يتولى جو بايدن اليوم الأربعاء، منصبه بوصفه الرئيس السادس والأربعين للولايات المتحدة، في ظلّ أزمات اقتصادية وسياسية وصحّية وأمنية، لم تشهد البلاد مثيلاً لها منذ عقود. لكن من الخطأ الاعتقاد أن خروج دونالد ترامب من البيت الأبيض، يعني إغلاق الباب على "الترامبية" كظاهرة سياسية واجتماعية في الولايات المتحدة، مع كلّ تبعاتها وحمولتها العنصرية والشعبوية. فلم يكن وصول ترامب إلى الحكم، إلا محصلة لسلسلة من العوامل والمشاكل التي كانت دائماً حاضرة في المجتمع الأميركي، لكنها تضافرت وتفاقمت خلال العقود الأخيرة. ومن هذه المشاكل، اتساع الهوّة والفروقات الطبقية، وانحسار الطبقة المتوسطة، وخضوع الطبقة السياسية الحاكمة بالكامل لنفوذ الأثرياء وجماعات الضغط (اللوبيات) في واشنطن، والتي تفضل مصالحها على مصالح المواطنين. أضف إلى كل هذا، العنصرية المتجذرة في الممارسة وبعض المؤسسات والمخيال الجماعي وأساطيره المؤسسة.
يرى أكثر من 50 في المائة من الأميركيين أن التهديد الأكبر على الولايات المتحدة يأتي من أميركيين آخرين
يرى بعض المحللين في الولايات المتحدة، أن السادس من يناير/كانون الثاني الحالي، تاريخ اقتحام مبنى الكابيتول (مقر الكونغرس) من قبل مؤيدي ترامب للحيلولة دون المصادقة على نتائج انتخاب بايدن، سيحفر في الذاكرة الجماعية الأميركية بأثرٍ مشابه لهجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 في تبعاته، وأثره بعيد المدى على حياة الأميركيين اليومية. تشير استطلاعات للرأي، وآخرها لمحطة "سي بي إس" الأميركية، إلى أن أكثر من 50 في المائة من الأميركيين يرون أن التهديد الأكبر على الولايات المتحدة يأتي من أميركيين آخرين، في حين يرى ثمانية في المائة فقط أن التهديد يأتي من الخارج. كما أن 42 في المائة يرون أن التحدي الأكبر الذي يواجه بايدن، هو الانقسام السياسي الداخلي. ولا يتمثل هذا الانقسام الداخلي في محاولة الانقلاب الفاشلة فحسب، بل في التفاصيل التي لا نزال نكتشف حيثياتها يوماً بعد يوم.
وفي هذا السياق، لا بد من التوقف عند أمرين مهمين. أوّلهما نسبة وحجم اختراق المتطرفين من اليمينيين، بمن فيهم الذين يؤمنون بالتفوق العرقي الذي أجّجه وأطلق عنانه ترامب، للمؤسسات الأمنية كحرس مبنى الكابيتول والشرطة، وحتى الحرس الوطني والجيش. فقد أدّت التحقيقات الأولية إلى توجيه اتهامات لعدد من الأشخاص الذين شاركوا في عمليات الاقتحام للكابيتول، وتبيّن أن عدداً منهم ينتمي إلى صفوف الشرطة وجنود وعسكريين سابقين ورجال الإطفاء. بل إن واحداً من المخاوف التي يتحدث عنها الإعلام الأميركي في ما يخص مراسم تنصيب بايدن، هو أن يكون هناك هجوم من قبل شخص أو أشخاص من الحرس الوطني المكلف بحماية مراسم التنصيب. وقد استدعي 25 ألف جندي من الحرس الوطني إلى العاصمة، إضافة إلى القوات الأمنية الأخرى، لتأمين مراسم التنصيب وحماية المنطقة. والأمر الثاني، يتعلق بشكوك حول عدد من النواب المنتخبين أنفسهم. حيث هناك تحقيقات جارية كذلك، عن تعاون محتمل بين بعض هؤلاء مع عدد من المتظاهرين الذين اقتحموا المبنى. ويجري التحقيق حالياً حول ما إذا كان بعض النواب المنتخبين قد اصطحبوا بعض المتظاهرين في جولات داخل المبنى في اليوم السابق للهجوم على الكابيتول.
مهما يكن من نتائج التحقيقات، هناك حقيقة لا يمكن غضّ النظر عنها، وهي أن نسبة كبيرة من الأميركيين الذين انتخبوا ترامب (حصل على تأييد أكثر من 74 مليون أميركي، مقابل أكثر من 81 مليون صوّتوا لصالح بايدن) يؤمنون بأنه لم يخسر الانتخابات ويصدقون ادعاءاته. وبحسب استطلاع للرأي لوكالة "أسوشييتد برس"، فإن أكثر من نصف الجمهوريين يعتقدون أن ترامب هو الذي فاز فعلاً بالانتخابات. ولعل الأخطر، هو أن أكثر من نصف النواب المنتخبين عن الحزب الجمهوري في مجلس النواب (عددهم 211)، وهو 139 نائباً، وثمانية سيناتوريين من مجلس الشيوخ، صوّتوا في ليلة اقتحام الكابيتول وبعد اقتحامه، ضد المصادقة على نتائج الانتخابات في بعض الولايات التي فاز فيها بايدن، مشككين بفوز الأخير بالرئاسة الأميركية ونتائج بعض الولايات الحاسمة التي تغلب فيها على ترامب. وجاء هذا حتى بعد رفض عشرات القضايا والطعون بنتائج الانتخابات في العديد من الولايات، والتي لم يتمكن فريق ترامب من كسبها، وإثبات وجود أي تزوير فيها.
أظهر الوجود الأمني المكثف وغير المسبوق داخل واشنطن، وفي عواصم الولايات قبيل تنصيب بايدن، مشهداً جديداً لم يعتده الأميركيون، ويذكر بحالة الانقسام الشديدة واستعداد البعض للجوء إلى القوة لفرض سيطرتهم. وعلى الرغم من أن العنف الداخلي ليس جديداً على المشهد الأميركي، لكنه في العقود الأخيرة كان موجّها في الغالب ضدّ الأقليات، والآن يأتي ليوجه ضد من يهدد الترامبية وما تمثله من الإيمان بالاستثناء واستحقاقها للحكم وعدم قبولها بالخسارة.
استيقظت أميركا بعد 6 يناير 2021 على حقيقة وواقع جديد كما حدث بعد أحداث سبتمبر 2001
يسود شعور لدى الكثير من الأميركيين بأن الأمور لن تعود إلى ما كانت عليه. فلا يوجد تسليم سلمي للسلطة بالمعنى الذي كان متداولاً حتى الآن. وهناك رئيس خاسر يرفض حضور مناصب ترسيم الرئيس الجديد، للمرة الأولى منذ 150 عاماً، ومعه الاعتراف بالتداول السلمي للسلطة. بل إن ترامب يخطط للقيام بحفل خاص به في صباح يوم تنصيب بايدن.
كل هذا يأتي وسط حرب أخرى تقودها أميركا ضد وباء كورونا. فمعدل الوفيات اليومي يصل إلى أكثر من ثلاثة آلاف شخص يومياً، وحملات التطعيم تسير ببطء شديد وبفوضى وشكوك في مقدرة الولايات المتحدة على تطعيم النسبة الكافية من المواطنين ضمن فترة محددة، لضمان حصانة جماعية ومعها العودة بشكل تدريجي لنوع ما من الحياة الطبيعية تضمن نهوض الاقتصاد. كل هذه عوامل تقف كعائقٍ أساسي أمام إدارة بايدن لإدارة البلد إلى برّ أمان يمكنه بعده الالتفات للمشاكل المعقدة الأخرى التي تواجه الولايات المتحدة، كالهجرة والمناخ والفقر والصحة.
استيقظت أميركا بعد السادس من يناير على حقيقة وواقع جديد كما حصل بعد أحداث سبتمبر 2001، والتي ما زالت تعيش تبعاتها من تضييق الخناق على الحقوق الفردية وفرض برامج مراقبة واسعة ضد مواطنيها من المسلمين والأقليات وزيادة في عسكرة الشرطة وحروب واحتلال لشعوب أخرى، كحرب العراق وغيرها. وأظهرت أحداث السادس من يناير لشريحةٍ واسعة من الأميركيين، أن "العدو" والتهديد يأتي من داخلها، وعليها أن تحارب الوحش الذي خرج من مخبئه، ولعل هذا هو التحدي الأكبر الذي يواجه بايدن لقيادة أميركا في اتجاه جديد.