الثائران الصديقان.. أبو جلدة والعرميط

27 اغسطس 2023
صورة أرشيفية لمقاتلين فلسطينيين أثناء الاحتلال البريطاني (سنترال برس/Getty)
+ الخط -

ظهرت في فلسطين في عشرينيات القرن العشرين وثلاثينياته، شخصيتان شعبيتان ثوريتان، أصابتا جنود الاحتلال البريطاني بالدوار، حين شكلتا مجموعةً ثوريةً مسلحةً، اختبأت في جبال نابلس، وكانت تُغير على الجنود الإنكليز والمتعاونين معهم، وتختطف أسلحتهم، وأموالهم وتوزعها على الفقراء والمحتاجين. هاتان الشخصيتان، هما: أحمد المحمود، من قرية (طمون) المعروف باسم: أبو جلدة. وصالح أحمد المصطفى، من قرية (بيتا) المعروف باسم: العرميط.

يحكي نجاتي صدقي، في مذكراته، الصادرة عن مؤسسة الدراسات الفلسطينيّة (2001)، تحت عنوان: أبو جلدة والعرميط: "تعرفنا في السجن إلى رجلين أشغلا حكومة الانتداب مدّةً طويلةً في حرب العصابات، وهما أبو جلدة والعرميط.  لقد ألفَ هذان الفلاحان عصابةً لمحاربة الدولة المنتدبة، مثل كثيرٍ من العصابات المنتشرة في البلاد، والمؤلفةٍ في غالبها من الفلاحين الذين باتوا بلا أرض وبلا عمل". ثم يتابع نجاتي "لقد برزَ هذان الثائران إثر ثورة 1930، وألّفا مجموعةً اتخذت من الجبال مجالًا لأعمالها، واصطدمت مع القوات البريطانية في غير معركةٍ. وقد أراد زعيمها أبو جلدة، وهو رجلٌ نحيل الجسم، قصير القامة، أنّ يبعد عنه وعن رجاله تهمة الشقاوة، فارتدى لباسًا عسكريًا، وقد زين كتفيه بسيفين وثلاث نجوم. وجر سيفًا صقيلًا طويلًا، له يدٌ مذهبةٌ، وخلع على نفسه لقب "القائد العام". كما نصّب زميله (العرميط)، وهو رجلٌ طويل القامة، قوي البنية، شديد البأس، نائبًا له، مطلق الصلاحيات".

يقول حمزة العقرباوي، في دراسته "الواد الأحمر: طريق المتبوعين والخارجين على الدولة": "وقد جَمعت بهم الشقاوة (أبو جلدة والعرميط)، خلال سنوات مطاردتهم، بمجموعةٍ من فتوة الأشقياء المَطلوبين للحكومة، ومنهم: خميس العقرباوي وعبد الله البيروتي من عقربا، وصادق أبو حيط من بيت فوريك، وفريد العسعس من المزرعة الشرقية، وسعود لِعمير من حوارة، وسعيد الحاج من خربة أبو فلاح، وتركي عديلي من أوصرين، وإبراهيم الأشرم من عصيرة القبلية،  وداود أبو حماد وفواز أبو هواش من عقربا، إضافةً إلى عشرات المطلوبين للحكومة على قضايا اجتماعية وجنائية وسياسية".

لقد تحوّلا إلى أسطورةٍ في تاريخ شعب فلسطين، ترمز إلى البطولة والشجاعة ومقاومة الغاصب المحتل!

وقد لمع صيت أبو جلدة والعرميط خلال سنوات (1930ــ 1934)، إذ كان أبو جلدة عُقدةً صَعُبَ حَلُّها لسنواتٍ عدّةٍ، كما كانت إقامته في الواد الأحمر (لفجم) شتاءً، وفي قرية يانون صيفًا، محور قصصه الأسطورية، ولا تزال الأماكن التي نزل بها؛ مُعتصمًا بسلاحه، تُكسِب الوادي الأحمر مزيدًا من الهيبة.

طاردت السلطات البريطانية مجموعة أبي جلدة، فتحوّل هؤلاء إلى أبطالٍ في عيون الشعب، واستمروا مدّة عامين، وبخروجها غدت المجموعة مظهر التمرد والثورة في النفوس، وتحدى الحكومة. يقول إحسان النمر، في كتابه "قضية فلسطين في دورها البلدي"، واتحد الرأي العامّ الفلسطيني ضدّ بريطانيا، ولقبه مراسلو الصحف الأجنبية بـ "الملك أبي جلدة".

يشير توفيق حبيب، في كتابه "أبو جلدة وآخرون"، إلى ما قالت عنه مجلة "لو" الفرنسية: "تجاوزت شهرة أبو جلدة حدود ما أحرزه مفتي فلسطين الأكبر، وأصبح معروفًا أكثر من مدير المهاجرة والباسبورت المستر جامسون. والقارئ العربي المتوسط الذي هو أقرب إلى الأمية لا يريد إلّا سماع تفاصيل بطولة أبي جلدة، وما تقوم به عصابته من أعمالٍ وما ترتكبه من آثام. وأبو جلدة شبيهٌ بلصوص كورسيكا، في استعصاء القبض عليهم، وتجنبهم إراقة الدماء، وإزعاج الآمنين".

فهو موجودٌ في كلّ مكانٍ، وليس له مكانٌ. فبينما تقول عنه البلاغات الرسمية إنّه ظهر في الشمال، وارتكب كذا وكذا من الأعمال، وصال وجال في قُنَن جبال الجليل وسطوحها، إذا به يظهر بغتةً قرب البحر الميت، ويوقع ببعض السياح البريطانيين، ويسلب مالهم ومتاعهم، ثم يشاهده المسافرون على مقربةٍ من غزة، حيث يوقف سيارة موظفين إنكليز، ويأخذ كلّ ما يملكونه، وبعد ذلك بقليل يسمع أهالي بئر سبع أنّه وصل إليهم، واجتاز الصحراء التي تفصل فلسطين عن قناة السويس.

ألفَ هذان الفلاحان عصابةً لمحاربة الدولة المنتدبة، مثل كثيرٍ من العصابات المنتشرة في البلاد

قال عنه جمال الدين الحسيني في مقابلةٍ أجراها معه مراسل صحيفة فلسطين: "الشعب يحب أبا جلدة ورجاله، ويعتبرهم أبطالاً قوميين... سياسة الوطن القومي خلقت فجوةً عميقةً بين الشعب والحكومة، حتّى أنّ العرب مستعدون لتحمل الأضرار من مجموعة من قطاع طرق، على أنّ تخف تلك من سياسة الحكومة".

وتساءلت صحيفة الجامعة الإسلامية قائلة: "كيف جرى أنّه على مدار نصف سنة لم تنجح الحكومة في أن تلقي القبض على ثائرٍ عربيٍ!"، وأضافت في السياق نفسه: "إذا علم الجميع بالأمر، ألا يخاف يهود العالم من أنّ يصبح جميع عرب فلسطين مثل أبي جلدة؟".

وكان أبو جلدة ورجاله حكومةً داخل الحكومة، يصدر البلاغات الرسمية، وتنشرها الصحف، منها تصريحاتٌ له يقول فيها إنّه يعمل بدوافع وطنيةٍ. وجاء في رسائل؛ قيل إنّه بعثها إلى هيئات تحرير صحفٍ مختلفةٍ، قوله: "في المستقبل سنوجه نشاطنا ضدّ أعداء البلاد الحقيقيين، الذين أذلونا وجعلونا عبيدًا"، وفي رسالةٍ أخرى "أعلن أبو جلدة بأنّه سيتوقف عن أعمال السلب خلال شهر رمضان المبارك، ولكن طوال أيام العيد سنتظاهر في الشوارع، والجبال والمغاور". لقد كان شعار أبو جلدة هو: "رمي الإنكليز في البحر"، فكانت الحرب بينه وبينهم سجالًا.

المطاردة

أحبَّ الفلاحون أبو جلدة ولقبوه بـ "الملك أبو جلدة"، ووفروا له الحماية، وما يلزم لبقائه، وبقاء صورته البطولية؛ الأمر الذي أزعج حكومة الانتداب البريطاني، التي أدركت أنّه يتحتّم عليها اختراق الغور النابلسي، وملاحقته في الواد الأحمر، وذلك عبر التضييق على من يُوفر له الحماية، فأقامت مخافر للشرطة في العام 1932، في مدينة أريحا وقرية عقربا، ومنطقة الجفتلك، وذلك بهدف ملاحقة أبو جلدة وتضييق الخناق عليه، في المثلث الجغرافي الواقع بين هذه المخافر الثلاثة.

تضييق قوات الاحتلال، وتسيير الدوريات الراجلة والخيّالة، ما بين أريحا وفصايل والجفتلك، على طول الشريط الشرقي للغور النابلسي، والدوريات التي تنطلق من عقربا غرباً باتجاه المنطقة الشرقية من الغور، حيث منطقة (لفجم) في الواد الأحمر ،وعيون الماء في جنبات الواد الأحمر؛ الجهير والدّوا وبير أبو الدرج والحفيرة وعيون مانع والسخن، قد دفع أبا جلدة والذين كانوا معه إلى شن هجومٍ على تلك الدوريات، ومهاجمة عناصرها، مُستغلين صعوبة وصول الإمدادات، والدوريات العسكرية لهذه المنطقة، ومُشكلين بذلك ظاهرة حرب العصابات، التي تجسدت حقًا في ثورة (1936- 1939) في تلك المنطقة.

يقول نجاتي صدقي، في مذكراته: "وحين شدد الإنكليز الخناق على هذه العصابة، تفرقت هنا وهناك، ولجأ أبو جلدة إلى عمان طالباً الحماية من الملك عبد الله. فاستقبله الملك واستمع إليه، غير أنّه خرج بنتيجةٍ سلبيةٍ، وسلمه للسلطات البريطانية، التي نقلته إلى سجن القدس المركزي. وكانت دوائر الأمن قد اعتقلت في تلك الأثناء زميله العرميط، بواسطة أحد الوشاة من أفراد العصابة القدامى".

الاعتقال

هناك ثلاث روايات متداولة ومتضاربة حول الاعتقال، الأولى رواية نجاتي صدقي التي ذكرها في مذكراته. الرواية الثانية نشرت في ملحق صحيفة دافار الصهيونية، في عدد يوم الجمعة الموافق 14 إبريل/نيسان 1934، بعنوان: "القبض على أبي جلدة"، وجاء فيها: "أبو جلدة رئيس العصابة، التي أزعجت خلال شهورٍ عدّةٍ البلاد، وشكل خطرًا كبيرًا في طرقات منطقة جبال نابلس والسهل الساحلي، قبض عليه اليوم بين المحتفلين في موسم النبي صالح، وهو احتفالٌ عربيٌ دينيٌ بالقرب من مدينة الرملة".

سلم الجثمانان إلى أهلهما ليدفنا في بلديهما، وكانا قد أرسلا رسالةً للمفتي، يطلبان فيها أنّ يدفنا في القدس، ولكن طلبهما هذا رفض.

أما الرواية الثالثة؛ فيتضح منها أنّه تم القبض عليه في 12 إبريل/نيسان 1934، مع زميله العرميط في مغارةٍ قريبةٍ من مسقط رأسه طمون، بعد أنّ وشى به أحد أفراد عصابته؛ المدعو محمود محمد أبو دولة، الذي لجأ إلى شرق الأردن حيث قبض عليه هناك، وسلّم إلى سلطات الانتداب البريطاني، وقد حكم عليه بالسجن مدّة خمسة عشر عامًا، وأفادت إشاعاتٌ أنّ محمود أبو دولة قد حصل على حكمٍ مخففٍ، مقابل إخبار السلطات عن مكان اختباء أبو جلدة، ولكن هذا الأمر فيه نظر!

على أيّة حال، ألقى الإنكليز القبض عليهما وأودعا السجن، وهناك التقاهما نجاتي صدقي، الذي ذكرهما في مذكراته.

المحاكمة والإعدام

يذكر د. محمد عقل، في كتابه "سجل المحكومين بالإعدام في فلسطين في عهد الانتداب البريطاني" ما يلي: "في 24 /6/ 1934 بدأت محاكمة أحمد حمد المحمود؛ أبي جلدة، وصالح أحمد مصطفى؛ العرميط، في محكمة الجنايات في مدينة نابلس، بتهمة قتل الشرطي حسين العسلي، بتاريخ 22/05/1933 فقط. دافع عنهما المحامي حسن صدقي الدجاني، أمام هيئة المحكمة المؤلفة من أربعة قضاة: إنكليزيان وعربيان. بينما استمعت المحكمة إلى شهادة أربعة عشر شاهدٍ، أنكرا التهمة الموجهة لهما، وقالا إنهما كانا في شرق الأردن ساعة وقوع الجريمة. قبل صدور الحكم طلب العرميط من رئيس المحكمة الرحمة، في حين لم يعقب أبو جلدة بشيء". ومن ثم يتابع " في يوم الثلاثاء 26 /6/ 1934 صدر ضدّ أبي جلدة وزميله حكمٌ بالإعدام. كلاهما تقبل الحكم برباطة جأشٍ، وقدما التماسًا لمحكمة الاستئناف في القدس، للنظر في الحكم بواسطة المحاميين حسن صدقي الدجاني وزكي اسطه... وفي 24/7/1934 نظرت المحكمة في الاستئناف ورفضته في نفس اليوم."

في 2/8/1934 صدق المندوب السامي البريطاني؛ أرثر واكهوب، على حكم الإعدام الصادر بحق أبي جلدة والعرميط، فحبسا في زنزانة المحكومين بالإعدام، في السجن المركزي، المعروف بالمسكوبية في القدس.

ملحق فلسطين
التحديثات الحية

يذكر نجاتي صدقي، أنّ أم العرميط زارت ابنها في السجن، فقال لها من خلف القضبان "حطي لي في قبري خنجرًا، لأصفي حسابي مع الواشي!".

في الساعة الثامنة من صباح يوم الثلاثاء 21/8/1934 نفذ حكم الإعدام في صالح أحمد مصطفى؛ العرميط، وبعد ساعةٍ نفذ حكم الإعدام في أحمد حمد المحمود الملقب بأبي جلدة.  يروى أنّه ودّع أهله بقوله: "بخاطركم يا جماعة!". كما يذكر نجاتي صدقي، وسار إلى منصة الإعدام بين صفين من الجنود، وهم يهتفون "هيب.. هيب.. هيب.. هوراي". واستقبل الموت بشجاعةٍ ورباطة جأشٍ، وهو يغني للوطن بحضور حاكم اللواء، ومدير مصلحة السجون، ونائب مدير الشرطة، وقائد السجن، وطبيبٍ برتبة ضابطٍ، وقد عززت الحراسة على السجن بقواتٍ كبيرةٍ من رجال الشرطة، التي فرقت جموعًا حاشدةً، وأبقت في الساحة النساء وهن يولون.

من بين المودعين كانت زوجة أبي جلدة وابنه الصغير، وأم العرميط وأخٌ له. سلم الجثمانان إلى أهلهما ليدفنا في بلديهما، وكانا قد أرسلا رسالةً للمفتي، يطلبان فيها أنّ يدفنا في القدس، ولكن طلبهما هذا رفض.

كان أبو جلدة ورجاله حكومةً داخل الحكومة، يصدر البلاغات الرسمية، وتنشرها الصحف

أثار إعدام أبي جلدة والعرميط السخط في جميع أرجاء فلسطين، حيث بكاهما الناس في مدينة يافا ونابلس والقدس، لقد تحوّلا إلى أسطورةٍ في تاريخ شعب فلسطين، ترمز إلى البطولة والشجاعة ومقاومة الغاصب المحتل! فصار الناس يرددون: "أبو جلدة والعرميط ياما كسروا برانيط"، كنايةً عن فتكهما برجال الشرطة، ثم تغنّى الناس بـ "أبي جلدة" ونسجوا اللحن المُقاوم الذي يُعبر عن ذواتهم على لسانه:

قال أبو جلدة وأنا الطموني               كل الأعادي ما بهموني
قال أبو جلدة وأنتا العرميطي             أنا إن متت بكفيني صيتي
قال أبو جلدة يا خويا صالح              اضرب لا تخطي والعم رايح
قال أبو جلدة وأنا العرميطي             والله من حكم الدولة لفظي
وأبو جلدة ماشي لحاله                   والعرميط راس ماله