"هذه ليست سوى البداية". بترديد هذه العبارة، استنسخ أنصار الرئيس البرازيلي السابق جايير بولسونارو، مشهد اقتحام أنصار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب قبل عامين مقر الكونغرس الأميركي في واشنطن للاعتراض على فوز جو بايدن بالرئاسة، لكن بشكل أوسع وأكثر عنفاً هذه المرة، حين اقتحموا، لخمس ساعات متواصلة، أول من أمس الأحد، القصر الرئاسي في برازيليا، ومقري الكونغرس والمحكمة العليا، رفضاً لوصول اليساري لويس إيناسيو لولا دا سيلفا إلى الرئاسة.
وبينما يبدو الاقتحامان متشابهين في الدوافع والمنفّذين، وكلاهما يقودان إلى جنوح اليمين المتطرف حول العالم إلى العنف أداة لمحاولة الانقلاب على المؤسسات الدستورية، بدأ يسود القلق، بعد أحداث برازيليا، من أن يصبح مشهد الاقتحامات للمؤسسات الرسمية مكرراً، مع تصاعد الصراعات بين التيارات اليمينية المتطرفة والأنظمة التقليدية. وليس مشهدا برازيليا وواشنطن وحيدين، إذ كانت ألمانيا قد كشفت عن مخطط لليمين المتطرف للانقلاب على الدولة.
وفي الحالة البرازيلية، يصعّب الاقتحام من مهام لولا. وعلى الرغم من أنه شنّ، منذ مساء الأحد، حملة شرسة لـ"تطهير" البلاد من "الفاشيين"، على حد تعبيره، إلا أنه قد يُنظر إلى الاقتحام على أنه فرصة لبدء الحملة. وساد التناقض تجاه توصيف ما حدث، إذ صدرت تصريحات رسمية تحدثت عن "محاولة انقلاب"، بحسب تعبير وزير العدل والأمن العام فلافيو دينو. في المقابل، أصدر قاضي المحكمة العليا ألكسندر دي مورايس أمراً لمنصات التواصل بمنع الدعاية التي تروج لـ"انقلاب"، في إطار التوجه إلى تصنيف المحتجين والمقتحمين في خانة الإرهابيين أو الفاشيين.
اتهم لولا بولسونارو بالتحريض على الهجوم ووصفه بالانتحاري
لكن مع تهديد المقتحمين بمزيد من التحركات، وحملة التحقيقات والأوامر التي صدرت، والتي تستهدف في جزء كبير منها الشرطة البرازيلية، وهي المؤسسة التي زرع فيها بولسونارو الولاءات من أعلى هرمها إلى أسفله، تبدو فرص "المصالحة" في البرازيل ضعيفة وسط انقسام متزايد، هذا فضلاً عن ضرورة انتظار رد فعل الشرطة والجيش، خصوصاً أنه توجه اتهامات لشخصيات عسكرية بأنها كانت داعمة لأجندة بولسونارو اليمينية المتطرفة لفترة طويلة، ومارست سياسة غض الطرف عن التظاهرات المؤيدة للانقلاب في أجزاء مختلفة من البلاد، في الفترة التي سبقت الهجوم الأخير على المؤسسات الرسمية.
وجاء الاقتحام الذي لم يسجل وقوع قتلى، لكنه ضرب 3 مبان تعدّ رمزاً مهماً للبرازيليين، في وقت يحاول فيه لولا إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، بعد 4 أعوام من حكم بولسونارو، مع محاولة إعادة الجيش إلى ثكناته وإبعاده عن السياسة، بعد النفوذ الذي منحه بولسونارو لعدد كبير من الضباط. ولا يقتصر الأمر على ذلك، إذ أن ما حصل، الأحد، فضلاً عن تهديدات بالتعرض لشركة النفط الوطنية "بتروبراس"، بحسب ما نقل مراسلون أجانب على "تويتر" في حساباتهم الخاصة من برازيليا، من شأنه أن يعرقل انطلاقة الحكومة الجديدة، ويمنح إشارات سلبية لقطاع الاقتصاد البرازيلي المتعثر.
وبينما تدور التساؤلات حول ما إذا كان الاقتحام عفوياً أو منسقاً كاختبار أولي من "البولسانوريستا" لولاءات الجيش والشرطة، ينسحب ضعف المعلومات الأولية على قيادة هذا الحراك غير المعروفة، فيما يبدو أن بولسونارو اختار حالياً "المنفى الطوعي" في الولايات المتحدة، لترقّب الأوضاع والتفكير في المرحلة المقبلة.
وعلى وقع هتافات تطالب بتدخل الجيش ورحيل لولا من السلطة، وهتاف "الله، أرض الآباء، الحرية"، و"هذه ليست سوى البداية"، تمكن المئات من أنصار الرئيس البرازيلي السابق جايير بولسونارو، أول من أمس، من كسر الطوق الأمني، واجتياز المنطقة الحكومية الرئاسية والوصول إلى مقر الرئاسة البرازيلية في العاصمة برازيليا (قصر بلانالتو)، ومقري الكونغرس والمحكمة العليا، في الـ"براسا دوس تريس بوديريس"، أو "ساحة القوى الثلاث" الشهيرة. وجاء الاقتحام بعد أسبوع من تنصيب لولا رئيساً رسمياً، الأحد الماضي، في المكان نفسه، وبدء الشرطة البرازيلية تخفيف الإجراءات في العاصمة، والتي شدّدتها خلال تنصيب لولا.
وأظهرت لقطات نشرت على وسائل التواصل، قيام المقتحمين، الذين قدّرت بعض وكالات الأنباء عددهم بالآلاف، بتكسير أبواب داخل هذه المقرات وتحطيم نوافذ وإضرام النار في سقف مبنى الكونغرس، واستخدام الأثاث كحواجز لصدّ رجال الأمن. ونشر مسؤولون في الحكومة، أمس الاثنين، صوراً ومقاطع فيديو لحجم الخراب الذي خلّفه المقتحمون. وحاول هؤلاء إضرام النار في سجادة داخل الكونغرس، ما استدعى تفعيل نظام رشّ الماء، لتظهر قاعات تفيض بالمياه، وجلوس أحد المتظاهرين على كرسي رئيس الغرفة السفلى في الكونغرس (البرلمان). ولم تكتف الجموع بالتخريب، بل سرقت من المقرات الثلاثة هدايا مقدمة من دول أجنبية، والنسخة الأصلية من دستور البلاد لعام 1988. وتحدثت مواقع صحافية عن مهاجمة المخرّبين لأكثر من 10 صحافيين.
وأكد مشاركون في الاقتحام، وجميعهم كانوا يرتدون قمصان المنتخب البرازيلي لكرة القدم الأصفر، الرمز الذي اتخذوه لأنفسهم، أنهم لا يعترفون بحكومة لولا "غير القانونية"، بحسب قنوات تلفزة منها "سي أن أن"، ووكالة "فرانس برس"، وأنهم سيغادرون "لكنهم سيعودون". واستمرت الفوضى لساعات، قبل أن يعلن وزير العدل والأمن العام فلافيو دينو، استعادة قوات الأمن السيطرة على المباني الثلاثة، ليلاً، واعتقال أكثر من 200 شخص، وهو رقم عاد ليرتفع، وصولاً إلى 400 شخص، بحسب بعض وسائل الإعلام.
وتفقد الرئيس البرازيلي في وقت متأخر الأحد، بعدما عاد من ساو باولو، المباني الثلاثة المتضررة، وأكد أنه سيستأنف العمل في القصر الرئاسي (أمس الاثنين)، فيما الكونغرس والمحكمة العليا في عطلة حتى شهر فبراير/شباط المقبل. واتهم لولا، الأحد، من ساو باولو، سلفه بـ"تشجيع المخربين الفاشيين" على اقتحام مقرات السلطة. وقال في إشارة إلى بولسونارو: "هذا الشخص الانتحاري... أثار كلّ هذا، لقد شجّع على اقتحام أفرع الحكومة الثلاثة".
أمرت المحكمة العليا بتفكيك خيم المعتصمين وإنهاء إغلاق طرقات
وكتب لولا، الذي كان تسلّم منصبه رسمياً في الأول من شهر يناير/كانون الثاني الحالي، بغياب سلفه، على "تويتر"، ليل الأحد-الاثنين، أنه "يجرى التعرف على الانقلابيين الذين أقدموا على تخريب الممتلكات العامة في برازيليا، سنجدهم كلهم، وسيحاسَبون. الديمقراطية دائماً". وشدّد على أن "الديمقراطية تضمن حرية التعبير، لكنها تتطلب أيضاً احترام المؤسسات". وأضاف "ما فعله هؤلاء المخربون، هؤلاء الفاشيون المتعصبون، لم يسبق له مثيل في تاريخ بلادنا. أولئك الذين موّلوا (هذه الاحتجاجات) سيدفعون ثمن هذه الأعمال غير المسؤولة وغير الديمقراطية".
من جهته، دان بولسونارو، الذي كان انتقل إلى ولاية فلوريدا الأميركية قبل يومين من تنصيب خلفه، في سلسلة تغريدات "اقتحام ونهب مبانٍ عامة"، لكنه رفض اتهامات لولا له بأنه هو من حرّض على الاقتحام في برازيليا، معتبراً أن هذه الاتهامات "لا أساس لها". كما دافع بولسونارو عن الحق في تنظيم "احتجاجات سلمية".
بدورهم، نأى عدد من حلفاء بولسونارو بأنفسهم عن العنف، بمن فيهم فالديمار كوستا نيتو، رئيس حزب بولسونارو، الحزب الليبرالي اليميني، معرباً عن أسفه لهذا "اليوم الحزين للأمة البرازيلية".
وعلى الفور، بدأت أولى تداعيات الاقتحام بالظهور، وبعضها قد يصب في إطار الإجراءات التي تخدم خطّة لولا في "إعادة تصحيح" أوضاع المؤسسات، لاسيما العسكرية والأمنية. وأصدر لولا، أمس، مرسوماً يقضي بـ"تدخّل اتحادي" للقوى الأمنية بغية استعادة السيطرة على أمن العاصمة، وهو مرسوم يمكّن الدولة من السيطرة على قيادة قوات الأمن التي عادة ما تكون تحت مسؤولية السلطات المحلية.
وقال لولا، في تبريره للإجراء، إن قوة الشرطة المحلية التي ترفع تقاريرها إلى حاكم برازيليا إيبانييس روشا، حليف بولسونارو السابق، لم تفعل شيئاً لوقف تقدم المحتجين. ويضع هذا المرسوم جميع القوى الأمنية في برازيليا تحت سيطرة شخص عيّنه لولا، هو ريكاردو غارسيا كابيلي، الذي يقدّم تقاريره مباشرة إلى الرئيس ويمكنه اللجوء إلى "أي هيئة، مدنية كانت أم عسكرية"، من أجل حفظ النظام.
ولم يتوقف الأمر على ذلك، إذ أعفت المحكمة العليا البرازيلية، في وقت متأخر الأحد، حاكم برازيليا روشا من منصبه لمدة 90 يوماً، بسبب "قصور أمني" في العاصمة.
كما أمر قاضي المحكمة العليا ألكسندر دي مورايس منصات التواصل الاجتماعي "فيسبوك" و"تويتر" و"تيك توك" بمنع الدعاية التي تروج لـ"انقلاب"، مع بدء السلطات البرازيلية (المدعي العام البرازيلي أوغستو آراس) التحقيق في الهجوم الأسوأ في البلاد، منذ الانقلاب العسكري عام 1964. وكان روشا، قبيل تجميد عمله، قد قدّم اعتذاره للولا في مقطع فيديو، واصفاً المشاركين في الاقتحام بأنهم "مخرّبون وإرهابيون حقيقيون". وكان روشا أكد على "تويتر"، اعتقال 400 شخص من المشاركين في الهجوم، مضيفاً أنهم "سيدفعون ثمن الجرائم التي ارتكبوها".
لكن الإجراء الأبرز ظلّ أمس، الأمر الذي أصدره القاضي دي مورايس، والذي يطلب فيه من الجيش تفكيك جميع الخيم التي ظل يرابط فيها أنصار بولسونارو أمام ثكنات الجيش في أنحاء البلاد، منذ خسارته الانتخابات بفارق ضئيل أمام لولا في الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية البرازيلية، والتي أجريت في 30 أكتوبر/تشرين الأول الماضي. وطالب دي مورايس، بتفكيك هذه الخيم في غضون 24 ساعة، كما أمر الجيش باعتقال أي متظاهر لا يزال في الشارع.
وقال الأمر، بحسب شبكة "سي أن أن"- البرازيل: "لا شيء على الإطلاق يبرّر وجود هذه المخيمات الممتلئة بالإرهابيين، والممولة من قبل ممولين متنوعين، وبتوافق مع السلطات المدنية والعسكرية، بانقضاض تام على الاحترام المطلوب للدستور الفيدرالي". وحذّر مورايس من أن جميع قادة القوات المسلحة والشرطة ووزير الدفاع "سيخضعون للمحاسبة إذا لم يتم تفكيك المخيمات"، مطالباً أيضاً بإنهاء إغلاق المحتجين للطرقات السريعة.
أصدر لولا مرسوماً يُمكّن الدولة من السيطرة على قيادة قوات الأمن
وتطرقت صحيفة "واشنطن بوست"، من جهتها، إلى وضع سكرتير الأمن العام في مقاطعة برازيليا، أندرسون توريس، الذي شغل في عهد بولسونارو منصب وزير العدل والأمن العام. وذكرت وكالة "رويترز"، أمس، أنه إثر أحداث الاقتحام، أعلن حاكم برازيليا إيبانييس روشا (قبل تجميد عمله لـ90 يوماً)، أنه أقال توريس من منصبه. فيما ذكرت "واشنطن بوست" أن توريس أدان الأحداث الأحد على "تويتر"، لكنه موجود هو أيضاً في فلوريدا. ونقلت الصحيفة عن الإعلام البرازيلي، تأكيد توريس له أنه "لم ير بولسونارو خلال إقامته في فلوريدا، وأنه لا توجد أي مؤامرة".
ولكن مكتب الرئاسة البرازيلية أمر، في وقت متأخر مساء الأحد، المحكمة العليا، بإصدار مذكرة بحث وتحر عن توريس، لتوقيفه، وطلب أن يشمل التحقيق التحضير لأحداث الشغب والدعوات إليها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ومن شركات الهواتف المحمولة بإبقاء بياناتها لتحديد المشاركين، كما أن تشمل التحقيقات كل عناصر الشرطة. ويبدو أن بعض الخيوط كانت بدأت تتكشف، مع إعلان روشا، معرفة من موّل الـ40 باصاً التي أوصلت المشاركين في الاقتحام إلى برازيليا (انضموا لوقت قليل إلى المعتصمين في الخيم).
في غضون ذلك، حظي الاقتحام بتنديد دولي واسع، لاسيما من الولايات المتحدة، ورئيسها جو بايدن، الذي ذكرت وكالة "رويترز"، في تقرير لها أمس، أنه قد يكون في موقع حرج بالنسبة إلى تواجد بولسونارو في فلوريدا.
ودان بايدن الأحد الهجوم في برازيليا، الذي اعتبره في تغريدة "هجوماً على الديمقراطية وعلى التداول السلمي للسلطة في البرازيل". وأكد بايدن أن "المؤسسات الديمقراطية البرازيلية تحظى بدعمنا الكامل، وإرادة الشعب البرازيلي يجب ألا تقوَّض". كما اعتبر وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن أن "استخدام العنف لمهاجمة المؤسسات الديمقراطية يبقى على الدوام أمراً غير مقبول". وكتب مستشار الأمن القومي في البيت الأبيض جيك سوليفان على "تويتر"، أن واشنطن "تدين أي محاولة لتقويض الديمقراطية في البرازيل".
وفي القارة الأميركية، أعرب الرئيس المكسيكي أندريس مانويل لوبيز أوبرادور عن دعمه للولا، مؤكداً أن "محاولة الانقلاب في البرازيل مستهجنة وغير ديمقراطية"، فيما دعت الحكومة التشيلية من جهتها إلى عقد جلسة خاصة للمجلس الدائم لمنظمة الدول الأميركية، التي دان أمينها العام لويس ألماغرو "الاعتداء على المؤسسات في برازيليا"، معتبراً أن "هذه الأفعال لا تُغتفَر وهي فاشية بطبيعتها". كما دان الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو "الجماعات الفاشية الجديدة" التي تسعى إلى إطاحة لولا، ودان الرئيس الكوبي ميغيل دياز كانيل ما وصفها بأنها "أعمال مناهضة للديمقراطية تهدف إلى إثارة الفوضى وعدم احترام الإرادة الشعبيّة". ورأى وزير خارجية بوليفيا روخيليو مايتا إن أحداث البرازيل "أظهرت أن أميركا اللاتينية تواجه تحدّياً يتمثل في الدفاع عن ديمقراطياتنا عبر منع انتصار خطاب الكراهية".
كما منح رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال "الدعم الكامل للرئيس لولا الذي انتخبه بشكلٍ ديمقراطي ملايين البرازيليين بعد انتخابات نزيهة وحرّة". وقالت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون ديرلاين، عبر "تويتر": "أدين بشدة الاعتداء على الديمقراطية في البرازيل. هذا مصدر قلق كبير لنا جميعاً كمدافعين عن الديمقراطية. دعمي الكامل للرئيس لولا دي سيلفا الذي انتخب بحرية ونزاهة". وعبّر مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل عن التأييد نفسه. وفي باريس، دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى "احترام المؤسسات الديمقراطية" في البرازيل، مشدّداً على "دعم فرنسا الثابت" للولا. وفي روما، قالت رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني إن هجوماً كهذا على مقرات حكومية "غير مقبول ولا يتوافق مع أي شكل من أشكال المعارضة الديمقراطية".
واستنكر الكرملين اقتحام برازيليا، مؤكداً "دعمه الكامل" للولا دا سيلفا، بحسب المتحدث باسمه دميتري بيسكوف. كما أعربت الصين عن "معارضتها الشديدة للهجوم العنيف".
(العربي الجديد، فرانس برس، رويترز، أسوشييتد برس)