بإعلان الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون استدعاء الناخبين إلى استفتاء شعبي يجرى في الأول من نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، تكون المسودة النهائية للدستور الجديد بصدد آخر خطوة، قبل أن تصبح خامس دستور للبلاد منذ الاستقلال، عدا عن سلسلة من التعديلات المحدودة التي كانت تتم في كل مرحلة، وبحسب الاحتياجات ومتطلبات السلطة الحاكمة.
في عام 1963، شهدت الجزائر ميلاد أول دستور تأسيسي للبلاد، بعد عام واحد من الاستقلال، لكن الرئيس هواري بومدين الذي قاد انقلاباً عسكرياً على الرئيس أحمد بن بلة في يونيو/ حزيران 1965 أعلن تعطيل العمل بالدستور حتى صياغة دستور جديد عام 1976. وبعد انتفاضة أكتوبر/ تشرين الأول عام 1988، وتصاعد المطالب الديمقراطية، اضطرت السلطة إلى إقرار دستور جديد يُنهي حكم الحزب الواحد ويفتح باب التعددية السياسية، وذلك حتى عام 1996. وفي عزّ الأزمة الأمنية طرح الرئيس الأسبق ليامين زروال دستوراً جديداً، كانت أبرز مادة فيه تحديد العهدات الرئاسية باثنتين، وهي المادة التي تلاعب بها الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، بإلغائها عام 2008، ليتيح لنفسه الترشح لولاية رئاسة ثالثة في انتخابات 2009، قبل أن يعيد تثبيتها مجدداً في تعديلات عام 2016، من دون تجاهل تعديل مادة تخص إدراج اللغة الأمازيغية لغة وطنية عام 2005، ورسمية في عام 2016. لكن بوتفليقة لم يطرح خلال فترة حكمه لعقدين أي مراجعة عميقة وشاملة للدستور، كما لم تعرض التعديلات على استفتاء شعبي.
تمنح المسودة النهائية للدستور الجديد في الجزائر الرئيس اختصاصات في السلطة التنفيذية
في مجمل الدساتير السابقة كان النقاش الجوهري والأساسي مرتبطاً بصلاحيات رئيس الجمهورية، مقابل صلاحيات باقي مؤسسات الدولة. وإذا كان دستور عام 1996 الذي أدخل عليه بوتفليقة سلسلة تنقيحات أتاحت له الهيمنة على السلطة ومركزة القرار وجميع السلطات بيده، وصلاحية التدخل في الشأن القضائي والتشريعي والتنفيذي وغيرها، فإنّ العنوان الأبرز الذي اتخذته السلطة الجديدة والرئيس عبد المجيد تبون للتسويق السياسي لدستور 2020 المطروح للاستفتاء، هو "الحدّ من تغوّل السلطة التنفيذية لصيانة البلاد من الانحراف إلى الحكم الفردي مجدداً، وفصل السلطات والموازنة بين المؤسسات". لكنّ فحصاً شاملاً لمجموع مواد المسودة الدستورية يكشف استمرار تضخّم صلاحيات رئيس الجمهورية، وتمتعه باختصاصات حصرية وبتوصيف وظيفي في مختلف السلطات والمؤسسات القضائية والتشريعية والتنفيذية.
ويظهر الاطلاع على مواد مسودة الدستور المكوّنة من 225 مادة أنّ رئيس الجمهورية وإضافة إلى الاختصاصات والصلاحيات المتعارف عليها دستورياً بأنها تعود له، بكونه القائد الأعلى للقوات المسلحة، ويتمتع بصلاحية إعلان حالة الطوارئ أو الحصار، وحالة الضرورة المُلِّحة بإعلان الحرب، ويترأس المجلس الأعلى للأمن، ويحدد السياسة الخارجية للجزائر ويوجّهها، ويوقّع معاهدات الهدنة والسلام، ولديه صلاحية إرسال وحدات من الجيش للخارج بعد موافقة ثلثي أعضاء البرلمان، فإنّ الدستور يبقي لرئيس الجمهورية منصب وزير الدفاع، ليصبح بذلك عضواً في الحكومة. كذلك يحوز صلاحية التعيين في القطاعات والوظائف العسكرية، وتعيين مسؤولي الأجهزة الأمنية.
وتمنح المسودة النهائية للدستور الجديد في الجزائر الرئيس اختصاصات في السلطة التنفيذية. وبحسب المادة 91، فإنّ الرئيس "يتولّى السلطة التنظيمية"، إذ يتولّى تعيين الوزير الأوّل أو رئيس الحكومة، بحسب الحالة التي تنتهي إليها الانتخابات النيابية، وتعيين أعضاء حكومته، وهو من ينهي مهامهم، وله الحقّ في تعيين الأمين العام للحكومة ومحافظ بنك الجزائر، والأعضاء المسيّرين لسلطات الضبط، كسلطة ضبط السمعي البصري وسلطة ضبط الاتصالات وغيرها، وكذلك تعيين سفراء الجمهورية وإنهاء مهامهم. كذلك يحوز صلاحية تعيين الولاة وعمداء الكليَّات في الجامعات الجزائرية بمرسوم رئاسي، وأعضاء مجلس حقوق الإنسان. كذلك يعيّن أعضاء المجلس الإسلامي الأعلى الـ15.
وتشرح المادة 103 من مسودة الدستور مسألة الفرق بين الوزير الأول ورئيس الحكومة، إذ تنصّ على أن يقود الحكومة "وزير أول في حالة أسفرت الانتخابات التشريعية عن أغلبية رئاسية، ويقود الحكومة رئيس الحكومة في حال أسفرت الانتخابات التشريعية عن أغلبية برلمانية"، على أن يتولى الوزير الأول، بموجب المادة 105 من المسودة، تنفيذ برنامج رئيس الجمهورية، فيما يترك لرئيس الحكومة بموجب المادة 110 إعداد برنامج الأغلبية البرلمانية.
المسودة الدستورية أبقت على رئيس الجمهورية كرأس السلطة القضائية والقاضي الأول في البلاد
وعلى الرغم من المطالبات المتصاعدة منذ سنوات للقضاة والنقابات المهنية والقوى السياسية بضرورة إجراء فصل كامل بين السلطة التنفيذية والسلطة القضائية، فإن المسودة الدستورية أبقت على رئيس الجمهورية كرأس السلطة القضائية والقاضي الأول في البلاد، وله حق إصدار قرارات العفو الرئاسي، إذ يرأس المجلس الأعلى للقضاء ويعيّن رئيس المحكمة العليا الذي ينوب عنه في رئاسة المجلس الأعلى للقضاء، بدلاً من وزير العدل في الدستور الحالي. كذلك يعين رئيس الجمهورية رئيس مجلس الدولة، ورئيس مجلس المحاسبة ورئيس المحكمة الدستورية وأربعة من أعضائها من أصل 12 عضواً.
وتبدي نقابة القضاة التي يرأسها القاضي مبروك يسعد استياءً من هذه الخيارات التي كانت قد أعلنت في وقت سابق عن مواقف مناوئة لها، ولا سيما في ما يتعلّق بعدم إدراج ممثلين عن النقابة في المجلس الأعلى للقضاء، باعتبارها الممثل المهني الوحيد للقضاة، وكانت قد طالبت بذلك في مقترحاتها التي قدمتها بشأن المسودة.
من بين أكثر المواد المقترحة في المسودة التي أثارت الجدل في الفترة الأخيرة هي المتعلقة بحيازة رئيس الجمهورية صلاحية تعيين رئيس السلطة الوطنية المستقلة لتنظيم الانتخابات وأعضائها لفترة ست سنوات. ويطرح تدخل الرئيس في هذا المجال إشكالية الاستقلالية الفعلية للسلطة التي تدير العملية الانتخابية، والتي يفترض أن تكون بعيدة عن أي تدخل من السلطة التنفيذية.
وفي سياق آخر، تبقي المسودة الدستورية لرئيس الجمهورية صلاحية حلّ البرلمان، وحق إصدار مراسيم وقوانين وتشريعات بالأوامر الرئاسية في ظروف مستعجلة خلال عطلة البرلمان، وهي الصلاحية نفسها التي كان يتمتع بها الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، مع إضافة بند يلزم الرئيس بإحالة هذه المراسيم على البرلمان للمصادقة عليها في الدورة الموالية.
المفارقة السياسية الأبرز في حصيلة هذه الصلاحيات والاختصاصات المنوطة برئيس الجمهورية في المسودة الدستورية الجديدة تتعلّق بخلوها من أي إشارة إلى مساءلة الرئيس عن أي أخطاء وخيارات أو أعمال مخالفة للدستور. كما أنها لا تتيح للبرلمان كسلطة تشريعية منتخبة حقّ مساءلة الرئيس أو توجيه لائحة لوم إليه، وكذلك في ما يعرف بـ"محكمة الدولة" المخول لها محاكمة الرئيس ورئيس الحكومة عن تهمة الخيانة العظمى، إذ لا ينصّ الدستور على فترة ملزمة للرئيس لتعيين المحكمة، وهو الإشكال نفسه الذي واجه إمكانية محاكمة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، كون المحكمة لم يتم تشكيلها أبداً.
تخلو المسودة من أي إشارة إلى مساءلة الرئيس عن أي أخطاء وخيارات أو أعمال مخالفة للدستور
ويعتقد بعض المراقبين أنّ الاستعجال في صياغة المسودة والطريقة التي تمت بها هي التي أفرزت هذا النص الدستوري المشوش. وفي السياق، قال أستاذ القانون الدستوري، أحمد بطاطاش، إنّ "المسودة تطرح إشكالات سياسية جدية عما إذا كانت هناك نية فعلية لإقامة توازن بين السلطات، والحدّ من هيمنة مؤسسة الرئاسة على الصلاحيات في غياب مبدأ المحاسبة". وأضاف في حديث مع "العربي الجديد" أنّ "هناك تضخماً في صلاحيات رئيس الجمهورية، والذي لا تمارس عليه أي رقابة سياسية مقارنةً بالسلطات الواسعة التي يتمتع بها، ووزير العدل (بلقاسم زغماتي) أكّد ذلك بنفسه عندما قدّم المسودة في البرلمان قبل أيام. فالبرلمان نفسه لا يحق له أن يراقب أعمال الرئيس، بخلاف دستور عام 1963 الذي يعدّ الوحيد الذي سمح بإخضاع أعمال الرئيس لرقابة البرلمان مع إمكانية سحب الثقة منه".
ويعيد هذا الوضع طرح مخاوف سياسية من توجه السلطة والرئيس عبد المجيد تبون نحو تجديد مرحلة أخرى من الحكم الانفرادي بصورة لينة على صعيد الممارسة، تأخذ بعين الاعتبار حراك الشارع، فيما تبدي بعض القوى السياسية محاذير من ذلك. وفي هذا الإطار، قال القيادي في حركة "مجتمع السلم"، أكبر الأحزاب الإسلامية في الجزائر، نصر الدين حمدادوش، في حديث مع "العربي الجديد"، إنّ "الدستور الجديد يضع الرئيس فوق الأمة وفوق الدستور وفوق القانون وفوق كلّ مؤسسات الدولة، ولا توجد أيّ مؤسسة يمكنها أن تمارس دور الرقابة عليه. فهو يتمتع بكل الصلاحيات، ويسيطر على كل المؤسسات، وبيده كل السلطات، ومع ذلك لا يتحمل أي مسؤولية سياسية أو قضائية. ومع ذلك أيضاً تزعم السلطة أنه تمّ تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية، وأنها بصدد القضاء على الحكم الفردي، وأنها مع القطيعة مع النظام السابق، ومع تحقيق مطالب الحراك الشعبي، ومع الوفاء بوعد التغيير الشامل والجذري والحقيقي".