الهدوء الذي يسبق انتخابات 12 يونيو/حزيران الحالي في الجزائر محيّر فعلاً، فمن طبيعة الاستحقاقات الانتخابية أن تشهد الكثير من الصخب والجدل والندية والخطابات والنقاشات الساخنة، ومشاهد من المناظرات الانتخابية.
الصدى الحاصل في الشارع الجزائري إزاء الانتخابات خافت، إذا ما وضع قيد المقارنة مع أهمية هذا الاستحقاق بالنسبة للأطراف كافة. وحجم التفاعل مع الخطاب الانتخابي ما زال باهتاً، وهو أدنى بكثير من الحماسة والاهتمام بالفعل والممارسة السياسية التي ظهرت على الجزائريين خلال الحراك الشعبي. ويوضح ذلك أنّ مستوى من الإحباط من المآلات التي وصلت إليها البلاد سيطر على الشارع، في حين أن ما تقدمه الأحزاب الجزائرية خلال الحملة الانتخابية، من تعهدات وخطابات وبرامج ورؤى وتصورات، للكيفيات الممكنة للإصلاح السياسي والاقتصادي وتعديل الأوضاع الاجتماعية، لا يبدو مقنعاً بالنسبة للناخبين، خاصة في مرحلة ما بعد الحراك.
عدد محدود من الأحزاب الجزائرية المنتظمة، حاول تقديم برنامج انتخابي جاد وخلاصة حيوية لحلول للأزمات، مستقاة من تجارب الإصلاح التي شهدتها بعض الدول، مع إسقاطات على واقع الجزائر بمعطياته المحلية الخاصة، إذ يميل مجموع الخطاب الانتخابي في الجزائر إلى التركيز أكثر على الصورة المشهدية، وبطريقة أقرب إلى طغيان الحالة الكرنفالية منها إلى طرح أفكار ومشاريع سياسية واضحة للحكم وتدبير الشأن العام وإنقاذ البلد من الأزمة المعقدة التي يعيشها. تفتقد الانتخابات الجزائرية إلى مستوى من التنافس الجدي المرتكز على الفكرة والبرنامج، وبخلاف ما تشهده دول جوار الجزائر مثلاً خلال هذا النوع من الاستحقاقات الانتخابية، تغيب النقاشات والمناظرات والحوارات التي تُسائل الأحزاب وتسمح بفحص برامجها، وتتيح للناخبين إجراء فرز واضح بين القوى والمقترحات الأكثر جدية على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي.
جزء من هذ الغياب مرتبط بالأساس بالقيود التي تفرضها السلطة منذ فترة على وسائل الإعلام، وتضييق فضاءات النقاش السياسي، بسبب المبالغة في تقدير هشاشة الوضع المحلي والاحتراز من الخروج عن النص الانتخابي. وهذا يعطي أيضاً صورة عن المناخ الذي تجري فيه الانتخابات، وهو مناخ غير طبيعي على اعتبار أنّ أول انتخابات برلمانية تنظم بعد حدث مفصلي كالحراك الشعبي، كان يفترض أن تكون انتخابات تاريخية على صعيد المشاركة والنقاش والظروف والاهتمام الشعبي والإعلامي.
ولا يتوقف الأمر هنا، فالانتخابات الجزائرية تشهد أيضاً موت الأيديولوجيا بشكل عام، إذ لم يعد التباين في المرجعيات الفكرية والسياسية والمناهل الأولى لكل حزب أو تيار واضحاً بالقدر الكافي، ولا توجد في الخطاب الانتخابي المعلن خطوط بيّنة للمرجعيات الأيديولوجية يمكن أن توضح للمراقب التمايز الفاصل بين كل حزب أو تيار؛ بين إسلاميين وديمقراطيين ومحافظين. يمكن ملاحظة غياب لافت أيضاً للهويات الاقتصادية بالنسبة للأحزاب المتنافسة، مع أن الاستحقاقات الانتخابية هي أكثر المحطات التي تتيح معرفة الفصائل السياسية بحسب خياراتها الليبرالية أو اليسارية، المحافظة أو التقدمية.
بهذا الوضع، نصبح أمام تساؤلات عما إذا كان المشهد السياسي في الجزائر بصدد إعادة التشكل على أساس تقسيمات غير تلك التي كانت في السابق، بحيث كانت الجغرافية الحزبية مقسمة على أساس ثلاثة تيارات كبرى؛ إسلامي ووطني وديمقراطي، وما إذا كانت التجربة السياسية والحزبية عموماً، بصدد تجاوز التقسيمات التقليدية بالأساس، أم أن طبيعة الظرف وتعقيدات المرحلة هي التي فرضت على مجموع الفاعلين السياسيين سحب نقاش الأيديولوجيا من معركة الانتخابات.