سجّلت الانتخابات البرلمانية اللبنانية، التي جرت أمس الأحد في الداخل، أكثر من مفارقة غير متوقعة، لتخلط الأوراق على الساحة وتدفع البلاد إلى مشهد ضبابي تختلف السيناريوهات المتوقعة له.
أولى المفاجآت جاءت كانعكاس لانتفاضة 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019، فعلى الرغم من مرور أكثر من عامين عليها، وتلاشي طموح اللبنانيين المشاركين فيها بإطاحة سريعة للمنظومة الحاكمة، إلا أن نتائجها برزت في صناديق الاقتراع، حيث تشكّلت لأول مرة في تاريخ لبنان الحديث كتلة نيابية تغييرية قد يكون لها دور حاسم في الاستحقاقات المرتقبة التي تنتظر البلاد.
كتلة قد يتجاوز عدد نوابها العشرة نواب ممن برزوا خصوصاً منذ حراك أكتوبر 2019 في ساحات المواجهة، ونجحوا في إطاحة وجوه لطالما كانت موجودة في البرلمان خلال السنوات الأخيرة، أبرزها رئيس الحزب الديمقراطي طلال أرسلان، ونائب رئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي، وغيرهما.
لكن الخرق الأبرز للقوى التغييرية كان في أحد معاقل "حزب الله" وحلفائه، دائرة الجنوب الثالثة (تضم أقضية حاصبيا ومرجعيون والنبطية وبنت جبيل)، حيث نجحت في إسقاط النائب أسعد حردان (يمثل الحزب السوري القومي الاجتماعي)، أحد أبرز حلفاء "حزب الله"، الذي نجح في المقابل مع حليفته حركة "أمل" في الاستحواذ على كل المقاعد الشيعية الـ27 في لبنان.
خرق في معقل "حزب الله"
ويشكل فوز القوى التغييرية في دائرة الجنوب الثالثة، أول خرق لـ"حزب الله" في مناطق نفوذه جنوبي لبنان، وذلك في أبرز تجليات التطورات التي شهدها العامان الأخيران خصوصاً، من تصاعد المطالب التغييرية، إلى الأزمة الاقتصادية والمعيشية الخانقة التي ضربت لبنان، ودفعت الكثير من جمهور الحزب للعزوف عن الاقتراع، إذ بلغت نسبة المشاركة في كل لبنان 41 في المائة.
يتوازى ذلك مع جهود دؤوبة بذلتها شخصيات شكّلت لائحة "معاً نحو التغيير" في الجنوب الثالثة خلال السنوات الأخيرة، واستطاعت خلق حيز مهم لها في الشارع الجنوبي.
خرق آخر تعرض له "حزب الله" في أحد معاقله، وتحديداً في دائرة بعلبك-الهرمل، حيث نجح حزب "القوات اللبنانية" في إيصال مرشحه أنطوان حبشي إلى البرلمان، على الرغم من الضغوط التي تعرض لها المرشحون الشيعة على اللائحة التي ضمت حبشي، وما رافق اليوم الانتخابي من أحاديث عن مخالفات.
الكثير من القوى الحليفة لـ"حزب الله" تعرضت لهزائم مفاجئة، لعل أبرزها "التيار الوطني الحر"
لكن "حزب الله" الذي نجح في الاحتفاظ بكل مقاعده، واجه ضربة قاسية من جبهة حلفائه، فعلى الرغم من الجهود التي بذلها لجمع حلفائه على لوائح واحدة في مختلف دوائر لبنان، إلا أن الكثير من الشخصيات الحليفة له تعرضت لهزائم مفاجئة، لعل أبرزها "التيار الوطني الحر" (الذي يرأسه النائب جبران باسيل صهر رئيس الجمهورية ميشال عون).
فـ"التيار" وعلى الرغم من حصوله على كتلة نيابية غير قليلة، قاربت الـ15 مقعداً، إلا أنه تراجع بشكل كبير عن النتيجة التي حققها في الانتخابات الماضية، إذ كان قد نجح بتشكيل تكتل من 29 نائباً عام 2018. وخسر التيار في مناطق اعتُبرت "معاقل" له، مثل جزين في دائرة الجنوب الأولى، مع تأخره في البترون شمالاً ونجاح رئيسه جبران باسيل بشكل صعب.
كما لفت سقوط رئيس "تيار التوحيد" وئام وهاب وطلال أرسلان في الشوف-عاليه، وإيلي الفرزلي في البقاع الغربي، إضافة إلى حردان، وهم من أبرز حلفاء الحزب.
ومقابل تراجع "التيار الوطني الحر"، كان خصمه الأبرز على الساحة المسيحية، "القوات اللبنانية"، يحقق تقدماً كبيراً، ليحل أولاً بكتلة قُدرت بنحو 20 نائباً، بعد أن كان يملك في البرلمان المنتهية ولايته 15 نائباً.
مخاوف من انسداد سياسي في لبنان
هذا الواقع يضع "حزب الله" و"القوات اللبنانية" على رأس المشهد السياسي كأبرز قوتين متعارضتين في مجلس النواب الجديد، لكن من دون تأمين أي من الفريقين مع حلفائه أكثرية نيابية تسمح له بحسم القرارات في البرلمان، مقابل وجود كتلة مستقلة من القوى التغييرية قد تكون لها كلمة الحسم في حال نجاحها بتشكيل كتلة واحدة.
أمام هذا الوقع، ترتفع المخاوف من سيناريو مواجهة بين طرفين، لا يملك أي منهما القدرة على حسمها، بالتالي دخول البلاد في مرحلة تعطيل تنعكس في الاستحقاقات المقبلة، أولها انتخاب رئيس البرلمان، ثم تشكيل الحكومة الجديدة، وتليه انتخابات رئاسة الجمهورية مع انتهاء ولاية الرئيس الحالي ميشال عون في أكتوبر المقبل.
وكان رئيس "القوات" سمير جعجع قد أطلق باكراً المعركة المقبلة وحدد عناوينها، مع تشديده في أول تصريحٍ له عقب فوز حزبه على "أننا لن نصوّت من جديد للرئيس نبيه بري (في رئاسة البرلمان) كما لم نفعل أبداً في السابق منذ العام 2005، ولن نشارك بحكومة وحدة وطنية، وسنتعاطى مع الانتخابات الرئاسية كما نتعاطى مع الحكومة ورئاسة مجلس النواب".
ويثير سيناريو التعطيل مخاوف من انزلاق لبنان إلى تردٍ إضافي في الأوضاع المعيشية والاقتصادية، خصوصاً أن أمام الحكومة المقبلة استحقاقات كبيرة للتصدي للأزمة المالية والانهيار الذي تعاني منه البلاد منذ أواخر العام 2019، وتنتظر اتفاقاً مع صندوق النقد الدولي الذي يطالب بإصلاحات اقتصادية وإجراءات حكومية قد تكون قاسية على اللبنانيين.
مخاوف من انزلاق لبنان إلى تردٍ إضافي في الأوضاع المعيشية والاقتصادية
لكن قبل كل ذلك، يتوقف مراقبون للاستحقاق الانتخابي عند نقطة بارزة، تتمثل بسقوط رهانات مقاطعة الشارع السنّي للانتخابات، بعد إعلان رئيس "تيار المستقبل" سعد الحريري، الذي كان يمتلك الكتلة السنّية الأكبر في البرلمان، مقاطعته لهذا الاستحقاق، ومطالبة جمهوره بعدم المشاركة.
غير أن أرقام الانتخاب في المناطق السنّية، التي قاربت الأرقام المسجلة عام 2018، أظهرت عدم استجابة كبيرة لدعوات الحريري، خصوصاً بعد مطالبة دار الفتوى وخطباء المساجد بالمشاركة الفاعلة في الاستحقاق النيابي. وأدخلت الانتخابات التي جرت الأحد، والتي سبقتها انتخابات المغتربين قبل نحو أسبوع، دماء جديدة إلى المجلس النيابي الذي لطالما طغى عليه لونا السلطة السياسية والمعارضة التقليدية.
انقسام قد يؤدي إلى تعطيل المؤسسات اللبنانية
وفي قراءة للمشهد الجديد، يشير وزير الداخلية الأسبق زياد بارود، إلى الانقسام والاصطفاف العمودي الذي ما يزال قائماً بعد الانتخابات النيابية، وقد يؤدي إلى تعطيل على مستوى المؤسسات، على رأسها رئاسة البرلمان، وهذا مرجح لأن يُترجَم في أول محطة بعد 21 مايو/أيار الحالي تاريخ انتهاء ولاية المجلس الحالي، إذ على البرلمان الجديد أن يجتمع لينتخب هيئته ورئيسه.
ويضيف بارود، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "المحطة الثانية ستكون الاستشارات النيابية الملزمة لتسمية رئيس حكومة الذي وإن سميَ تبقى علامات الاستفهام حول ما إذا كانت عملية التشكيل ستتم سريعاً وبأي مهل".
ويشير إلى محطة أساسية ثالثة بعد أشهر قليلة ترتبط بانتخاب رئيس جديد للبلاد مع انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون في 31 أكتوبر المقبل.
ويتساءل: "هل سيتمكن لبنان من تخطي كل هذه المحطات في هذه الفترة الزمنية القصيرة نسبياً، وهو يواجه في الوقت نفسه تحديات عدة اقتصادياً واجتماعياً، وعلى مستوى استكمال الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، وحقوق المودعين، وإعادة هيكلة القطاع المصرفي، والتغطية الاجتماعية للناس، وغيرها من الملفات الحياتية الأساسية التي لا يمكن أن تنتظر لما بعد انتخاب رئيس جديد للجمهورية؟".
تبعاً لذلك، يتوقع بارود استمرار التحديات القائمة، آملاً التمكن من تشكيل حكومة سريعاً تتولى هذه المهام كلّها وتمهّد لانتخابات رئاسة الجمهورية، وعدم الدخول في فترة تصريف أعمال قد تطول وربما تؤدي لفراغ رئاسي، متمنياً "ألا يحصل ذلك نظراً لكثرة الأمور التي يجب البت بها سريعاً، في موازاة ما يحصل في الإقليم من مفاوضات فيينا إلى تطورات اليمن والعراق".
بارود: نسبة الاقتراع المتدنية لا تطمئن وتؤشر إلى تراجع الاهتمام عند الكثير من اللبنانيين
وبالنسبة للجو التغييري الذي برز في الانتخابات، يعتبر بارود أنه أتى نتيجة تراكمات عدّة حصلت منذ انتفاضة 17 أكتوبر 2019، مشيراً إلى إمكان تشكيل مجموعة ضغط ليست بصغيرة، خصوصاً إذا ما توافقت الشخصيات المستقلة على أمور أساسية ما يؤدي إلى نفس جديد لا بدّ من البناء عليه.
لكن بارود يتوقف عند نسبة الاقتراع المتدنية التي سجلت نحو 41 في المائة، وهي أقل من تلك التي سجلت عام 2018، معتبراً أن هذا الرقم لا يطمئن ويؤشر إلى تراجع الاهتمام عند الكثير من اللبنانيين، وكان بإمكانه أن يكون أدنى أيضاً لولا عامل المال الانتخابي الذي رفع النسبة.
مفاجآت الانتخابات اللبنانية
من جهته، يقول وزير الشؤون الاجتماعية الأسبق رشيد درباس، لـ"العربي الجديد"، إنه فوجئ بنتائج الانتخابات التي جرت بأسوأ ظروف معيشية واقتصادية وفي ظل تشرذم الشارع، معتبراً أن اقتراع المغتربين لعب دوراً بارزاً في العملية الانتخابية وأعطى إشارة للداخل بأنهم سند للمواطنين.
ويلفت درباس إلى أن الذين صوّتوا فعلوا ذلك بـ"مكرٍ حميدٍ"، فتمكنوا من تغيير الموازين وفرض نتائج فاقت التوقعات، وكسروا الهيمنة البرلمانية التي كانت قائمة بتحالف "حزب الله" و"التيار الوطني الحر" وقد تفقدهم الأكثرية النيابية، على أمل أن يتمكن خارقو هذه الهيمنة من التحرك بالحد الأدنى للنهوض بالبلد.
وفي ظل الخرق غير المسبوق الذي تعرّض له "حزب الله" في معقله في دائرة الجنوب الثالثة من قبل مجموعات مدنية معارضة، يرى درباس أن الحزب عليه أن يجري دراسة متأنية للنتائج ويعيد النظر بسياساته، وخصوصاً حلفه مع "التيار الوطني الحر" الذي كان يشكل مظلة له منذ عام 2006.
درباس: على الأفرقاء أن يأخذوا العبر من النتائج، ويعيدوا النظر بشكل الصراع السياسي
ويلفت إلى أن على الأفرقاء أن يأخذوا العبر من النتائج، ويعيدوا النظر بشكل الصراع السياسي الذي يجب أن يكون أكثر عقلانية ويأخذ مصالح المواطنين ويومياتهم بعين الاعتبار بدل المصالح الإقليمية.
من جهة ثانية، يرى درباس أن خرق لوائح "حزب الله" وحلفائه رسالة قوية لهم، عززته نسبة الاقتراع المتدنية، مضيفاً "ليس تفصيلاً إسقاط النائب أسعد حردان، بالدور الذي لعبه منذ عام 1992".
ويربط الخرق الذي تعرض له الحزب في الجنوب بأن الشعارات التي أطلقها لم تترجم شعبياً، في ظل نجاح اللائحة المقابلة بجمع صفوفها وعدم التشتت، بعكس المجموعات المدنية الأخرى على مستوى الدوائر الانتخابية.
وبالنسبة للاستحقاقات المنتظرة بدءاً بانتخاب رئيس مجلس النواب، يرى درباس أنه سيكون من مشاهد الصراع السياسي، مشيراً إلى أن حجب أكثرية الأصوات المسيحية عن بري، بحال لم يصوّت له تكتل "القوات"، سيكون محرجاً له، الأمر الذي من شأنه أن يدفعه إلى إعادة التموضع والتوصل لتفاهم على شكل إدارة جلسات مجلس النواب.
من جهته، يقول عضو المجلس المركزي في حزب "القوات"، منسق منطقة طرابلس، جاد دميان، لـ"العربي الجديد"، إن "الحزب أحرز إنجازاً تاريخياً باختراقه الساحة الطرابلسية، ونحن سنشارك بإبراز وتمثيل الصورة الحقيقية للمدينة"، مضيفاً أن "الأصوات التي صبّت لصالحنا دليل على أن كل محاولات التجني والتشويه التي تعرضنا لها لم تؤثر على الشارع السيادي الحر".
ويرى دميان أن "الرابحين الأبرز في الانتخابات هما القوات اللبنانية والقوى التغييرية، أي كل ما هو مناقض ومناهض للتحالف بين المافيا والمليشيا ومناقض لحزب الله والتيار الوطني الحر وحركة أمل وحلفائهم".
ويعتبر أن خروج شخصيات سياسية مثل أرسلان ووهاب وغيرهما، أمر طبيعي نتيجة ممارساتهم طيلة هذه السنين.
وعلى مستوى الخرق الذي أحدثه النائب القواتي أنطوان حبشي للمرة الثانية في بعلبك-الهرمل حيث نفوذ "حزب الله"، يرى دميان أن تكتل الجميع ضد حبشي ومحاولة إسقاطه والضغط على مرشحين انسحبوا من لائحته، عوامل أدت إلى شدّ العصب لصالحه، على الرغم من المعوقات اللوجستية والتقنية والبعد الجغرافي، كما أن حبشي أعطى نموذجاً واضحاً وصريحاً لا يشبه الطرف الثاني الذي يعمد إلى الترهيب وإرغام المرشحين على الانسحاب والضغط على الناخبين وسرقة صناديق الاقتراع، وفق قوله.