مع انتهاء الساعات الأخيرة للعدوان الإسرائيلي على مخيم جنين، شمالي الضفة الغربية، بدت صورة "النصر" التي أراد جيش الاحتلال رسمها تتلاشى، خصوصاً مع دخول سيناريوهات عدة حاولت المؤسسة الأمنية طوال الوقت تجنبها.
على مدار اليومين الماضيين، حرص جيش الاحتلال ومن يقف على رأس المؤسسة الأمنية والسياسية التباهي بتحقيق "إنجازات" تمهد للانسحاب قبل وقوع خسائر بشرية ومادية في صفوف قواته، على أمل الإعلان لاحقاً أنّ العملية "حققت أهدافها"، وأنّ "القوات انسحبت بسلام"، لكن ما حصل في الساعات الأخيرة للعدوان بدّد ذلك.
حاول جيش الاحتلال أن يرسم هذا "النصر" من خلال مشاهد الدمار الكبير الذي خلّفه اجتياحه لمخيم جنين، واستشهاد 12 فلسطينياً وإصابة عدد كبير من الفلسطينيين، وتنفيذ اعتقالات واسعة واقتحام البيوت وترهيب السكان، بالإضافة إلى وضع يده على كميات كبيرة من الأسلحة والعبوات الناسفة، لكن المفاجآت والسيناريوهات الأسوأ التي حاول تجنبها لاحقته حتى الرمق الأخير من عمر الاجتياح القصير.
ومع أنّ الجيش أراد عدواناً دون أي خسائر بشرية في صفوفه، إلا أنّ ذلك لم يحدث، إذ اعترف الجيش، في بيان له، بمقتل أحد جنوده خلال الاشتباكات التي وقعت، الليلة الماضية، في مخيم جنين، فيما أصيب جنود آخرون.
وخارج مدينة جنين، حرص الاحتلال على تجنب أي تصعيد على جبهات أخرى، لكنه تلقى خمس قذائف صاروخية، فجر اليوم الأربعاء، أطلقتها المقاومة الفلسطينية من قطاع غزة بعد نحو ساعتين من انسحاب قواته من جنين، دون أن تعلن أي جهة مسؤوليتها عن إطلاقها.
وأعلن جيش الاحتلال أنّ منظومة "القبة الحديدية" تصدّت للقذائف الخمس، لكن بلدية مستوطنة "سديروت" أفادت بسقوط شظايا قذيفة على منزل، ما تسبب بأضرار مادية. وقصفت طائرات الاحتلال موقعين لحركة حماس في غزة.
وقال جيش الاحتلال الإسرائيلي، في بيان، فجر الأربعاء، إنّ "طائرات حربية أغارت على موقع تحت الأرض لإنتاج وسائل قتالية تستخدمه حركة حماس وعلى موقع آخر لتصنيع مواد خام صاروخية تابع لها"، مضيفاً: "جاءت الغارات رداً على إطلاق خمس قذائف صاروخية من قطاع غزة نحو إسرائيل الليلة الماضية".
ولم تقف التطورات عند حدود جنين وغزة، فقبل ذلك أصيب، مساء أمس، 9 إسرائيليين وصفت جراح 5 منهم بالخطيرة، في عملية دهس وطعن في شارع "بنحاس روزان"، شمالي مدينة تل أبيب، فيما استشهد المنفذ عبد الوهاب خلايلة (23 عاماً)، من بلدة السموع، جنوب مدينة الخليل.
وسبق أنّ أعربت عدة جهات أمنية إسرائيلية عن تخوفاتها من عمليات "انتقامية" ينفذها فلسطينيون على خلفية اجتياح جنين، في سيناريو سيئ آخر بالنسبة للاحتلال حاول تجنبه.
إلى ذلك، شهد الداخل الفلسطيني أجواءً متوترةً جداً، مساء أمس الثلاثاء، خلال تظاهرات مناهضة للاجتياح، نُظمت إحداها في مدينة حيفا وتخللتها مواجهات مع شرطة الاحتلال التي اعتدت على المتظاهرين واعتقلت 9 منهم، وهي جبهة أخرى حاول الاحتلال تجنبها وتطور الأمور فيها.
في غضون ذلك، قالت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، الليلة الماضية، إنّ المسؤولين في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية كانوا يعتقدون أنّه من الممكن إنهاء العملية في جنين صباح أمس الثلاثاء، لكن في جلسة تقييم الوضع الأمني التي جمعت المسؤولين الأمنيين بالمستوى السياسي الإسرائيلي، تقرر تمديد العملية في مخيم جنين لفترة أطول بطلب من المستوى السياسي، في محاولة لتحقيق "المزيد من الإنجازات" بضرب المزيد من المقاومين.
وبحسب الصحيفة نفسها، أشارت تقديرات المؤسسة الأمنية للاحتلال إلى وجود نحو 300 مسلح في مخيم جنين شاركوا بعمليات إطلاق نار مختلفة، حدّد جهاز "الشاباك" 160 من بينهم كأهداف يجب الوصول إليها خلال العدوان، تمكن الاحتلال من اعتقال 30 منهم، فيما استجوب نحو 100 آخرين من سكان المخيم.
وتوقعت المؤسسة الأمنية اعتقال عدد أكبر من "المطلوبين"، لكن ذلك لم يتحقق، كما أنّ من اعتقلوا لا يعتبرون من وجهة نظر الاحتلال من قيادات الصف الأول.
وأشارت الصحيفة إلى فشل جيش الاحتلال بالوصول إلى كميات الأسلحة التي أرادها، كونها خُبئت على ما يبدو في أماكن مختلفة بالمخيم.
واعتبر المحلل العسكري في صحيفة "هآرتس" عاموس هرئيل أنّ جيش الاحتلال حقق نجاحاً معيناً على المستوى العملياتي، بتمكنه من قتل نشطاء فلسطينيين مسلحين وهدم مختبرات لتصنيع متفجرات وعبوات ناسفة في مخيم جنين، "وبشكل استثنائي نجح أيضاً، بحسب أقواله (أي أقوال جيش الاحتلال)، بعدم قتل مدنيين غير ضالعين (بالأحداث). ومع هذا فإنّ يومي الحملة (العسكرية) أوضحا القدرة الفلسطينية على تنفيذ عمليات انتقامية خلالهما، عملية الطعن في بني براك (أول أمس) وعملية الدهس والطعن في تل أبيب".
وأضاف هرئيل أنّ "نهاية هذه الرقصة الدموية بعيدة، وأنّ أي حملة عسكرية لن تغيّر شيئاً في الوقت القريب"، وأنّ "العنف سيتسمر في ظل انعدام أي أفق سياسي".
لكنه أشار في الوقت ذاته إلى أنّ العدوان أعاد لجيش الاحتلال حرية التحرك في جنين على المستوى العملياتي، وهو أحد الأهداف التي وضعها الاحتلال.
منح السلطة الفلسطينية موطئ قدم في جنين
ولفت المحلل العسكري إلى أنّ طلبات الاستيضاح التي وجهتها عدة دول ومنظمات أجنبية إلى إسرائيل تركّز بشكل أساسي على الدمار الذي خلّفته الآليات العسكرية الإسرائيلية في طرق المخيم، ما ألحق أضراراً بالبنية التحتية للمياه والكهرباء.
وأضاف أنّ قرار التدمير اتخذ من قبل مسؤولين كبار في جيش الاحتلال ولم يكن مرتجلاً، وذلك في أعقاب تفجير عبوة ناسفة ضد مركبة عسكرية إسرائيلية تابعة لوحدة المستعربين في قوات حرس الحدود، قبل نحو أسبوعين، لدى دخولها لتنفيذ اعتقالات في جنين. وأدى الانفجار في حينه إلى إلحاق أضرار بالغة بالمركبة وإصابة سبعة جنود بجروح، وتبين أنّ العبوة مدفونة في عمق الأرض تحت الشارع.
ويرى هرئيل أنّ "إسرائيل قد تضطر لاحقاً للمساهمة في إصلاح الأضرار، وتأمل بأنّ تتم إعادة البناء من خلال السلطة الفلسطينية، وبالتالي قد يكون من الممكن السماح للسلطة بالحصول على موطئ قدم من جديد في جنين".
وتابع: "من وجهة نظر المؤسسة الأمنية، هذه عملية ناجحة حتى الآن، لكنها لا تحمل أي فرصة حقيقية لتغيير جذري للوضع في الضفة الغربية"، ففي "أفضل الأحوال" يوجد احتمال لتقليص مؤقت للعمليات القادمة من جنين، "وربما مع تحسن معيّن في حالة الردع الإسرائيلي في مناطق أخرى".
ويأمل جيش الاحتلال و"الشاباك" في أنّ تساهم العملية العسكرية بالحد من العمليات التي تخرج من جنين، وأيضاً الحد من المقاومة التي تواجه الاقتحامات المقبلة لقوات الاحتلال في جنين ومخيّمها.
وذكر موقع "يديعوت أحرونوت"، اليوم الاربعاء، أنّ عملية إعادة بناء مخيم جنين تندرج في إطار استكمال العملية العسكرية، بالنسبة للمستوى السياسي، وهو ما يلتقي مع ما كتبه عاموس هرئيل.
وأشار الموقع إلى إجماع المؤسسة الأمنية الإسرائيلية على أن وجود "سلطة فلسطينية قوية وقادرة على القيام بدورها يصب في مصلحة إسرائيل. ومن المقترحات المطروحة الآن أنّ تنخرط السلطة في مشروع إعادة البناء، وبالتالي تستعيد موقعها في جنين".
لكن عملية تقوية السلطة، بحسب الموقع، تتطلب من "رئيس الحكومة (الإسرائيلي بنيامين نتنياهو)، إقناع أعضاء حكومته بالموافقة على القيام بخطوات اقتصادية وسياسية أمام سلطة أبو مازن. بدون خطوات اقتصادية وسياسية، سنعود إلى النقطةنفسها خلال وقت قصير جداً. وهذا بالطبع، يتعارض مع مصلحة إسرائيل".