عاد ملف الحريات ليتصدر اهتمام الأردنيين خلال الفترة الأخيرة، خصوصاً بعد صدور حكم من محكمة صلح جزاء شمال عمان بالسجن عاماً واحداً على شابة بتهمة "إطالة اللسان على الملك"، وإلغائه بعد ذلك من محكمة الاستئناف، إضافة إلى قرار حظر النشر بقضية ولي العهد السابق الأمير حمزة بن الحسين وآخرين والمتعلقة بـ"التواصل مع جهات خارجية لتقويض أمن واستقرار الأردن"، ما كشف للمواطنين حجم التراجع في الحريات السياسية وحرية التعبير.
ويوم الخميس الماضي، قضت محكمة الاستئناف في الأردن بـ"عدم مسؤولية" فتاة أردنية تدعى آثار الدباس كان قد حكم عليها بالسجن عاماً واحداً بتهمة "إطالة اللسان على الملك" لقولها "أبوي أحسن من الملك". وجاء قرار محكمة الاستئناف بعد يوم واحد من اتصال العاهل الأردني، الملك عبد الله الثاني، بالدباس. وأثارت هذه القضية جدلاً واسعاً في الأردن، وطالب الكثير من المواطنين ونشطاء مواقع التواصل الاجتماعي بإلغاء تهمة "إطالة اللسان على الملك" من نص القانون. كما أثار الحكم التساؤلات حول وضع الحريات في البلاد، واعتبر عديدون أنّ مثل هذه القرارات تسيء للعلاقة بين الأردنيين والملك، وأنّ الدستور نظمها بشكل يحفظ الاحترام للحاكم والمحكوم.
يطالب الكثير من الأردنيين بإلغاء تهمة "إطالة اللسان على الملك"
وتراجع الأردن خلال الفترة الأخيرة في مؤشرات تقييم وضع الحريات، فقد حصل على علامة 3.8 من عشر في مؤشر الديمقراطية لعام 2020، والموقع من قبل 118 من بين 167 دولة بينها 164 دولة عضواً في الأمم المتحدة، وفق تقرير وحدة الاستخبارات في مجلة "إيكونومست"، والتي صنّفت الأردن كنظام سلطوي، على الرغم من وجود برلمان وقضاء وأحزاب ونقابات وانتخابات.
وفي بداية مارس/ آذار الماضي، دانت المفوضة السامية لحقوق الإنسان ميشيل باشليه تضييق الخناق على حرية التعبير والتجمّع في الأردن، مطالبة الحكومة بالسماح بالعمل النقابي، وفتح المجال أمام حرية التعبير والتجمّع. وأظهر مؤشر منظمة "بيت الحرية" (فريدوم هاوس، وهي منظمة غير حكومية مقرها الولايات المتحدة)، في تقريرها السنوي الذي صدر في مارس/ آذار الماضي، تراجع الأردن في سلم الحريات المدنية والحقوق السياسية، ليصبح دولة "غير حرة"، بعد أن كان مصنفاً ضمن الدول الحرة جزئياً، على الرغم من أنّ عام 2020، شهد إجراء الانتخابات العامة للبرلمان التاسع عشر في البلاد.
واليوم يقف الأردن أمام استحقاق حقوقي وسياسي، فدولة القانون وفق رئيس لجنة الحريات بنقابة الصحافيين الأردنيين، يحيى شقير، "هي الدولة التي تلتزم نصاً وروحاً بدستورها وقوانينها، التي يجب أن تتناغم مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان لضمان حريات الأفراد في مواجهة سلطات الدولة، إضافة إلى حريات المُعارضة مثل حرية التعبير، وحرية الصحافة والتجمع السلمي والانضمام للنقابات، والمشاركة في الانتخابات".
وأوضح شقير لـ"العربي الجديد" أنّ المادة 15 من الدستور تنص على أنّ "تكفل الدولة حرية الرأي، ولكل أردني أن يعرب بحرية عن رأيه بالقول والكتابة والتصوير وسائر وسائل التعبير بشرط أن لا يتجاوز حدود القانون، وتكفل الدولة حرية الصحافة والطباعة والنشر ووسائل الإعلام ضمن حدود القانون". ولفت إلى أنه "في التعديل الدستوري لعام 2011، تم تكرار عبارة تكفل الدولة مرتين في النص الأصلي للمادة 15، والكفالة تعني أن تقوم الدول بالتزامات إيجابية لضمان هذه الحرية والامتناع عن اتخاذ أي إجراءات تنتقص منها أو تقوضها".
ووفق المادة 195، يعاقب بالحبس من سنة إلى ثلاث سنوات كل من "ثبتت جرأته بإطالة اللسان على الملك، أو أرسل رسالة خطيّة أو شفوية أو إلكترونية أو أي صورة أو رسم هزلي إلى الملك، أو قام بوضع تلك الرسالة أو الصورة أو الرسم بشكل يؤدي إلى المس بكرامة الملك"، بحسب شقير. ولفت المتحدث نفسه إلى دعوة الكثير من الناس عبر وسائل الإعلام المختلفة ومنصات مواقع التواصل الاجتماعي إلى إلغاء هذه المادة أو تعديلها، لأنها "أصبحت مطية للكيدية من الملكيين أكثر من الملك؛ سواء من الحكومة أو من الأفراد، الذين استغلوا هذه المادة في كثير من الحالات لإيذاء خصومهم في المحاكم".
العديد من القوانين الصادرة عن السلطة التشريعية أفرغت حق حرية التعبير من مضمونه
وأشار شقير إلى أنه "إذا أُريد تعديل المادة 195، فهناك مقترحات عدة، منها أن يتم الإبقاء على نص المادة وتخفيض عقوبة المخالف بحيث تصبح من شهر إلى سنة (بدلاً من سنة إلى ثلاث سنوات)، وعدم جواز التوقيف (الحبس الاحتياطي) بقرار من المدعي العام، وترك الأمر لمحكمة صلح الجزاء لإصدار نتيجة الحكم". ولفت إلى أنّ المادة 273 من قانون العقوبات تنص على أنّ "من ثبتت جرأته على إطالة اللسان علناً على أرباب الشرائع من الأنبياء يحبس من سنة إلى ثلاث سنوات"، ويكون منطقياً عدم تساوي عقوبة إطالة اللسان على الملك بعقوبة إطالة اللسان على الأنبياء، وفق شقير.
وحول الدعوات المطالبة بإلغاء المادة كلها، قال شقير: "لا أؤيد ذلك، ففي النهاية الملك مواطن أردني، ولا يعقل أن يعاقب القانون على ذم أو قدح أو تحقير أي شخص ما عدا الملك، وهنا أقترح كحل بديل، أن تتم معاملة الملك معاملة جميع الناس، إذا قام أحدم بذم أو قدح أو تحقير بحقهم".
بدوره، قال أستاذ القانون في جامعة العلوم الإسلامية في الأردن، حمدي قبيلات، في حديث لـ"العربي الجديد"، إنّ "حرية التعبير على الرغم من كفالتها بنص المادة 15 من الدستور الأردني، إلا أنّ العديد من القوانين الصادرة عن السلطة التشريعية أفرغت هذا الحق من مضمونه، مثل قانون العقوبات، وقانون الجرائم الإلكترونية، وقانون منع الإرهاب، وقانون المرئي والمسموع والمطبوعات والنشر، وقانون الدفاع، وقانون منع الجرائم، والتي جميعها تعاقب المواطن على التعبير عن الرأي".
وحول عقوبة إطالة اللسان والإشارات إلى احتمال تعديلها، لفت قبيلات إلى أنه "لم يصدر أي شيء رسمي في هذا الإطار، لكن جرى تداول كتاب من النائب العام في عمان، حسن العبد اللات، يطلب كشوفات بقضايا إطالة اللسان، وهناك من اعتبر أنّ ذلك توجه ربما لإعادة النظر بالقانون، والقضايا المنظورة أمام المحاكم"، معتبراً كل ذلك "استنتاجات ليس أكثر". وأضاف: "لا يوجد من الناحية القانونية ما يسمى وقف العمل بنص قانوني معيّن، فالنص القانوني واجب النفاذ"، موضحاً أن "التعاطي مع الموضوع، خصوصاً إذا كان هناك إجماع على أن هناك تشوهاً في القانون، يكون بتعديل النظام القانوني".
تهمة إطالة اللسان، وتعكير صفو العلاقات مع دولة أجنبية، أو تقويض نظام الحكم، هي تهم فضفاضة ومرنة
ورأى قبيلات أنّ "تهمة إطالة اللسان، وتعكير صفو العلاقات مع دولة أجنبية، أو تقويض نظام الحكم، هي تهم فضفاضة ومرنة، وقد اعتبرها المركز الوطني الأردني لحقوق الإنسان في معظم تقاريره، نقاط سلبية في التشريع الأردني، وهي تسمح لبعض الجهات والسلطات بإدخال أي شخص تحت مظلة الإجرام، لمجرد المشاركة في تظاهرة أو تجمّع غير مسموح مثلاً".
واعتبر أنّ "هناك مثالاً واضحاً على أن تطبيق القوانين الفضفاضة لا يسير وفق قياس ثابت، مثل تهمة تعكير صفو العلاقات مع دولة أجنبية، فهو يختلف من شخص إلى أخر، وكذلك من دولة إلى أخرى (الدولة التي يتم التعرض لها)، على الرغم من أنّ النص واحد. فهناك من يُحوّل إلى القضاء عند الإساءة لدولة معينة، فيما لا تتم ملاحقة شخص آخر، كتب مادة أو تعليقات مشابهة، فالقانون لا يطبق على الجميع وفق المعايير ذاتها، ولو طبقت القوانين على الجميع، فسنجد أعداداً كبيرة من الناس في السجون، بسبب مثل هذه القوانين". وشدد قبيلات على أنه "إذا كان هناك توجه لتغيير النظرة إلى مثل هذه القضايا، فيجب تعديل النصوص القانونية، أي تعديل قانون العقوبات، وربما قانون الجرائم الإلكترونية، وإزالة النصوص المشابهة، فهو الحل المنطقي. وهناك خيار ثانٍ مؤقت، من خلال رسالة ضمنية للقضاة بعدم التشدد بمثل هذه القضايا، ويمكن تمويت نص من دون تعديله من خلال عدم تطبيقه".