لا مكان في المشروع الصهيوني، بطبيعته العنصرية، لأي قيادة فلسطينية تحظى بتمثيل دولي، أو أي شرعية كانت، لكن مقاومة الشعب الفلسطيني منذ سنوات الاستيطان الأولى، خلال النكبة وما بعدها، جعلت القادة الصهاينة يقبلون، بل وحاولوا أكثر من مرة، تشكيل قيادة فلسطينية تابعة، لديها وظائف محددة، سعيا لتدجين الفلسطيني، فيما تعمل على تصفية هوية وحقوق الشعب الفلسطيني.
في حالة السلطة الفلسطينية، شكلت اتفاقية الإطار (أوسلو) عام 1993 فرصة غير مسبوقة لتطويع حركة التحرر الوطني ممثلة بمنظمة التحرير الفلسطينية، وتحويلها إلى قيادة مؤقتة وتابعة، لا سلطة حقيقية لها، كمدخل لإنهاء فكرة التحرر الوطني، ومنظمة التحرير نفسها.
فالمشروع الصهيوني لا يستطيع التعايش مع قيادة فلسطينية ذات كينونة، حتى لو كانت منقوصة السلطة، وفاقدة السيادة على أرض فلسطين، لها تمثيل عربي وعالمي، إذ تبقى الهوية الفلسطينية نقيضاً لإقامة دولة استيطانية عنصرية على كامل أرض فلسطين التاريخية، وبل تشترط موضوعيا تفكيك المحيط العربي بأكمله.
قبل الاستمرار، لا بد من التوضيح أن فكرة إنشاء "السلطة الوطنية الفلسطينية" في عام 1993 لم يكن بطلب أميركي أو إسرائيلي، بل باقتراح وإصرار أعضاء في القيادة الفلسطينية المعارضين اتفاق أوسلو، بهدف إبعاد منظمة التحرير عن شروط أوسلو، في محاولة لإنقاذ المنظمة من تداعيات اتفاق يلغي دورها كحركة تحرر وطني، ويقلصه إلى دور وظيفي يستمد مشروعيته من وظيفته، فيما يفقد شرعيته الفلسطينية.
المحاولة لم تنجح تماما، خصوصا أن اسم المنظمة يذيّل اتفاق أوسلو والاتفاقيات التي تلته، إضافة إلى أنه فعليا أصبحت قرارات المنظمة تابعة للسلطة، وليس العكس، وجرى تهميش المنظمة بعد الالتزام بمقررات اللجنة التنفيذية، التي أصبحت شكلية لا يأبه بها أحد. فالسلطة لها دور وظيفي، يتناقض مع الحفاظ على منظمة التحرير، وينسجم مع هدف إسرائيل في إفراغ المنظمة من مضمونها، بعد أن فشلت بالقضاء عليها خلال غزوها لبنان عام 1982.
لكن ذلك لم يلغ معضلة إسرائيل مع أي جسم يمثل الشعب الفلسطيني أو جزءاً منه، فواحد من أهداف اتفاق أوسلو، من منظور إسرائيل، كان تجزئة الشعب الفلسطيني، لكن، حتى بعد أن تحقق ذلك إلى حد كبير، فقد كان هدفاً مرحلياً، يصب في استراتيجية المشروع الصهيوني في إلغاء الهوية الفلسطينية والسلطة حتى، وإن كان دورها وظيفياً، فهي جزء من الوجود الفلسطيني وهويته.
لذا؛ نجد أن الدولة الصهيونية تهتم وتراقب كل سياسات السلطة بدقة، فكل خطوة لا تساهم في إلغاء القضية الفلسطينية مرفوضة ومقلقة لإسرائيل، إن كان ذلك الأخبار والبرامج التي تبثها قناة فلسطين الرسمية، أو اعتماد مفهوم "الشهيد"، المدان إسرائيلياً وأميركياً، أو رواية الأسرى وعائلات الشهداء، أو نصب تذكار للمناضل الجنوب أفريقي نلسون مانديلا في وسط رام الله، وهي كلها جزء من بديهيات الثقافة السياسية الفلسطينية، والحد الأدنى من واجبات السلطة تجاه الشعب الفلسطيني، لكنها تتناقض مع دورها الوظيفي في السيطرة على الشعب الفلسطيني والقضاء على مقاومته.
وتجد السلطة نفسها في صراع دائم مع نفسها ومع الشعب الفلسطيني، فهي لا تستطيع التخلي تماما عن الثقافة السياسية الفلسطينية، التي نتجت عن عقود من المعاناة والنضال المجسدة في عمليات كفاح مسلح، ومقاومة شعبية، وأعمال أدبية وفنية وشعرية، وكل نواحي الحياة اليومية، وبين إثبات التزامها (أي السلطة) بالشروط الأميركية والإسرائيلية، ليس من أجل ضمان استمرارها فحسب، وهذا أصبح مراداً بحد ذاته، لكن؛ لتبنيها وهماً مفاده أن إقامة دولة فلسطينية منوط بتقييم أميركي "بحسن سلوك الفلسطينيين"، وهماً مزيفاً، وإن كان بعضهم ما زال مقتنعاً به.
المخيف أن يحاول خليفة عباس التخلي عن الحد الأدنى من تجليات الثقافة الفلسطينية المقاومة
اللافت أن السلطة الفلسطينية لم تأبه لاسترضاء واشنطن خلال عهد الرئيس الأميركي دونالد ترامب، حتى إن الرئيس محمود عباس رفض استقبال المسؤولين الأميركيين، بعد أن استنتج أن الرئيس ترامب غير معني بدور السلطة الفلسطينية، ولا بحل حتى، ولو كان بشروط أقل من الأدنى. لكنها عادت وتجاوبت مع الإدارة الجديدة للرئيس جو بايدن، إذ إنها اعادت تسويق وهم تبنيها إقامة دولة فلسطينية، بالرغم من التزامها بسياسات ترامب تجاه القدس، وبالرغم من تصرف الإدارة الجديدة على أساس أن الاتفاقات الإبراهيمية (الإسرائيلية) وضعت قواعد جديدة، جعلت الحل وفقا للشروط الإسرائيلية أقرب من أي وقت مضى.
المسألة هنا أن المشروع الصهيوني، ونتيجة اللهاث العربي على التطبيع والتحالف مع إسرائيل، قلل من قيمة دور السلطة الوظيفي، من دون أن ينهيه، فالاعتماد الآن على إحداث تغيير كبير في العالم العربي يجعل إسرائيل تزداد شراسة وعنصرية لتحقيق المشروع الصهيوني، فلا تأبه لسلطة، ولا لرئيس سلطة. لكن الإدارة الأميركية تتصرف بعكس ذلك؛ كونها غير متأكدة من إمكانية فرض تسوية نهائية لتصفية الحقوق الفلسطينية التاريخية والقانونية، في اللحظة الراهنة، وبالتالي؛ من الضروري الإبقاء على وهم الدولة الفلسطينية، وعلى سلطة فلسطينية، وإن كانت ضعيفة.
ما تقدم يفسر معارضة مسؤولين سابقين في الإدارات الأميركية، وبعض الصهاينة الأميركيين والإسرائيليين، لسياسة ترامب تجاه السلطة الفلسطينية، حتى إن عددا من أهم مؤيدي إسرائيل في واشنطن، مثل المسؤول الأميركي السابق دينيس روس، يؤكدون استمرار دعم السلطة المالي المشروط بغية منع انهيارها، ولا يزال وزير الخارجية الأميركي طوني بلينكن يتمسك بوجود السلطة، ويحاول كسب الوقت، "بتنازلات"، مثل فتح مكتب في القدس للتعامل مع السلطة الفلسطينية، بعد إغلاق الإدارة السابقة القنصلية الأميركية في القدس، نتيجة اعتراف واشنطن بالقدس "الموحدة عاصة لإسرائيل"، فيما يستمر بلينكن بمهمته الرئيسية بتوسيع التطبيع التحالفي الإسرائيلي- العربي، للتهيئة للحظة فرض الاستسلام على الفلسطينيين.
ما تحاول الإدارة الأميركية تجنبه هو الضغط على السلطة الفلسطينية قبل أن يحين الأوان، كما حدث في كامب ديفيد، حين رفض الرئيس الراحل ياسر عرفات ما سمي بالعرض "السخي"، بكينونة فلسطينية ممزقة ومقطعة الأوصال من دون سيادة على أرض، أو جو، أو ما تحت الأرض من مياه وخيرات، ولا على ما فوقها، يسمى زيفا "بدولة فلسطينية" منزوعة السلاح والسلطة. وثانيا؛ ما تبع ذلك من هبة فلسطينية شاملة، أي الانتفاضة الثانية، وتأييد الرئيس عرفات، وتمويله، عمليات كفاح مسلح مشتركة بين فتح وحماس، مع تحرك ومشاركة فتح، وحتى الأمن الفلسطيني، في مواجهة اقتحام الجيش الإسرائيلي مدنَ ومخيمات الضفة الغربية.
صحيح أن الرئيس أبو مازن يختلف عن الزعيم الراحل ياسر عرفات، لكن أميركا لا تترك الأمور للنوايا أو الصدف، كما لا تستطيع إنهاء دور السلطة، قبل توقيع استسلام نهائي، أو هزيمة ماحقة بعد دمج إسرائيل في المنطقة، لذا تحاول الإبقاء على السلطة ضمن شروط صارمة. لكن وجهة نظر اليمين الإسرائيلي الحاكم حاليا مختلفة تماما، لأن من يحكم الدولة الإسرائيلية الآن يرفض التظاهر بوجه آخر غير الوجه العنصري الإلغائي للمفكرة الصهيونية، فالحكومة الحالية، وبخاصة رئيسها نفتالي بينيت، لا يؤمن بوجوب وجود سلطة فلسطينية، فهو لا يتحمل حتى إدانة لفظية من الحكومة الفلسطينية لأي جريمة إسرائيلية، لأنه لا يريدها أصلا.
فالانتفاضة الثانية مثلت حالة التناقض الحقيقي بين وجود أي سلطة فلسطينية، حتى وإن كانت قد قبلت دوراً وظيفياً، لكن ترفض شروط تصفية حقوق الشعب الفلسطيني، وبين المشروع الصهيوني. لكننا الآن نشهد تطور لحظة ثانية، فاليمين المتطرف الغالب في إسرائيل، وهو ليس أكثر ما يجعله أشد صهيونية من الحكومات الإسرائيلية السابقة، لكنه لا يقبل الانتظار لحسم المعركة نهائياً ضد الفلسطينيين، وما سوف تكتشفه السلطة أنّ تنازلاتها غير كافية وغير مهمة في حسابات الحكومة الصهيونية، التي ترفض وجودها، هكذا من دون رتوش، أو تمثيل.
لا يتوقع من الرئيس عباس المشاركة، أو محاولة قيادة انتفاضة جديدة، مع أنها قادمة، لكن موقفه يجعله أكثر قبولا من قادة إسرائيل الجدد. القصة ببساطة أن دور السلطة، على الأقل أميركياً، لم ينته، وأي حماية للسلطة هي مؤقتة، ويبدو أن فهم ووعي الشعب الفلسطيني للتناقض الرئيسي، بين وجود أي سلطة فلسطينية والمشروع الصهيوني، منع، إلى هذه اللحظة، قيام ثورة ضد السلطة نفسها، فالهوية الفلسطينية مرفوضة ومطلوب تدميرها إسرائيليا.
المخيف أن يحاول خليفة عباس، واسم المرشح الأول (حسين الشيخ) غير مطمئن، التخلي عن الحد الأدنى من تجليات الثقافة الفلسطينية المقاومة، وهنا قد تنفجر ثورة على السلطة، فمن لا يفقه التناقض بين دوره الوظيفي والمشروع الصهيوني يأتي بدمار على شعب أكثر وعياً من قيادته، وأكثر صلابة منها، فالعدو، كما نصب نفسه عدواً منذ البداية، يرى خلاصه في إلغاء كل ما هو فلسطيني.