لا صوت يعلو في السودان هذه الأيام فوق صوت المعارك والانتهاكات المصاحبة لها، والتي تطاول المدنيين، خصوصاً في ولاية الجزيرة وسط السودان من قبل قوات الدعم السريع، وسط مناشدات متواصلة من القوى السياسية والمنظمات الدولية والوطنية بضرورة الجلوس للتفاوض وإنهاء الحرب حفاظاً على أرواح سكان البلاد، لكن الجيش يرفض التفاوض مع ما يصفها بالمليشيا الإرهابية متمسكاً بالحسم العسكري للصراع الدائر منذ 19 شهراً وامتد إلى 13 ولاية سودانية من أصل 18.
هجمات انتقامية في السودان
وشنّت قوات الدعم السريع في السودان هجمات انتقامية على مدن وقرى بولاية الجزيرة عقب انشقاق قائدها الميداني أبو عاقلة كيكل وانضمامه للجيش في 20 أكتوبر/تشرين الأول الماضي. وقال مؤتمر الجزيرة (تجمّع لأبناء الجزيرة، من ضمن مهماته رصد الانتهاكات في الولاية) في بيان صدر في 10 نوفمبر/تشرين الثاني الحالي، إنه منذ 20 أكتوبر وخلال 21 يوماً بلغت حصيلة القتلى الذين تمكن من حصرهم 1237 شخصا، قتلتهم "الدعم" شرق وشمال الجزيرة. وذكر أن التهجير القسري طاول سكان أكثر من 400 قرية من قرى شرق الجزيرة البالغة 515 قرية، وما تبقّى من قرى تم تهجيرها جزئياً، وبقيت تحت الحصار والتهديد.
شنّت قوات الدعم هجمات انتقامية على مدن بولاية الجزيرة عقب انشقاق قائدها الميداني أبو عاقلة كيكل في 20 أكتوبر الماضي
من جهتها، قالت وزارة الخارجية السودانية في بيان يوم السابع من نوفمبر الحالي، إن "الدعم السريع" ارتكبت مذبحة جديدة في مدينة الهلالية بولاية الجزيرة، بلغ ضحاياها أكثر من 120 شخصاً قتلاً بالرصاص أو نتيجة للتسمم الغذائي وافتقاد الرعاية الطبية لمئات المدنيين من رجال ونساء وأطفال تحتجزهم المليشيا رهائن في مواقع مختلفة من المدينة. وأضافت أن "الدعم" شنت حملة انتقامية وحشية مشابهة ضد القرويين العزل في شمال دارفور، بعد فشل هجماتها المتكررة على الفاشر عاصمة الولاية، وأحرقت أكثر من 40 قرية. واعتبرت الوزارة أن "التصعيد الممنهج للمذابح والفظائع من المليشيا ضد المدنيين يهدف لاستدعاء التدخل العسكري الدولي تحت ذريعة حماية المدنيين، بما يمكّنها من تجنّب الهزيمة العسكرية، والاحتفاظ بالمواقع التي تحتلها".
لكن "الدعم" نشرت يوم الجمعة في الثامن من نوفمبر الحالي مقطع فيديو يُظهر قائدها الميداني العبيد سليمان أبو شوتال واقفا برفقة مواطنين وخلفهم لافتة مدينة الهلالية، قائلاً إنهم لا يحتجزون المواطنين ولا يحاصرون المدينة وإن أي مواطن يريد الخروج يمكنه ذلك. وأضاف أن الذين يمارسون ما وصفها بـ"التفلتات" ليسوا من "الدعم السريع"، وإنما بينهم فلول (عناصر نظام الرئيس المخلوع عمر البشير) وهاربون من السجون. وذكر أنهم جاؤوا لحماية المدنيين بعد انشقاق الضابط السابق بالدعم السريع أبو عاقلة كيكل، والذي وصفه بالخائن "الذي هرّب الأدوية من ولاية الجزيرة إلى مناطق الجيش".
وكانت بعثة الأمم المتحدة الدولية المستقلة لتقصي الحقائق بشأن السودان دعت في تقرير في السادس من سبتمبر/أيلول الماضي إلى نشر قوة مستقلة ومحايدة لحماية المدنيين من الجرائم التي ترتكبها أطراف النزاع، والتي قد يرقى العديد منها إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. ويوم الجمعة الماضي فرض مجلس الأمن الدولي عقوبات على اثنين من قادة "الدعم السريع" بسبب "زعزعة استقرار البلاد من خلال العنف وانتهاكات حقوق الإنسان". ووافقت لجنة العقوبات على السودان المكونة من 15 عضواً في مجلس الأمن على اقتراح أميركي قُدّم في نهاية أغسطس/آب الماضي بفرض حظر على السفر الدولي وتجميد أصول على القائدين بـ"الدعم" عثمان محمد حامد، وعبد الرحمن جمعة.
محاولة تحقيق أوراق ضغط في الميدان
وقال المواطن كمال عبد الله من ولاية الجزيرة، لـ"العربي الجديد"، إنه لم يعد يفهم المغزى الحقيقي من هذه الحرب، وأضاف: "أهلنا محاصرون في عدد من مدن وقرى الجزيرة من قبل الدعم السريع ويتعرضون للقتل والنهب، ولا نرى تحركاً واضحاً من الجيش لإنقاذهم وكأنه يتكسب سياسياً من هذه الانتهاكات ويريد استمرارها". وأضاف أن الجزيرة "تحوّلت إلى سجن كبير لمن بقي فيها، ومن هرب يواجه التشرد في المدن والقرى الأخرى، داعياً الجيش إلى "التحرك بصورة حقيقية لتخليص الناس من الدعم السريع أو التفاوض معه وإيقاف الحرب بدل التسويف والمماطلة وإطالة أمد الصراع الذي يدفع ثمنه المواطنون". وتابع: "كل يوم تحتل الدعم السريع منطقة جديدة والجيش يعدنا بالحسم ونحن ننتظر".
مواطن من الجزيرة: أهلنا محاصرون من قبل الدعم السريع ويتعرضون للقتل والنهب، ولا نرى تحركاً واضحاً من الجيش لإنقاذهم
وفي بيان مشترك في الخامس من نوفمبر الحالي، أكد خبراء أمميون أن الصراع بين الجيش و"الدعم السريع" اتسم "بالتجاهل الشامل للقانون الدولي الإنساني وقانون حقوق الإنسان" وأدى إلى وضع إنساني كارثي للسكان المدنيين. ودعا الخبراء الطرفين إلى "إنهاء هجومهما على المدنيين، وضمان الوصول غير المقيّد إلى المساعدات الإنسانية، ومنع وضمان المساءلة عن العنف الجنسي المرتبط بالصراع وتوفير الحماية والمساعدة والعلاج للضحايا، والعمل من أجل وقف إطلاق النار، ومفاوضات سياسية شاملة، واستعادة القانون والنظام، وضمان المساءلة عن انتهاكات القانون الدولي الإنساني وقانون حقوق الإنسان".
ورأى الكاتب الصحافي صلاح مصطفى في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن هذه الحرب "ستنتهي بالتفاوض وليس الحسم، لأن خريطة السيطرة على الأرض لم تعد تسمح بغير ذلك على الأقل حتى الآن".
مجدي كنب: الجيش ينتهج تكتيك إضعاف الخصم ميدانياً ليأتي إلى طاولة المفاوضات
من جهته، قال الكاتب والمحلل السياسي مجدي كنب لـ"العربي الجديد": "بما أن الجيش يسجل انتصارات ويتقدّم في كل المحاور فهو قطعاً ينتهج تكتيك إضعاف الخصم ميدانياً ليأتي إلى طاولة المفاوضات التي من الطبيعي أن تعقب أي حرب بلا أوراق ضغط تمكنه من تحقيق مكاسب". وتابع: "صحيح أن كلفة ذلك عالية جداً، ولكن بما أن الجيش والحكومة والقطاع الأكبر من الشعب يتعاملون مع هذه الحرب باعتبارها مؤامرة دولية تستهدف كيان الدولة ووجودها، ففي تقديري من الضرورة أن يسعى لإنهاء الحرب بانتصار كاسح، وذلك يستغرق وقتا أطول".
فيما رأى الباحث في معهد السياسات العامة منذر مصطفى، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "كلا الوضعين، الحسم والتفاوض، في اختبار حقيقي، لأن جهاز الدولة التقليدي أصبح من الماضي وسيواجه السودانيون صعوبة في حفظ الأمن في حال حدث انتصار، لأنه ستكون هناك حملة تطهير موازية تحت مبررات حفظ الأمن، وسيكون هناك ما يسمى بالحاضنة الاجتماعية للقوات العسكرية". ولفت إلى أن "المستوى الذي وصلت له العمليات العسكرية في الجزيرة مثال على أن الطرفين لديهما استعداد لاستهداف الحواضن الاجتماعية، ولكن ذلك لا يعني أن الجيش بذات المستوى من عدم الانضباط الذي تُظهره الدعم السريع والتي بطبيعتها ليس لديها قدرة لكبح جموح التطهير العرقي إذا انتصرت". واعتبر مصطفى أن "الأفضل هو الوصول إلى عملية وقف إطلاق نار مراقبة دولياً لأنها الحل الوحيد لاحتواء عمليات العنف والغبن القديم، والذي أضافت عليه الحرب أثقالاً جديدة، ووصلت معاناة الناس مرحلة فوق الاحتمال".