فرنسا والجزائر حكاية لا تشبه كل الحكايات. هي أطول من ألف ليلة وليلة، وتحتاج إلى مجلدات لتدوين فصولها، التي لا تبدأ من احتلال فرنسا للجزائر عام 1830 فقط، بل تعود إلى الوراء في فصول الشراكة المديدة بين ضفتي المتوسط. وفي زمن سابق على الاحتلال، كانت فرنسا مدينة للجزائر لأن الأخيرة كانت تزودها بالقمح، وفي وقت من الأوقات أصبحت باريس غير قادرة على سداد ديونها، وحصلت الحادثة الشهيرة حين ضرب الداي حسين (وال عثماني)، القنصل الفرنسي بيار دوفال (عام 1827)، بمروحة يدوية، ورفض الاعتذار عن الإهانة. وعلى أثر ذلك جردت فرنسا جيشاً كبيراً، ودخلت الجزائر من الوجهة البحرية غربي العاصمة.
تمجيد الاستعمار الذي صوت عليه البرلمان الفرنسي في 2005 جعل الجزائريين يطوون اتفاقية الشراكة التي طرحها شيراك
ميناء سيدي فرج (الفرنسيون يسمونه سيدي فيروش) يقع غرب العاصمة الجزائرية في ضاحية على درجة عالية من الجمال، له مكانة رمزية لدى الجزائريين. يقول الجزائريون "دخل الفرنسيون من هنا عام 1830، وأخرجناهم من هنا مهزومين ولو بعد 132 عاماً". تحول هذا المكان، الذي هو على شكل شبه جزيرة، إلى أهم منتجع سياحي في الجزائر، وأشرف على تصميمه وبنائه المهندس الفرنسي فرديناند بويون بطلب من الحكومة الجزائرية. يعكس ذلك الحكاية الجزائرية الفرنسية المركّبة والمعقدة التي تتقاطع فيها عوامل كثيرة: الحاضر، الماضي، التاريخ، الجغرافيا، اللغة، الثقافة، التجارة، الحرب، الحب، والكراهية. وكل ذلك، نجده واضحاً لدى الطرفين حين يتقابلان وجهاً لوجه في لحظة الحقيقة. توتر في العلاقة لم يتمكن أحد من علاجه، ولم ينجح الاقتصاد والسياسة، وحتى الفن، باختراع دواء للكراهية التي تصل إلى حد القطيعة، والحب الذي تسقط معه كل الحواجز. طرفان يعيشان في حالة حب وحرب مفتوحة تدور على أرض الذاكرة. ذات يوم، قال الكاتب الجزائري كاتب ياسين إن "اللغة الفرنسية بالنسبة لنا، الجزائريين، غنيمة حرب". هو صاحب رواية "نجمة" التي كتبها بالفرنسية، واعتبرها الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر أفضل رواية بالفرنسية كتبها غير فرنسي. وعلى هذا المنوال، يمكن قياس التاريخ المشترك، الذي لا يريد أحد من الطرفين الوصول إلى قراءة مشتركة، تقود إلى تسوية تفتح صفحة جديدة، وذلك رغم مرور ستين عاماً على الاستقلال الذي حصلت عليه الجزائر بالحرب.
الأزمة الحالية سبق لها أن حصلت وتكررت، لأسباب وعناوين مختلفة، ووصلت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين إلى حافة الهاوية في أكثر من مرة، ووقع ذلك في العقدين الأخيرين في مناسبات عدة، ومنها عام 2005 عندما صوّت البرلمان الفرنسي على قانون يشيد بـ"الدور الإيجابي للحضور الفرنسي في ما وراء البحار، وبشكل خاص في شمال أفريقيا". وجاء ذلك في توقيت صعب بالنسبة إلى الرئيس الفرنسي حينذاك جاك شيراك، الذي كان يعمل على توقيع اتفاقية شاملة مع الجزائر، تأخذ الماضي بالحاضر، ولكن تمجيد الاستعمار جعل الجزائريين يتراجعون خطوات عدة إلى الوراء، ويطوون اتفاقية الشراكة التي طرحها شيراك. وكانت المرة الثانية في عام 2009، عندما أوقفت السلطات الفرنسية الدبلوماسي الجزائري محمد زيان حساني، واحتجزته في قضية اتهامه بالمشاركة في اغتيال المعارض في حزب جبهة القوى الاشتراكية علي مسيلي في باريس عام 1987. وأحدثت القضية أزمة دبلوماسية عميقة بين البلدين، ولم يفرج القضاء الفرنسي عن مسؤول البروتوكول في وزارة الخارجية الجزائرية، إلا عقب قيام الجزائر بحملة دبلوماسية شديدة اللهجة لإطلاق سراحه.
وفي المرة الثالثة جاءت العاصفة من الضفة الأخرى. في عام 2010، ناقش البرلمان الجزائري مشروع قانون يُجرّم الاستعمار الفرنسي، وهو ما ساهم في صدور ردود فعل حادة من قبل الطبقة السياسية الفرنسية. وحصل ذلك في وقت صادق البرلمان الفرنسي على معاهدة شراكة بين فرنسا والجزائر، وبدلاً من أن يحتفل البلدان بهذا الإنجاز، فإنهما عادا إلى مواقعهما السابقة. ولكن الضغوط أدت إلى سحب المشروع الذي تم طرحه في المرة الثانية عام 2016، ثم جرى سحبه مرة أخرى، حتى تم تقديمه للبرلمان مرة ثالثة في ديسمبر/كانون الأول الماضي، ولم تكن هذه المحاولة أفضل من سابقاتها، وجرى سحبه من قبل حزب جبهة التحرير الحاكم. وفي كل مرة، عوض أن يصوت البرلمان الجزائري على المشروع، فإنه ينقسم، وتتحول القضية إلى مواجهة جزائرية - جزائرية، الأمر الذي يفسّر قوة نفوذ اللوبي الفرنسي الخاص بالجزائر، والذي يعد أقوى لوبي أجنبي. وهذا اللوبي لا يتشكل من قوى اليمين الفرنسي فقط، والتي تناهض بقوة أي مصالحة تاريخية مع الجزائر تتناول ماضي الاستعمار، بل هناك فئات أخرى من المستفيدين من بقاء الوضع على حاله، وهؤلاء بينهم فرنسيون وجزائريون.
ولا يمكن الاستهانة بقوة اللوبي المؤيد لفرنسا داخل الجزائر، وهو يتكون من شبكة سياسية واقتصادية وثقافية تمتد جذورها إلى ما قبل الاستقلال، واستمرت في العمل من داخل مؤسسات الدولة، وهي تتحكم بقطاعات اقتصادية وإعلامية وسياسية، وحتى عسكرية. ومن المعروف أن ما يربط فرنسا والجزائر يتجاوز في قوته أي رباط آخر بين دولتين، وأهم جسر بين الضفتين هو وجود قرابة خمسة ملايين فرنسي من أصول جزائرية، وهؤلاء يشكلون رقماً صعباً في المعادلة الداخلية الفرنسية، وفي وسعهم التأثير بمجريات الأحداث. إلا أن فرنسا تتعامل مع ردود الفعل التي صدرت عن الحكومة الجزائرية في الأيام القليلة الماضية، على أنها عبارة عن فورة غضب، لأن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تناول الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون شخصياً، ووصفه بعبارات قاسية واعتبره "عائقاً في نظام شديد الصعوبة"، وسخر من النخب السياسية والعسكرية الحاكمة في الجزائر منذ الاستقلال بقوله إن "الجزائر، بعد استقلالها عام 1962، أقيمت على ريع تذكاري، يحافظ عليه النظام السياسي العسكري". كما انتقد "التاريخ الرسمي الذي أعيدت كتابته بالكامل" و"الخطاب الذي يقوم على كراهية فرنسا".
عملية ملف الذاكرة لم تتقدم، لأن الجزائر تطالب بكلّ أرشيفها الموجود بقسم كبير منه في فرنسا
ولو لم يكن ماكرون يدرك بأن رد فعل الحكومة الجزائرية لن يذهب بعيداً، لما بلغ في القسوة هذا الحد. وهناك تجارب سابقة هدد فيها المسؤولون الجزائريون باتخاذ إجراءات ترد على سياسات فرنسا، ولكنهم تراجعوا في اللحظة الحاسمة، ومثال ذلك قانون تجريم الاستعمار الفرنسي، الذي فشلت السلطة في عهد الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة وفي عهد الرئيس الحالي، في إقراره في البرلمان كنوع من تثبيت الحق وتقديم الرؤية الجزائرية في ما يخص موضوع الذاكرة، الذي تحرك خطوة إلى الأمام في عهد الرئيسين ماكرون وتبون. واعتبر تبون أن "ضمان علاقات طبيعية واستعادة فرنسا لمكانتها الاقتصادية في الجزائر، مربوط بمدى جاهزيتها لمعالجة ملفات الذاكرة"، وتم بعد ذلك الاتفاق في يونيو/حزيران 2020 على تشكيل لجنة ثنائية لمراجعة الأرشيف: من الطرف الجزائري مدير الأرشيف الوطني عبد المجيد شيخي، ومن الجانب الفرنسي مستشار ماكرون المؤرخ بنجامان ستورا. وبعد أشهر عدة، صرّح شيخي بأن "ملف استرجاع الأرشيف والذاكرة الوطنية ما زال يراوح مكانه بسبب سوء نية الطرف الفرنسي"، مشيراً إلى أنه "لم يجد التعاون اللازم من الطرف الفرنسي". وفي يناير/كانون الثاني الماضي، قدم ستورا تقريره إلى الرئيس ماكرون، واقترح فيه "سياسة الخطوات الصغيرة" على شكل "جسور" بين فرنسا والجزائر "حول الموضوعات التي ما تزال حساسة: مفقودي الحرب، آثار ما بعد التجارب النووية، مشاركة الأرشيف، وإعادة تأهيل الشخصيات التاريخية وغيرها". إلا أن التقرير قوبل بردود فعل سلبية بشكل عام في الجزائر، باعتبار أنه "غير موضوعي" و"دون التّوقعات"، ولم يقدم أي جديد سوى أنه "وضع الضحية والجلاد على قدم المساواة".
ساعد على هذه الخطوة أن الرئيس ماكرون، هو أول رئيس فرنسي من الجيل الذي ولد بعد استقلال الجزائر (ولد في عام 1977)، يقبل بفتح هذا الملف وقدم مبادرة لـ"إنهاء العمل التاريخي حول حرب الجزائر"، وكتب في رسالة تكليف ستورا "من المهم أن يُعرف تاريخ حرب الجزائر وينظر إليه بعقل متبصّر. فالأمر ضروري لراحة وصفاء نفس من أضرت بهم"، ورأى أن الأمر يتعلق أيضاً "بمنح شبابنا إمكانية الخروج من النزاعات المتعلقة بالذاكرة". ولكن العملية لم تتقدم، لأن الجزائر تطالب بكلّ أرشيفها الموجود بقسم كبير منه في فرنسا، لكن باريس ترفض ذلك وتتذرع بـ"عدم رفع السرية عن جزء من الأرشيف رغم أنه جُمع قبل عقود". وسبق أن أعادت فرنسا إلى الجزائر جزءاً من الأرشيف، لكنها احتفظت بالجزء المتعلق بالتاريخ الاستعماري، والذي يقع، وفقاً لها، تحت سيادة الدولة الفرنسية.
تدور الحكاية التي لم تجد نهاية من حول مسألة الذاكرة. وفي خضم الأزمة الراهنة، يدعو ماكرون إلى"الاعتراف بالذاكرات كلها والسماح لها بالتعايش"، باعتبار أن "هذه ليست مشكلة دبلوماسية، بل هي في الأساس مشكلة فرنسية – فرنسية". ويبقى على الجزائر أن تعترف بدورها بأن المسألة جزائرية - جزائرية أيضاً، وأن المشكلة ليست في الحقيقة التاريخية بقدر ما هي في الخلافات السياسية والأيديولوجية التي تحكم كتابة التاريخ وتدريسه في السردية الرسمية للبلدين. وبالتالي إن الأساس هو كيفية حضور الحدث التاريخي في الوعي الحالي، وكيفية تأويله، وليس الحدث التاريخي نفسه.