تتسارع الخطى في السودان نحو إبرام تسوية سياسية أخرى بين المكونين العسكري والمدني، أساسها مسودة دستور انتقالي أعدّته نقابة المحامين خلال الأسابيع الماضية. وجدت المسودة ترحيباً على المستوى الداخلي ومن القوى الإقليمية والدولية المهتمة بالشأن السوداني، أو بالأحرى التي لديها مصلحة في السودان. في المقابل عارضتها قوى أخرى داخلية مؤثرة. وللمؤيدين حق بمثل ما للمعارضين حق.
المسودة في جوانب العدالة الانتقالية نصّت على جملة من البنود، تُكرر ما جاء من بنود في الوثيقة الدستورية لعام 2019، أو ما جاء في اتفاق السلام الموقّع بين الحكومة والحركات المسلحة عام 2020 التي أُلحقت بالدستور، ووُضعت كلها في باب العدالة الانتقالية.
على سبيل المثال لا الحصر، نصّت المواثيق السابقة على تشكيل لجنة وطنية للتحقيق في جريمة فضّ اعتصام محيط القيادة العامة في 2019، وشُكّلت اللجنة في العام نفسه برئاسة المحامي نبيل أديب. لكن طوال 3 سنوات لم تتقدّم اللجنة قيد أنملة ولم تصل إلى أي نتائج، ما زاد عمق جراح أسر ضحايا المجزرة ورفقائهم. ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يعاد النص بحذافيره في المشروع الدستوري الجديد للتعامل مع الضحايا الذين سقطوا بعد انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ووضع مثل هذا النص لا يعني سوى ترسيخ مبدأ الإفلات من العقاب، وهو أحد مسبّبات تفاقم الأزمات السودانية منذ تأسيس الدولة بشكلها الحديث.
وحتى بنود العدالة الانتقالية المتصلة بضحايا الحرب في دارفور، فقد حصل فيها خلال النسخة الأولى من الحكم الانتقالي الكثير من التراخي والتباطؤ المتعمّد بسبب النصوص الفضفاضة، سواء في اتفاقيات السلام أو الوثيقة الدستورية، وظل ضحايا جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية في انتظار الإنصاف والعدالة. هذا الأمر غير مقبول ولا مفهوم بعد ثورة كان من أهم مبادئها وشعاراتها "العدالة"، إلى جانب الحرية والسلام.
أخيراً، يبدو أسوأ ما في مشروع الدستور المقترح من المحامين هو نص يقول بحق قوى الثورة في تعيين رئيس وأعضاء المحكمة الدستورية ورئيس القضاء ورئيس النيابة العامة، استناداً إلى تجربة السنوات السابقة وما حدث من محاكمات لرموز النظام السابق والعقبات من جانب الأجهزة العدلية المسيطر عليها من عناصر النظام نفسه. لكن مهما كانت المبررات، فإن الأخطاء لا تُعالج بالأخطاء ويتم التعيين بتلك الطريقة الفجّة والتي تعيد التسييس للأجهزة العدلية، ويتم التعيين بواسطة تحالفات سياسية، علماً أن في الأفكار متسعا لمقترحات أخرى.