يثير الاهتمام الفرنسي المتصاعد خلال الأشهر الأخيرة بإقليم كردستان العراق، ولا سيما مع أربيل، صاحبة القرار السياسي والتنفيذي في البيت الكردي بالشمال العراقي، تساؤلات عن أهدافه وغاياته. والعلاقات بين الطرفين لم تشهد هذا المستوى من الاهتمام من قبل باريس، منذ نهاية حقبة الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران (1995)، الذي لعب دوراً كبيراً في دعم فرض مجلس الأمن الدولي منطقة حظر الطيران على المحافظات الكردية العراقية الثلاث في 1991 (أربيل، السليمانية، دهوك)، وما بعدها من دفع مشروع المصالحة بين الحزبين الكرديين في أربيل والسليمانية لإنهاء القتال الذي دام سنوات بينهما، وإطلاق برنامج مساعدات مالية وغذائية وصحية واسعة، وتوفير غطاء سياسي للقيادات الكردية آنذاك للتحرك أوروبياً، استمر لغاية انتهاء رئاسته.
هذا الاهتمام المتزايد من قبل إدارة الرئيس إيمانويل ماكرون يثير تخوف أطراف سياسية في بغداد، من مساعي باريس جرّ خلافاتها مع أنقرة إلى العراق، عبر بوابة إقليم كردستان، وتحديداً ورقة حزب "العمال الكردستاني"، الذي تواصل القوات التركية عملياتها العسكرية، منذ نحو 3 أشهر داخل العراق ضمن إقليم كردستان، للحد من قدرات الحزب العسكرية.
باريس تجد لها مساحة في الإقليم سياسياً أكثر مما في بغداد
وعلى الرغم من مشاركة باريس في التحالف الدولي، بقيادة واشنطن، لهزيمة تنظيم "داعش"، وإرسال قوات فرنسية لتدريب البشمركة ودعم الحاجز الأمني بطائرات "رافال" نهاية 2014 وبداية 2015، فضلاً عن إرسال أسلحة متوسطة وخفيفة لأربيل، إلا أن هذا الدعم ظل مقتصراً على الجانب المتعلق بالحرب على الإرهاب فقط، ومساعدات إنسانية للأقليات الدينية العراقية المتضررة من العمليات الإرهابية لتنظيم "داعش".
ومنذ يوليو/تموز الماضي شهدت أربيل عدة زيارات رفيعة لمسؤولين فرنسيين، أبرزهم وزير الخارجية جان إيف لودريان، ومن ثم وزيرة الجيوش الفرنسية فلورانس بارلي نهاية أغسطس/آب الماضي، أعقبها لقاء منفصل بين رئيس الإقليم نيجيرفان البارزاني وماكرون خلال زيارته الشهر الماضي إلى بغداد، وهو اللقاء الوحيد الذي أجراه ماكرون في زيارته لبغداد بشكل منعزل، إذ عقد اجتماعاً مع الرئاسات العراقية الثلاث في وقت واحد، فيما خصص نحو 40 دقيقة لاجتماع منفرد مع البارزاني الذي جاء من أربيل إلى بغداد خصيصاً لهذا اللقاء. بعدها أعلن ماكرون عن مبادرة، بالتعاون مع الأمم المتحدة، لدعم سيادة العراق، في تصويب واضح على العملية التركية داخل الأراضي العراقية. غير أن هذه المبادرة التي أعلنها الرئيس الفرنسي من قصر السلام في بغداد لم يتم التطرق لها لاحقاً، وبدت مثل إعلانات الساسة العراقيين المماثلة التي لا أثر لها على أرض الواقع.
والخميس الماضي أجرى أوليفي ديكوتيني، القنصل الفرنسي في أربيل، حيث تمتلك باريس ثاني أعلى تمثيل دبلوماسي غربي في الإقليم بعد الولايات المتحدة، تليها الإمارات التي وسعت أخيراً من عمل قنصليتها تحت غطاء الأعمال الإنسانية للنازحين، لقاء مع رئيس الحزب "الديمقراطي الكردستاني" مسعود البارزاني جرى خلاله بحث ملفات سياسية وفقاً لبيان صدر عن مكتب البارزاني. وأشار البيان إلى أن الأخير بحث مع القنصل الفرنسي الملفات ذات الاهتمام المشترك، من بينها الوضع الراهن وآخر المستجدات السياسية في المنطقة، كما تم تسليط الضوء على التهديد الأمني والتحديات التي تواجه العملية السياسية في العراق. وفي جزء آخر من الاجتماع، أشار القنصل الفرنسي إلى مواصلة دعم بلاده لإقليم كردستان. كما أكد الصداقة والعلاقات الثنائية بين الجانبين، بحسب ما ورد في البيان الختامي للقاء.
تمتلك تركيا أوراقاً في الإقليم أكثر من فرنسا، أبرزها التجارة والديون الضخمة على الإقليم لصالح أنقرة
سياسي عراقي بارز في بغداد، شارك في مأدبة رئيس الجمهورية برهم صالح التي أقامها بمناسبة زيارة ماكرون إلى بغداد الشهر الماضي، تحدث عن اهتمام فرنسي بدعم إقليم كردستان أكثر من دعمها لبغداد. وقال السياسي، الذي طلب عدم ذكر اسمه، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن باريس تجد لها مساحة في الإقليم سياسياً أكثر مما في بغداد، وهناك مشتركات وعلاقات تاريخية أيضاً بين القادة الأكراد ودوائر مؤثرة في باريس تعزز ذلك. لذلك فإن عودة فرنسا أخيراً إلى الشرق الأوسط، بمشاكله وصراعاته السياسية، وضعت إقليم كردستان في صلب اهتمامها. وإذ لفت إلى أن جانباً كبيراً من النشاط الفرنسي يهدف لمحاولة مُضايقة تركيا، فقد أكد أن القيادة الكردية تعي أهمية البقاء في منطقة رمادية وعدم إغضاب الأتراك في هذا الملف تحديداً، لذا تبقى المحاولات الفرنسية محدودة، وتقف عند سقف رغبة أربيل التزام الحياد، إذ تمتلك تركيا أوراقاً في الإقليم أكثر من فرنسا، أبرزها التجارة والديون الضخمة على الإقليم لصالح أنقرة، فضلاً عن الوجود العسكري التركي داخل العمق الجغرافي بإقليم كردستان. واعتبر أن ماكرون فشل لغاية الآن في استقطاب الأكراد في العراق إلى موقف يُفهم منه أنه ضد تركيا.
وكانت الخارجية الفرنسية قد نددت منتصف أغسطس الماضي بالعمليات التركية العسكرية داخل إقليم كردستان. ووصفت القصف التركي على موقع شمال أربيل، تسبب بمقتل ضباط عراقيين بحرس الحدود فضلاً عن قيادي بحزب "العمال الكردستاني"، بأنه "تطور خطير". ويتواجد عشرات الجنود الفرنسيين ضمن وحدة مهام التحالف الدولي، بقيادة الولايات المتحدة، في قاعدة شمال شرقي أربيل يعملون على تدريب وتطوير قدرات البشمركة، الذراع العسكري الرسمي لإقليم كردستان العراق، الذي يتمتع بحكم شبه مستقل عن بغداد وفقاً للدستور الجديد الذي كتب بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003.
الفرنسيون يحاولون منذ مدة إيجاد موطئ قدم لهم في العراق، وأفضل مكان هو إقليم كردستان
وفي السياق، اعتبر عضو لجنة الأمن والدفاع في مجلس النواب العراقي كاطع الركابي، أن علاقة أربيل مع باريس لا بد أن تكون بعلم الحكومة العراقية الاتحادية في بغداد ومن خلالها، وغير ذلك فهو مرفوض. وأضاف، في حديث لـ"العربي الجديد"، أنه "طالما العلاقة الحالية بين بغداد وإقليم كردستان شبه جيدة، فلا ضرر من تطوير العلاقات الكردستانية مع الدول الأوروبية، إما إذا كانت من دون علم بغداد فهي بكل تأكيد مرفوضة". وعن احتمال استخدام باريس لأربيل منصة لمواجهة أنقرة، استبعد الركابي ذلك، موضحاً أن "علاقة إقليم كردستان وفرنسا قديمة، وكردستان يريد حالياً ترتيب أوضاعه على مستوى الصداقات والتسليح، ومن غير المنطقي أن يفرط كردستان بعلاقة دائمة واقتصادية وجغرافية مع تركيا في سبيل البقاء مع علاقة وقتية مع فرنسا".
من جهته، لفت علي البديري، عضو البرلمان عن تحالف "عراقيون" بزعامة عمار الحكيم، في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى أن الفرنسيين ومنذ مدة يحاولون إيجاد موطئ قدم لهم في العراق، وأفضل مكان هو إقليم كردستان، فكما هو معروف فإن أغلب قراراته فردية وبعيدة عن رؤية بغداد. وأضاف البديري "الفرنسيون الآن يحاولون استثمار الوضع في الإقليم والعملية التركية التي ترتكب فيها انتهاكات ضد سيادة العراق، وتهديد أمن مواطنيه، لذا دفعهم ذلك لاستغلال هذه النقطة تحديداً". وتابع "نحن نشعر بمأساة حقيقية في العراق. وبكل صراحة، المأساة نابعة من غياب هيبة الدولة العراقية، وهذه الهيبة لو كانت موجودة لما وجدنا مثل هذه المشاريع القائمة على تصفية حسابات ومصالح لدول وجهات مختلفة".
لكن الخبير في الشأن السياسي العراقي إياد الدليمي تحدث، لـ"العربي الجديد"، عما وصفه بسعي فرنسا في عهد ماكرون إلى لعب دور أكبر في الملفات الخارجية، ولا سيما في الشرق الأوسط، قد يكون جزء منها يتعلق بالوضع الداخلي الفرنسي حالياً. وأضاف أن "فرنسا تحاول تحجيم الدور التركي في المنطقة، الذي يبدو أنه بدأ يزعج دوائر القرار الفرنسية، لا سيما أن لفرنسا تاريخاً غير ودي مع تركيا، وشاهدنا ذلك في أكثر من ملف، وتحديداً في أزمة شرق المتوسط الأخيرة". وتابع "من هنا يأتي الاهتمام الفرنسي بإقليم كردستان العراق. فعلى الرغم من أن باريس لم تكن لاعباً دولياً مؤثراً في عموم المشهد العراقي، إلا أنها دخلت بقوة على خط إقليم كردستان، كمسعى فرنسي لإيجاد ملف يمكن أن يزعج تركيا مستقبلاً". لكن الدليمي اعتبر أن "فرص باريس في الإقليم تبدو محدودة جداً، لأن أربيل تتشارك مع الأتراك في العديد من الملفات، التي لا يبدو أن فرنسا قادرة على فك ارتباطهما. صحيح أن تركيا تقصف مواقع داخل الإقليم تابعة لحزب العمال الكردستاني التركي، إلا أن ذلك يتم غالباً تحت غطاء التفهم الكردي للمخاوف التركية".