2020، والانتخابات النيابية في يونيو/حزيران الماضي. وهي أول انتخابات محلية تجرى تحت إشراف هيئة مستقلة للانتخابات، تتولى إدارة كامل العملية، بعدما كانت وزارة الداخلية هي التي تشرف على هذه الانتخابات حتى 2017.
لكن الكثير من الأحزاب السياسية باتت تشكك بوضوح في جدوى هذه السلطة المستقلة. إذ فتحت هذه الانتخابات، منذ الإعلان عن فتح باب الترشيحات ثم الإعلان عن قوائم المرشحين وبعدها الحملة الانتخابية، الباب واسعاً لنقاش عام حول مدى قدرة الهيئة المستقلة للانتخابات على ضمان نزاهة وشفافية الصندوق والاستحقاق الانتخابي وحماية إرادة الناخبين. وتعرضت الهيئة إلى موجة انتقادات كبيرة لم تطلها من قبل أحزاب المعارضة فحسب، بل كانت أكبر الانتقادات من قِبل أحزاب الموالاة، كجبهة التحرير الوطني التي اتهمتها بالخضوع للإدارة، والتجمع الوطني الديمقراطي الذي طالب بتطهير الهيئة وإعادة تشكيلها مجدداً، فيما اعتبرت حركة مجتمع السلم المعارضة أن الهيئة تخضع لتسيير الأجهزة الأمنية.
ويُظهر ذلك بوضوح تفكير الأحزاب السياسية المبكر في حسابات الانتخابات النيابية والمحلية المقبلة لعام 2025، لتجنّب تكرار الأخطاء نفسها وحماية مرشحيها من الإقصاء الإداري. وفي السياق، شكّلت هذه الانتخابات حالة إجماع سياسي واضح، بشأن الضرورات السياسية والتقنية لمراجعة القانون الانتخابي، لتضييق منافذ تسلل السلطة الإدارية والأمنية إلى عمل السلطة المستقلة للانتخابات. لكن النقاش المركزي انصب أكثر على مراجعة قانون البلدية والولاية لتوسيع صلاحيات المجالس البلدية، والحد من سيطرة حكّام المقاطعات والولايات الذين يتم تعيينهم من قبل رئيس الجمهورية، وتدخّلهم في عمل المجالس البلدية التي ينتخبها الشعب.
فتحت الانتخابات الباب واسعاً لنقاش حول مدى قدرة الهيئة المستقلة للانتخابات على ضمان نزاهتها
وسارعت الهيئة المستقلة للانتخابات للدفاع عن نفسها. وقال رئيسها محمد شرفي، خلال تفقده أمس الجمعة عدداً من مراكز الاقتراع في العاصمة، إن "اختيارات الناخبين ستحترم بالكامل والصندوق هو الحاكم في الجزائر الجديدة، وإن من يختاره الشعب عن طريق الصندوق هو الذي يتولى المسؤولية". وأضاف: "أصبح لدينا كهيئة الخبرة الكاملة لتسيير الانتخابات، وهذه الانتخابات هي فرصة مهمة للناخبين لاختيار ممثليهم. سنستكمل مع هذه الانتخابات مسار تركيز مؤسسات شرعية بعد انتخاب رئيس للجمهورية ثم انتخاب برلمان". ووجه تعليمات إلى الأعوان المكلفين بمراقبة مراكز الانتخاب ومكاتب التصويت، بضرورة احترام القانون، وحماية أصوات الناخبين، تكريساً للديمقراطية.
في المقابل، تتركز هواجس السلطة السياسية على مسألة نسبة التصويت والمشاركة الشعبية في هذه الانتخابات، وإنهاء حالة العزوف الانتخابي التي شهدتها على الأقل الاستحقاقات الانتخابية الثلاثة التي جرت بعد الحراك الشعبي، إذ لم تتجاوز 24 في المائة خلال الاستفتاء على الدستور في نوفمبر/تشرين الثاني 2020، ونسبة 30.20 في المائة في الانتخابات النيابية التي جرت في يونيو/حزيران الماضي. وتأمل السلطة أن تسهم طبيعة الانتخابات المحلية وقرب المرشحين في كل البلديات من الناخبين، في دفعهم إلى التصويت، إضافة إلى أن عودة منطقة القبائل (ذات الغالبية من السكان الأمازيغ) إلى المشاركة الانتخابية، خصوصاً مع مشاركة جبهة القوى الاشتراكية، الحزب المركزي في المنطقة، وتراجع القوى المناوئة للانتخابات، سيرفعان بشكل واضح نسبة التصويت.