منذ إبريل/ نيسان الماضي، أيامَ الانتخابات الرئاسية في دورتيها، أُطلق تعبير "الجولة الثالثة" على الاستحقاق الانتخابي اللاحق؛ الانتخابات النيابية التي تقام في جولة أولى يوم غد الأحد، وتجري دورتها الثانية خلال الأحد الموالي.
محطة انتخابية جديدة لا يمكن فهمها من خارج هذا السياق، فهي أكثر من اقتراع سيؤدي بـ577 مترشّحاً إلى قبة البرلمان، إنها مفترق طرق، قد يكون من تبعاتها المباشرة إسقاط حكومة إليزابيث بورن التي لم يمض على تشكيلها أكثر من شهر، أو فتح الطريق واسعاً أمام هيمنة إيمانويل ماكرون على الحياة السياسية.
فإذا كان ماكرون قد حافظ على منصبه في 24 إبريل/نيسان الماضي، فإنّ خصوصية انتخابات 2022، قد تجعل من انتصاره الرئاسي مؤقّتاً، بل قد يكون مجرّد انتصار شكليّ في حال حقّق طرف آخر أغلبية تفرض أن تتشكّل حكومة جديدة منبثقة منها.
توقعات متباينة
إلى آخر عمليات سبر الآراء، يوم الجمعة، تظلّ مخرجات الانتخابات النيابية الفرنسية عصيّة على التوقع، فنسب نوايا التصويت تقترح أرقاماً متقاربة خصوصاً بين مجموعة مرشّحي الرئيس ماكرون "معاً" Ensemble والتحالف اليساري-الإيكولوجي (NUPES) الذي يتزعّمه جان لوك ميلانشون (الثالث في الدور الأول من الرئاسية)؛ كلاهما يدور حول نسبة 26 بالمائة مع تفوّق طفيف لمرشحي ميلانشون.
كما أنّ الأرقام التي تظهر في استطلاعات الرأي تضع اليمين في موقع غير بعيد، وهو ما يؤهّل زعيمته مارين لوبان إلى لعب دور مهم داخل البرلمان، لعل الأقرب لها هو تزعّم المعارضة، وهو ما سيتيح لها أن تتغذّى على أخطاء من هم في الحكم بما يفيد طموحاتها السياسية ما بعد الخماسية الحالية.
أما بقية القائمات المترشحة فلن تحصل حسب الاستطلاعات إلا على مقاعد متناثرة، وأقصى ما ستطمح إليه أن تكون لها أدوار في ترجيح كفة طرف عند التكافؤ الذي يعطّل أداء البرلمان. كما تبيّن استطلاعات الرأي انسحاق العائلات السياسية الكلاسكية؛ أي التي سبق لها أن شاركت في الحكم في مختلف أطوار الجمهورية الخامسة، مثل "الجمهوريون" (حزب شيراك وساركوزي)، وبنسب ما دون الخمسة في المائة، ناهيك عن قبول الحزب الاشتراكي (حزب الرئيسين السابقين فرنسوا ميتران وفرنسوا هولاند) بأن يكون ضمن تحالف يقوده ميلانشون.
الهيمنة أو المساكنة
بهذه التوقعات، من الصعب أن يحقّق ماكرون كتلة نيابية كبيرة تحت تصرّفه تتيح له تمرير ما شاء من مشاريع وتصورات، وهي الوضعية الوحيدة المريحة له سياسياً، كما هو الحال في البرلمان الحالي حيث يملك حزبه "الجمهورية إلى الأمام" الأغلبية منذ 2017، ويمثل تحصين هذا الموقع الطموح الأساسي الذي اشتغل عليه ماكرون مع بداية ولايته الثانية، ومنها خياراته في تشكيل الحكومة، التي حاول فيها التأكيد أنه سيوفي بوعوده الانتخابية مع ترضية الكثير من الفئات؛ اليساريين، النساء، أنصار البيئة، المحتجين على التوجهات الاجتماعية خلال الولاية الأولى، ذوي الأصول غير الفرنسية....
كما أنه من الصعب أن يتحقّق السيناريو النقيض، أي إحراز أحد منافسيه لأغلبية تفرض على الرئيس المرور بتنازلات كثيرة، كلما رغب في تمرير مشروع قانون عبر البرلمان، أي أن يتحوّل ماكرون إلى رئيس لا يستطيع تنفيذ سياساته. ولقطع الطريق أمام هذا السيناريو الكابوسي لماكرون شارك بقوة في الحملات الانتخابية لمرشّحيه وظهرت صورته معهم في مختلف المعلقات الانتخابية في الدوائر.
هذا السيناريو الذي يقضّ مضجع ماكرون هو ما يسمّى في الأدبيات السياسية الفرنسية بـ"المساكنة" (الاشتراك في سكن واحد Cohabitation) وهو أن تنشطر السلطة التنفيذية بين رئيس ورئيس الحكومة من توجّهين مختلفين، أشهرها المساكنة التي عاشت على وقعها فرنسا خلال الثمانينيات بين أكبر خصمين سياسيين في تاريخ الجمهورية الخامسة، فرانسوا ميتران وجاك شيراك.
خماسية سجالية؟
في وضعية 2022، قد يجد ماكرون نفسه - في حال لم يحقّق مرشحوه العدد الكافي من المقاعد - أمام مُساكنَتين محتملتين كلتاهما ستغرقه في تنازلات جمّة مع كلّ خطوة سياسية، إما مع ميلانشون بخطاب اجتماعي عالي النبرة، أو مع منافسته في الدور الثاني لانتخابات 2017 و2022، مارين لوبان بميولاتها اليمينية المتطرّفة.
وقائع فترة الحملات الدعائية للانتخابات النيابية لم تظهر أن مثل هذه الوضعيات يمكن أن تكون مريحة، إذ ساد نفس الخطاب الاتهامي بين الأطراف الثلاثة؛ ماكرون يتهم كلا منافسيه بالتطرّف يسارا ويمينا، وهما يذكران بأكثر من حصيلة سلبية في فترة حكمه. هذه السجالات عالية الصوت خلال فترة الحملات الانتخابية قد تتحوّل إلى مضمون الحياة السياسية خلال خمسة أعوام لاحقة في فرنسا.
كيف تتم العملية الانتخابية؟
تقسّم الخارطة الفرنسية (القارية وما وراء البحر) إلى 577 دائرة. كل مترشّح يحقّق بمفرده أكثر من نصف الأصوات في دائرته يصل مباشرة إلى المجلس النيابي. في حال لم يحقق أي مرشّح الأغلبية، يمرّ المرشحون الذين أحرزوا نسبة تتجاوز ثمن الأصوات (12.5 بالمائة) إلى تصويت الدور الثاني في يوم الأحد الموالي؛ 19 حزيران/ يونيو، ويصل إلى البرلمان صاحب أعلى عدد أصوات بين هؤلاء.
تركيبة البرلمان الحالي
يتمتع الرئيس ماكرون في البرلمان الحالي (2017 - 2022) بأغلبية مريحة بـ 308 مقاعد من أصل 577، وبحساب الكتل الصغرى المتحالفة التي صوّتت لصالح قراراته يصل عدد المقاعد المساندة لماكرون في البرلمان الحالي إلى 346.
أما زعيم اليسار الراديكالي، جاك لوك ميلانشون، فلا يحتكم إلا إلى 17 نائباً يمثّل حزبه "فرنسا غير الخاضعة"، وإذا كان اليوم يمكنه منافسة مرشّحي ماكرون، فإنّ ذلك يأتي بفضل تحالفه الموسع مع الأحزاب الاجتماعية والإيكولوجية، وخصوصاً الحزب الاشتراكي الذي يملك في البرلمان الحالي 30 مقعداً، ويمثّل الحزب الأكثر خبرة في الحياة السياسية باعتبار أنه يمثّل مع أحزاب قليلة أخرى مؤسسات سياسية عريقة لها تقاليدها في العلميات الانتخابية كما أنها خبرت كواليس الدولة بفضل حضور أعضائها في الحكومات المتعاقبة.
وبالنسبة للكتلة التي تتزعّمها مارين لوبان في البرلمان الحالي فهي لا تتجاوز الثمانية مقاعد، لكنها ورغم أنها غير مرشحة لنيل أغلبية نسبية أو مطلقة، فإن عدد نوابها بعد استحقاق يونيو/حزيران 2022 مرشّح للزيادة.
من المتغيرّات المنتظرة في تركيبة برلمان انتخابات 2017 والبرلمان المنتظر هو تراجع كتل، تسمى عادة بالوسطية، مثل "الجمهوريون" (حالياً له 112 نائبًا) خصوصاً بعد النتيجة المخيّبة لزعيمته فاليري بيكريس خلال الرئاسية وعدم بلوغها عتبة الـ5 بالمائة، و"الحركة الديمقراطية" بزعامة فرانسوا بايرو والذي يدير 42 مقعداً في البرلمان الحالي لكنه مرشّح لفقدان عدد كبير منها.