يحيي الفلسطينيون في الداخل الفلسطيني، في الجليل والمثلث والنقب، الذكرى السنوية الخامسة والأربعين ليوم الأرض، هذا العام، في ظل تداعيات الانقسام السياسي للأحزاب المشاركة في الكنيست، والتي رمزت لها القائمة المشتركة، التي انشقت هذا العام في الانتخابات إلى قائمتين متناحرتين على أصوات الداخل الفلسطيني، وسط حرب إعلامية، افتقرت لأي خطوط حمراء. فتطايرت الاتهامات بين التخوين من قبل مسؤولين ونشطاء ومؤيدين للأحزاب الثلاثة التي ظلت في إطار القائمة المشتركة برئاسة أيمن عودة، للخصم الرئيسي الذي مثّلته هذا العام القائمة العربية الموحدة برئاسة منصور عباس، وقابلتها اتهامات بـ"التكفير" من القائمة العربية الموحدة المشكلة بالأساس من الحركة الإسلامية الجنوبية وتحالفها مع رئيس بلدية سخينين السابق مازن غنايم.
وليس أدل على حالة الانقسام (على الأقل بين جمهور الأحزاب المشاركة في اللعبة البرلمانية الانتخابية) من الدعوة التي وجهتها لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية في الداخل الفلسطيني، للترفع عن الخلافات السياسية وما خلّفته الانتخابات الإسرائيلية العامة والتي جرت الأسبوع الماضي. واختتمت اللجنة بيانها الرسمي بالقول: "تهيب لجنة المتابعة العليا جماهير شعبنا بالمشاركة الواسعة، والالتزام بقرارات المتابعة بمنع كل المظاهر الحزبية، ورفع العلم الفلسطيني وحده، والشعارات التي تحددها لجنة المتابعة، لتكون ذكرى يوم الأرض لتعزيز بناء الوحدة الوطنية، ورصها وترسيخها".
يستمر التراشق وتبادل الاتهامات بين مختلف الأحزاب التي كانت تشكّل القائمة المشتركة قبل انشقاقها
جاءت هذه المناشدة من قبل اللجنة على ضوء استمرار التراشق وتبادل الاتهامات بين مختلف الأحزاب الأربعة التي كانت تشكّل معاً القائمة المشتركة قبل انشقاقها، وهي قائمة الجبهة والحزب الشيوعي الإسرائيلي، والتجمع الوطني الديمقراطي، والحركة الإسلامية الجنوبية، والحركة العربية للتغيير، بعد أسبوع من الانتخابات التي كشفت حجم تراجع التصويت في المجتمع الفلسطيني في الداخل إلى 42 في المائة، مما انعكس على تراجع تمثيل هذه الأحزاب من 15 عضواً في الانتخابات الماضية إلى 10 أعضاء، 4 منهم ضمن القائمة العربية الموحدة برئاسة منصور عباس و6 في القائمة المشتركة. وتنازعت هذه الأحزاب حول سبب تراجع نسبة التصويت وبالتالي عدد النواب في الكنيست، ومن المسؤول عن ذلك، وكأن التمثيل في الكنيست هو القضية الأهم للمجتمع الفلسطيني في الداخل، بعد أن كان الانقسام المذكور عملياً على خلفية سياسية بالأساس تتصل بقرار وإعلان القائمة برئاسة منصور عباس أنها لا ترى مشكلة في دعم حكومة إسرائيلية جديدة، أيضاً برئاسة نتنياهو، والتنسيق معها، في حال تم قبول شروطها ومطالبها لخدمة المجتمع الفلسطيني وعدم البقاء أسيرة لتحالفات مع أحزاب الوسط واليسار مقابل تمسك الأحزاب الثلاثة الأخرى بشعار وموقف إسقاط حكومة نتنياهو. وكانت المفارقة أن الخصمين رفعا شعار "لسنا في جيب أحد".
لكن الخلاف السياسي حول هذه المسألة لم يكن الخلاف الوحيد، علماً أن الطرفين تعاونا قبل فك القائمة المشتركة في أكثر من مناسبة مع حكومة نتنياهو تحت مسميات تفاهمات مع أحزاب الحريديم، بل امتد الخلاف لاحقاً إلى القضايا الاجتماعية والدينية على خلفية تصويتات في الكنيست لبعض نواب القائمة مع قانون يحظر "العلاج القسري" للمثليين، وتمت استعادة الخلاف حول هذا التصويت الذي حصل في يوليو/تموز ورفعه إلى مكانة الصدارة بما يخدم الطرفين في الحملة الدعائية، خصوصاً بعد أن رفعت القائمة العربية الموحدة شعار "صوت واقعي مؤثر ومحافظ"، مقابل شعار المشتركة "كرامة وحقوق".
لكن ذكرى يوم الأرض لا تأتي هذا العام فقط في ظل نتائج الانتخابات، بل أيضاً في سياق استمرار سياسات التمييز العنصري التي يقوننها اليوم قانون القومية اليهودي الذي سنّه الكنيست الإسرائيلي في العام 2018 واعتبر أن فلسطين كلها، ووفق مسمى القانون "أرض إسرائيل الكاملة"، كلها وطن الشعب اليهودي وله وحده حق تقرير المصير فيها، وأن تعزيز الاستيطان اليهودي في كل فلسطين له أولوية على باقي الاعتبارات. وانعكست تداعيات القانون حتى على مستوى المواصلات وتمويل مواصلات طلبة عرب يعيشون في بلدة كرميئيل التي أقيمت على أراضي قرى مجد الكروم ودير الأسد والبعنة في الشاغور، ويتعلمون في القرى العربية المذكورة.
إلى ذلك، تستمر سياسات الحكومة في تقليص مسطحات البناء للبلدات العربية، مع تواصل سياسة هدم البيوت العربية وخصوصاً في النقب، بزعم البناء غير المرخص، وفرض غرامات عالية بمئات آلاف الشواقل في الجليل والمثلث والنقب على أصحاب البيوت قيد البناء والإنشاء.
تقاعس فاضح للشرطة الإسرائيلية في مواجهة استفحال جرائم القتل والإجرام المنظم
وفي موازاة هذه السياسات، يعيش المجتمع الفلسطيني هذا العام، كما في الأعوام الأخيرة، في مواجهة خطر استفحال جرائم القتل وتوغل نشاط الإجرام المنظّم، وسط تقاعس فاضح للشرطة الإسرائيلية، خصوصاً مع الكشف عن وجود أكثر من 500 ألف قطعة سلاح، غالبيتها بنادق رشاشة، سُرقت من مستودعات الجيش. ومع ذلك لا تقوم الشرطة الإسرائيلية لا بجمع السلاح غير القانوني، ولا بحل الجرائم ومكافحتها، فيما تحاول الحكومة الإسرائيلية إلقاء المسؤولية على المجتمع الفلسطيني و"ثقافته" لتمرير مخططات لتجنيد الشباب الفلسطيني للشرطة الإسرائيلية وإقامة مراكز للشرطة، على الرغم من أن وجود مراكز كهذه في عدة بلدات ومدن لم يساهم في الحد من الجريمة المنظّمة، كما تشهد على ذلك جرائم القتل التي وقعت أخيراً في مدن مثل أم الفحم والطيرة وقلنسوة.
وبحسب دراسات مختلفة وتقارير لمنظمات وجمعيات عربية مثل جمعية "بلدنا" ومركز "أمان" (سبق أن نشرنا عنها في العربي الجديد) فإن تردي الأوضاع الاقتصادية في المجتمع الفلسطيني وارتفاع نسبة من يعيشون تحت خط الفقر، خصوصاً بعد جائحة كورونا، زادت من اللجوء للاقتراض من "السوق السوداء"، من دون قدرة على سد هذه القروض، وبالتالي زاد من استفحال جرائم القتل، فقد سقط بجرائم مرتبطة بالعصابات المنظمة في العام الماضي العشرات من أصل 113 قتيلاً.
كل هذه المعطيات تزيد حالة الاحتقان والقلق في المجتمع الفلسطيني، من انسداد الأفق وانعدام حل في المستقبل، خصوصاً بعد سقوط شعارات التأثير على الحكومة الإسرائيلية، التي رفعتها الأحزاب العربية المشاركة في الانتخابات، بعد أن أدار لها الجنرال بني غانتس في العام الماضي ظهره، وفضّل الذهاب إلى حكومة وحدة وطنية مع بنيامين نتنياهو، على الرغم من حصوله على التكليف لتشكيل الحكومة بفضل توصية القائمة المشتركة قبل تفكيكها، بنوابها الـ15، لتشكيل حكومة برئاسة غانتس بديلة لحكومة برئاسة نتنياهو.
أخيراً لعل المتغيّر الوحيد في سياق أوضاع الفلسطينيين في الداخل، هو تراجع "صفقة القرن" التي كان اعتمدها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، وتضمّنت في بنودها أيضاً، تبادل أراضٍ مع السلطة الفلسطينية مقابل إبقاء المستوطنات، ليس من خلال إرجاع أراضٍ فلسطينية، وإنما من خلال ضم قرى وبلدات فلسطينية في الداخل، في منطقة المثلث ووادي عارة، إلى الدولة الفلسطينية.