تنتج روسيا وأوكرانيا، منذ زمن طويل، جزءاً كبيراً من الغذاء العالمي، وإلى ما قبل الحرب الأخيرة، كانتا تمثلان حوالي ربع صادرات القمح والشعير في العالم، وحصّة كبيرة من زيت الطهي. وتنفرد روسيا بأنها أكبر مورد للأسمدة، إلا أن الحصار الروسي لأوكرانيا، والعقوبات الغربية ضد روسيا، أديا إلى انخفاض حاد في الصادرات، وارتفاع الأسعار في جميع أنحاء العالم، حتى صار ذلك يهدد بمجاعة في بعض المناطق، لا سيما في شرق أفريقيا.
تقاطعات عسكرية وتجارية في البحر الأسود
الطريق الأساسي لتصدير الحبوب من أوكرانيا هو ميناء أوديسا على البحر الأسود، الذي لا يعتبر من البحار الكبيرة عالمياً. وعلى الرغم من أنه يزدحم بالدول المتشاطئة على سواحله، وهي أوكرانيا وروسيا وجورجيا وبلغاريا ورومانيا وتركيا، فإنه يعد منطقة بحرية رئيسية لكل من أوكرانيا وروسيا، التي تمتلك أسطولاً عسكرياً خاصاً، يحمل اسم "اسطول البحر الأسود".
ينظر إلى البحر الأسود على أنه مصدر قلق ثانوي، على الرغم من التشابك الدولي الكبير، واندلاع عشر حروب على سواحله أو بالقرب منه منذ نهاية الحرب الباردة، أكثر من أي منطقة بحرية أخرى في العالم: صراع ترانسنيستريا في مولدوفا، الحرب الجورجية الأبخازية، الحرب الأهلية الجورجية، الحرب الروسية الجورجية، الحربان الشيشانيتان الأولى والثانية، الحرب الروسية الأذربيجانية والأوكرانية في 2014 و2022.
لم تبادر روسيا إلى شنّ أي هجوم كبير على أوديسا، بعدما فشلت بالاحتفاظ بجزيرة الأفعى
نادراً ما يُعتبر البحر الأسود من بين أهم المساحات الاستراتيجية في العالم، حتى بين المسطحات المائية. حظي بحر الصين الجنوبي والخليج العربي وشرق البحر الأبيض المتوسط بمزيد من الاهتمام في السنوات الأخيرة، ومع ذلك يبقى البحر الأسود الفضاء الذي تلتقي فيه العديد من أكبر القوى في العالم: روسيا، الاتحاد الأوروبي، تركيا، حلف شمال الأطلسي، والولايات المتحدة.
لعب البحر الأسود دوراً مهماً في حرب روسيا على أوكرانيا، منذ ضمّ روسيا شبه جزيرة القرم في عام 2014 إلى الهجوم الشامل في فبراير/شباط 2022. وفي حين أن معظم التغطية الإخبارية والتحليلات ركزت على القتال الأكثر وضوحاً على الأرض، لا تزال العمليات البحرية في البحر الأسود تستحق اهتماماً أكبر.
حرب روسيا على أوكرانيا، وقبلها غزوها جورجيا عام 2008 وتدمير أسطول خفر السواحل الصغير في تبليسي، وقصف ميناء بوتي الرئيسي، وإضفاء الطابع الرسمي على السيطرة على أبخازيا، وهي منطقة انفصالية على الشواطئ الشرقية للبحر الأسود.. كل ذلك يحمل في طياته توجهاً لروسيا في إعادة ترسيخ نفوذها على البحر الأسود، وإبعاد القوى المنافسة، من أوروبية وأطلسية، وحتى تركيا. وتحدث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن ذلك صراحة في خطابه خلال مؤتمر ميونخ الأمني لعام 2007، والذي أبدى فيه نوعاً من الندم على قرارات روسيا بسحب القواعد السوفييتية القديمة في مولدوفا وجورجيا بالسنوات السابقة.
أدركت تركيا بعد وقت قصير من حرب روسيا على أوكرانيا، أخطار تحوّل هذا البحر إلى منطقة مواجهة عسكرية، فعمدت إلى إغلاق مضيق البوسفور أمام السفن الحربية، وبذلك لم تدخل المنطقة أي سفينة حربية لا للبلدين المتنازعين، ولا للأطراف الدولية، وكانت آخر سفينة حربية أميركية قد غادرت المنطقة في ديسمبر/كانون الأول 2021.
روسيا التي تعد القوة العسكرية الأساسية، لم تتأثر كثيراً بالقرار بفضل امتلاكها أسطولاً كبيراً هناك، ولذا سرت مخاوف من أنها يمكن أن تقوم بهجوم برمائي على أوكرانيا بهدف السيطرة على مدينة أوديسا الساحلية. وفي وقت مبكر من الحرب، شنّت القوات الروسية هجمات بحرية، واستولت على جزيرة الأفعى في فبراير 2022، غير أن الأوكرانيين، استعادوا الجزيرة بسرعة، وفي 24 إبريل/نيسان من ذلك العام، أغرقوا أهم سفينة حربية في أسطول البحر الأسود، وهي سفينة الصواريخ الموجهة "موسكفا".
منذ ذلك الحين، بقي النشاط البحري العسكري مضطرباً، ويسجل للسفينة "موسكفا" أنها لعبت دوراً في السيطرة الروسية على البحر الأسود في بداية الحرب من خلال منع أوكرانيا من تصدير الحبوب، وحينما تمّ إغراقها، غرقت معها سيطرة روسيا على البحر الأسود، وساد الاعتقاد بأن خليج أوديسا بات مفتوحاً أمام نقل البضائع.
معادلة "المناوشات المحدودة"
تغيرت طبيعة النشاط العسكري الروسي، ولم تتمكن القوات الروسية من شنّ هجوم برمائي واسع على مدينة ماريوبول الساحلية الصغيرة، التي شهدت قتالاً عنيفاً في وقت مبكر من الحرب. وظهر أنه لم يكن من المحتمل تنفيذ هجوم كبير على أوديسا، لأن أسطول البحر الأسود الروسي لديه سفن برمائية صغيرة الحجم، وتبين أن العمليات البرمائية الكبيرة لم تكن قط ضمن القدرة العسكرية، ولم تبدر من روسيا أي فكرة في هذا الاتجاه، بعدما فشلت بالاحتفاظ بجزيرة الأفعى.
تم تدمير 26 سفينة أوكرانية أو الاستيلاء عليها من قبل روسيا منذ بدء الحرب
أخذت الحرب في البحر الأسود طابع المناوشات المحدودة. لم تظهر أوكرانيا قدرة على مواجهة بحرية كبيرة، بعدما تمكنت روسيا من تدمير سفينة إنزال أوكرانية في ميناء أوديسا في مايو/أيار الماضي، وهي آخر ناجٍ من الأسطول الحربي الأوكراني، كانت القوات الأوكرانية قد أخفتها لأشهر عدة.
بدورها، هاجمت أوكرانيا سفينة استطلاع واستخبارات روسية، "إيفان خورس"، في مايو الماضي، آتية من البحر الأبيض المتوسط، وخارج مضيق البوسفور. تعرضت السفينة لهجوم من قبل 3 طائرات من دون طيار على بعد أكثر من 400 كيلومتر قبالة الساحل الأوكراني. وزعمت موسكو أنها دمرت المسيّرات، لكن كييف نشرت مقطع فيديو أظهر أن واحدة منها على الأقل قد اصطدمت بالسفينة، على الرغم من عدم معرفة ما إذا كانت تسبّبت بأي ضرر.
من الناحية النظرية، تتمتع روسيا بتفوق واضح على أوكرانيا من حيث الأصول البحرية. وفقاً لموقع "أوريكس" Oryx على الإنترنت، الذي ينشر خسائر الطرفين المتحاربين استناداً إلى أدلة مرئية، تم تدمير 26 سفينة أوكرانية أو الاستيلاء عليها من قبل روسيا منذ بدء الحرب، أي ما يقرب من أسطولها الحربي بأكمله. وفي مارس/آذار 2022، أُجبر الأوكرانيون على إفراغ الفرقاطة Hetman Sahaydachniy، وهي السفينة الرئيسية لترسانتهم، في ميناء ميكولايف لمنع وقوعها في أيدي الروس.
مجريات الحرب كشفت أن روسيا وأوكرانيا في مأزق عندما يتعلق الأمر بالبحر الأسود، على غرار المعركة البرّية. ولذا فإن الهجوم البرمائي الروسي لم يحصل، بل لم تقم روسيا بأي مناورات بحرية كبيرة، ولذا لعب البحر الأسود دوراً تجارياً في الصراع أكثر منه عسكرياً، ما أثّر على صادرات الحبوب من أوكرانيا، عندما قصف الجيش الروسي ميناء أوديسا، ومراكز شحن أخرى. وحاصرت روسيا البحر الأسود، بينما قامت أوكرانيا بتلغيم مينائها. ولذا توقفت صادرات الحبوب بشكل أساسي، ما أضر بالاقتصاد الأوكراني.
سمحت مبادرة حبوب البحر الأسود، التي توسطت فيها الأمم المتحدة وتركيا في يوليو/تموز 2022، للسفن التي تحمل المواد الغذائية بمغادرة الموانئ الأوكرانية، ونصّ الاتفاق على تسهيلات لتمكين الصادرات الزراعية الروسية. لكن الكرملين اشتكى من أن ما حصلت عليه روسيا غير كاف على الإطلاق، ما أدى إلى انخفاض الصادرات وإجبار المنتجين الروس على البيع للعالم بأسعار أقل من السوق، لصالح المنافسين الأوروبيين.
أوكرانيا برهنت على قدرة لمواجهة نظيرتها الروسية في البحر الأسود
وقدمت موسكو مجموعة من المطالب لمواصلة مبادرة الحبوب، منها السماح للبنك الزراعي المملوك للدولة في روسيا بالانضمام إلى نظام "سويفت" الذي يتيح المعاملات المالية الدولية، والتأكد من أن شركات التأمين والشحن الأجنبية يمكنها التعامل مع المصدرين الزراعيين الروس دون انتهاك العقوبات، والسماح لروسيا باستئناف استيراد قطع غيار المعدات الزراعية، وإنهاء العقوبات المفروضة على منتجي الأسمدة الروس ومديريهم التنفيذيين، واستعادة خط أنابيب يحمل الأمونيا الروسية إلى أوديسا.
يرى خبراء غربيون مزيداً من النشاط العسكري حول البحر الأسود، بعد أن انسحبت روسيا من اتفاق الحبوب الذي يسمح لسفن الشحن من الموانئ الأوكرانية بتجاوز الحصار الروسي، وبدأت قصفاً مكثفاً للمنشآت المستخدمة لشحن الحبوب وزيت الطهي. وحذر الجيش الروسي من أن أي سفن تحاول الوصول إلى أوكرانيا ستعامل على أنها معادية، وأن دولها "ستُعتبر متورطة في النزاع الأوكراني".
وأجرت روسيا مناورات بحرية في شمال غرب البحر الأسود، وهو الجزء القريب من الساحل الأوكراني لتوجه رسالة مفادها أنها تمتلك إمكانية الاستيلاء على سفن الشحن التابعة لدول غير مقاتلة أو تدميرها. وقالت وزارة الدفاع الروسية في بيان إن زورقاً صاروخياً أطلق صواريخ كروز مضادة للسفن ودمر سفينة "هدفاً وهمياً"، بينما مارست سفن وطائرات أسطول البحر الأسود "عزل منطقة مغلقة مؤقتاً أمام الملاحة" وأجرت تدريبات "للقبض على سفينة دخيلة وهمية".
عرض القوة الروسي لن يتجاوز الحرب التدميرية، لأن أوكرانيا برهنت على قدرة لمواجهة نظيرتها الروسية في البحر الأسود. لقد أغرقت سفينة "موسكفا"، واستخدمت طائرات من دون طيار لتدمير السفن الروسية في سيفاستوبول، وألحقت أضراراً بجسر مضيق كيرتش الذي بنته روسيا بعد عام 2014 لربط بحر آزوف والبحر الأسود، واستعادت جزيرة الأفعى. وبفضل هذه النجاحات، خسرت القوات البحرية الروسية القدرة على الاشتباك البحري.