في بلد مثل الجزائر، كلفة استقلاله ووحدته الترابية غالية وباهظة، لا يمكن بأي حال تبرير نزعة الانفصال، أو إعطاء شرعية لنضالات باسم العرق أو المناطقية أو عقيدة فاسدة. لكن حين يغيب المنجز التنموي والمشروع الوطني، تحضر كلّ الشرور الممكنة، وتبحث المجموعات السياسية والسُكّانية عن الخلاص خارج السياق الوطني. تلك أخطاء حدثت أكثر من مرة، في مسارات الجزائر المرتبكة. عندما يغيب المشروع التنموي (بالمفهوم الشامل للتنمية)، بأبعاده السياسية والثقافية والاقتصادية، تتخصّب النزعات العرقية والمناطقية أيضاً. لا يجب نسيان أنه، وإضافة إلى "حركة الماك" التي ترافع باسم منطقة القبائل وتستند إلى البعد العرقي والثقافي، نشأت في عام 2004، حركة "أبناء الجنوب من أجل العدالة"، والتي لم تكن ذات بعد انفصالي صحيح، لكنها كانت حركة مطلبية تختص بمطالب اقتصادية وثقافية تتعلق بمنطقة محددة من الجزائر، ظلّ سكانها يشعرون إلى اليوم، بأنهم على الهامش السياسي والاقتصادي. بل إن جزءاً من هذا التنظيم تحول لاحقاً إلى حركة مسلحة، تطالب بحقوق الجنوب (بقيادة عبد السلام طرمون). وعندما قتل الأخير في ليبيا قبل عام ونيف، وجد في منطقة الجنوب من يتعاطف معه.
في رواندا، التي قسمت ظهرها الحرب العرقية بين الهوتو والتوتسي منتصف التسعينيات (خلفت نحو 800 ألف قتيل في ظرف مائة يوم)، لم تتراجع النزعة العرقية والمشكلات الإثنية ومخلفاتها من الشرور السياسية المعقدة، إلا حين حضر المنجز التنموي وبرز المشروع والرؤية والمنجز. ولم تنهزم جماعات الجهل العرقي والنزعات المناطقية، إلا أمام حركية نهضوية عادلة ومعممة، مسّت في رواندا كل المجالات الحياتية، وحين بدأت الديناميكيات الاقتصادية في خلق ملامح واضحة للمستقبل، بحيث أصبح الروانديون يؤمنون أن غدهم أفضل من يومهم، وأن يومهم أحسن من أمسهم.
الجزائريون، بخلاف ذلك، لا يرون أمامهم مشروعاً واضحاً، يؤمنون أن كلّ يوم يمضي هو أفضل من الآتي. على الأقل هذا هو الشعور الذي يمكن تلمسه بوضوح في الشارع، من خلال أحاديث الناس من كل الفئات الاجتماعية والمهنية، ولدى النخب أيضاً، خصوصاً مع سلسلة طويلة من أزمات الزيت والحليب والطحين والسيولة والماء والأكسجين وغيرها، كما تتكثف الرغبة في الهجرة أكثر من ذي قبل. ربما أدى إخفاق الحراك الشعبي منذ فبراير/شباط 2019، إلى تحقيق أهدافه القصوى، ونجاح النظام في استعادة زمام المبادرة وفرض خياراته السياسية، إلى انكسار مجتمعي عميق وإحباط من إمكانية حدوث التغيير الضروري.
ثمّة إجماع في الجزائر، على أن أكبر تهديد للبلد الكبير العاطل والمعطل عن التنمية، لا يكمن في وجود حركات انفصالية خدمتها ظروف معينة وأوجدتها كأدوات كولونيالية، أو في وجود تنظيمات متشددة مهما كانت مرجعياتها، لكون التجربة أثبتت فشلها كلّها في فرض تصوراتها على المجتمع. بل إن التهديد الأساس للجزائر، هو عطالة النظام السياسي وعطبه البالغ في تدبير المستقبل وإدارة الشأن العام، وفي عجزه الفادح عن استخدام وتحويل مقدرات البلد إلى مشروع تنموي يوفر الحياة الكريمة للجزائريين، وفي تضخم الأنا الأمني الذي بات يعيق كل حركية سياسية أو تفكير خارج السياقات الرسمية. ذلك أن مزيداً من العطب يعني بالضرورة مزيداً من الأزمات، ومن القلق على المستقبل الغامض.