تكشف أرقام غير رسمية أن عدد اليهود في فرنسا يقارب نصف مليون، يعيش حوالى نصفهم في إسرائيل، لكنهم يحملون الجنسيتين، وهم بذلك يشكلون حالة فريدة في أوروبا، لا تنافسها سوى الولايات المتحدة، من جهة التعداد والحضور، والتأثير السياسي والإعلامي والاقتصادي.
التأثير يفوق العدد بعدة أضعاف، فاليهود في فرنسا، الذين هم من جذور فرنسية، أو مهاجرون من بلدان أخرى، يشكلون نخبة اقتصادية، سياسية، إعلامية، ذات وزن مهم لا تملكه جاليات أخرى من حاملي جنسيات مزدوجة، من بلدان عربية وأفريقية وإسلامية.
ويظهر التأثير الذي يلعبه يهود فرنسا خلال الأزمات التي تواجهها اسرائيل، إذ يتصدرون المشهد الإعلامي، وينعكس نفوذهم السياسي من خلال مواقف وردود أفعال الدولة والطبقة السياسية، التي تعتبر التعرض لأمن اسرائيل خطاً أحمر، لكن مواقفها ليست على موجة واحدة.
حرب 1967 وسياسة الدولة الفرنسية
تُعد حرب عام 1967 محطة أساسية في سياسة الدولة الفرنسية، ونظرتها إلى تطورات الصراع العربي الإسرائيلي، وكان رئيس الدولة الفرنسية حينذاك، الجنرال شارل ديغول، واضحاً في تحديد الخطوط العريضة، إذ وصف إسرائيل بأن لديها نزوعاً للسيطرة، وفرنسا تقف معها إذا تعرضت للعدوان من العرب فقط.
وحدد ديغول أن الحل هو بتطبيق قرار التقسيم، وقيام دولة فلسطينية "قابلة للحياة" إلى جانب إسرائيل، وهذا أمر لا يمكن أن يتم من دون تحرك دولي جاد، خصوصاً من طرف الولايات المتحدة وأوروبا، وفي وسع فرنسا أن تقوم بدور متميز، بوصفها على صلة متينة بالحركة اليهودية والعرب في ذات الوقت.
حدد ديغول أن الحل هو بتطبيق قرار التقسيم وقيام دولة فلسطينية "قابلة للحياة" إلى جانب إسرائيل
ومنذ ذلك الوقت أصبح هناك ما يعرف بسياسة فرنسا تجاه القضية الفلسطينية، التي تقوم على أساس حلّ الدولتين. ونشطت باريس في الأوساط الدولية من أجل الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية، ووضعت ثقلها من أجل تلاقي الفلسطينيين والإسرائيليين في أكثر من مناسبة.
تراجعت هذه السياسية بنهاية حكم الديغوليين، الذين كان الرئيس الأسبق جاك شيراك آخر ممثليهم، وتغير المزاج العام منذ عام 2007 مع خليفته الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي، الذي بدأ فيه دور أنصار إسرائيل بالتعاظم أكثر داخل مؤسسات القرار، وتعرّض التوازن للاهتزاز بعد حوالى 40 عاماً.
خلال حكم الرئيسين فرانسوا ميتران وجاك شيراك، وقفت باريس عند الخط الذي يحفظ التوازن، بل تدخلت أكثر من مرة لصالح منظمة التحرير في الأوساط الدولية، وحمت قيادتها خلال اجتياح إسرائيل للبنان عام 1982، وساعدتها بعد ذلك كي تستعيد حضورها على الساحة الدولية، وهذا لم يجد أي استحسان من طرف إسرائيل، التي كانت تريد انحيازاً شبيهاً بالذي تحصل عليه من الولايات المتحدة.
كان الموقف الرسمي هو الناظم الفعلي لإيقاع الإعلام الرسمي والقوى السياسية والرأي العام، لأنه حافظ على التوازن طوال 40 عاماً، فإن القضية الفلسطينية اكتسبت تأييداً سياسياً وإعلامياً، بوصفها قضية حقوق عادلة ومشروعة. وصار التوازن بمثابة القانون الذي ترسخ كتوجه عام يميل إلى الحل، وليس الانحياز لصالح طرف.
ما يجري اليوم لا يشبه الأمس، ومن خلال مراقبة ردود الفعل الرسمية، تبدو فرنسا عاجزة عن تظهير موقفها المتوازن والريادي تجاه المسألة الفلسطينية، الذي ميزها عن بقية بلدان أوروبا، وبدت لوهلة كأنها مترددة في استعادة دورها الذي صار محدوداً، أو ميالاً في بعض الأحيان نحو إسرائيل منذ نهاية حقبة ساركوزي، ووصول الاشتراكي فرانسوا هولاند إلى الحكم عام 2012.
موقف الرئيس إيمانويل ماكرون
صحيح أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لم يهرع بسرعة إلى تل أبيب لتعزية رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو، على غرار الرئيس الأميركي جو بايدن، والمستشار الألماني أولاف شولتز، ورئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك، إلا أن موقفه لم يختلف في جوهره عن مواقف نظرائه الغربيين، بل زايد عليهم حينما دعا إلى تشكيل تحالف دولي شبيه بالذي تكوّن من أجل محاربة "داعش".
وُصف ميلانشون بأنه "المتحدث باسم حماس" بسبب إدانته حرب إسرائيل على غزة
رأت بعض الأوساط في تأخر زيارة ماكرون لإسرائيل حتى مرور أكثر من 10 أيام على العملية العسكرية لحركة حماس، أنه نابع من حسابات داخلية تتعلق بالتوتر الذي ساد في الشارع، ومخاوف من أن تصل رياح الحرب في غزة إلى باريس، فتحرك الشارع وتثير مواجهات بين مناصري فلسطين وإسرائيل.
وإزاء ذلك، منعت وزارة الداخلية الفرنسية التظاهرات التضامنية مع فلسطين، ولم تسمح بها إلا بعد ظهور تظاهرات حاشدة في لندن وواشنطن ونيويورك، ومرت التظاهرة الأولى التي سُمِح بها في باريس في 22 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، من دون حصول أي توتر أو احتكاكات، ومع ذلك استمر قرار المنع، ولذلك غرّمت الشرطة 1300 متظاهر بـ135 يورو لكل منهم.
هناك عدة أسباب تقف وراء قرار منع التظاهرات، والتضييق على المتضامنين مع غزة الذي وصل إلى صدور تهديدات بسحب جنسيات، وإبعاد عن الأراضي الفرنسية، أولها إبداء التضامن الصريح مع إسرائيل ومجاراة لها، بعد أن برعت في أداء دور الضحية التي تستجدي التعاطف.
وهنا جرى الحديث كثيراً عمّا يُسمى أعمالاً "معادية للسامية"، أي الاعتداءات على دور عبادة ومدارس يهودية، وحسب بعض الإحصائيات، فقد بلغت أكثر من 857 حدثاً خلال الأسابيع الثلاثة الأولى بعد عملية غزة، 60 في المائة منها ضد أشخاص، وهي مرشحة للارتفاع تبعاً للتطورات الميدانية.
وثاني الأسباب هو المخاوف من تطور الأوضاع سلباً، بسبب وجود جاليات عربية وإسلامية كبيرة متعاطفة مع قضية فلسطين، وهناك خشية من أن يفلت الوضع، ويتحول إلى مواجهات مع الشرطة على غرار أحداث الضواحي في يونيو/حزيران الماضي.
وثالث الأسباب هو الاستجابة لضغوط اليمين المتطرف الموالي لإسرائيل، الذي تحرك بقوة من أجل تأييد إسرائيل، وصدرت تصريحات نارية عن بعض الوجوه التي تمثله، مثل المرشح الرئاسي السابق إريك زيمور، الذي شنّ حملات إعلامية على المتعاطفين مع غزة، خصوصاً لاعب كرة القدم كريم بنزيمة، وذهب إلى إسرائيل ليعلن أن ما يجري هو "حرب حضارات".
وظهر على نحو فاقع التأييد الذي عبّرت عنه قوى اليمين المتطرف لإسرائيل على نحو غير مسبوق، وبصورة انتهازية توظف الحدث لأغراض خاصة بها، لأن هذا التيار معروف عنه العداء لليهود منذ تأسيسه على يد جان ماري لوبان، بسبب امتداداته ومرجعياته النازية، غير أنه تطور في العقد الأخير وبنى جسور تواصل مع الدول العبرية وبعض الدول العربية المعادية للحركات الإسلامية، وصارت القواسم المشتركة أكثر من نقاط الخلاف.
وصار واضحاً التعاطف مع إسرائيل من قبل تيارات اليمين المتطرف ذات الأيديولوجيا العنصرية والإسلاموفوبيا والمواقف المعادية للهجرة، بما في ذلك بقايا اليمين التقليدي، الذي يتجه بسرعة نحو التطرف ضد الهجرة. وقد زارت إسرائيل عدة وفود للتضامن من اليمين المتطرف بقيادة مارين لوبان، واليمين التقليدي، الذي يمثله إريك سيوتي زعيم الحزب الجمهوري.
فرنسا اليوم عاجزة عن تظهير موقفها المتوازن تجاه المسألة الفلسطينية
يُعَدّ موقف اليمين المتطرف والتقليدي الفرنسي تحولاً باتجاه إسرائيل، بعد أن ظل الوضع الداخلي مركز اهتمامه الأساسي، باعتبار أن الهجرة تمثل بالنسبة إليه خطراً على هوية فرنسا واستقرارها.
ولا يمكن فصل هذا التحول عن الموقف من الإسلام، وإحياء فكرة صراع الحضارات التي صعدت إلى الواجهة في الولايات المتحدة، بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، وعارضتها فرنسا التي نادت في حينه بحوار الحضارات.
أصوات عنصرية وأطروحات عرقية
ومن اللافت أن بعض القنوات التلفزيونية الفرنسية باتت منبراً للأصوات العنصرية المؤيدة لإسرائيل بلا حدود، ومررت أطروحات عرقية لم يسبق لها أن كانت مسموحة في وسائل الإعلام، مثل "نحن وهم" و"الإنسان الأبيض" والآخرين. كذلك لم يسبق أن ظهرت أصوات عنصرية على قدر من السطحية مثل الفيلسوف ميشال أونفري، الذي يمثل أحد أوجه انحطاط الفلسفة.
يقف هؤلاء في الصف المعادي لما بقي من اليسار الفرنسي والنقابات، وبرز على نحو خاص جان لوك ميلانشون، زعيم حزب "فرنسا الأبية"، الذي عبّر منذ الأيام الأولى عن موقف مختلف من خلال التضامن مع غزة، ما أثار أنصار إسرائيل عليه داخل مؤسسات الدولة مثل البرلمان، ووسائل الإعلام المحسوبة على إسرائيل.
ويواجه ميلانشون بسبب موقفه الذي يدين حرب إسرائيل، والمتعاطف مع غزة، حملة من الشتائم والتصريحات المعادية والاتهامات، إلى حد أنهم صاروا يصفونه بـ"المتحدث باسم حماس"، بعد أن كتب تغريدة على "إكس" (تويتر سابقاً) ينتقد فيها تصريحات رئيسة البرلمان الفرنسي يائيل براون ـ بيفيه خلال زيارتها لإسرائيل الشهر الماضي، وقال إن كلامها لا يمثل الشعب الفرنسي، الأمر الذي فسّره أنصار إسرائيل بأنه يحسبها عليها لأنها يهودية الديانة.
وتعرضت رئيسة مجموعة حزب "فرنسا الأبية" في البرلمان الفرنسي، النائبة ماتيلد بانو، لحملة انتقادات بسبب مداخلاتها داخل البرلمان للدفاع عن وجهة نظر الفرنسيين المتضامنين مع غزة، والداعين إلى وقف العدوان الإسرائيلي.
ثمة من يتحدث في وسائل الإعلام الفرنسية عن فرنسا قبل الحرب على غزة وبعدها، ما يعني أن آثار المعركة بين إسرائيل والفلسطينيين قابلة لأن تلقي بآثارها إلى وقت طويل، وستحدث تغييرات ليس في مواقف فرنسا السياسية فقط، بل ستؤثر بالوضع الفرنسي الداخلي والرأي العام، وستؤدي دوراً مهماً في اتجاهات التصويت خلال العمليات الانتخابية المقبلة.
وعلى مستوى الجاليات العربية والإسلامية يجري نقاش وتنطلق دعوات على هذا الصعيد من أجل استخدام حق التصويت لصالح القوى السياسية التي عارضت الحرب على غزة، وأيدت حق الشعب الفلسطيني في دولة مستقلة.