تحاول أكثر من جهة في السودان، تجييش القبائل والمجتمعات المحلية لصالح أجندات سياسية، لكن وبتقديرات متعددة يبدو ذلك أكبر خطر على تلك المجتمعات. برزت المشكلة أكثر، في الأسابيع الماضية، من خلال نشاط محموم لما يسمى "درع السودان"، وهي مليشيا تعمل خارج نطاق القانون وتتنقل في كثير من المناطق لاستعراض قوتها وحث الشباب على الانضمام إليها. وذكرت المليشيا في تصريح لأحد قادتها أنها تمكنت من تجييش أكثر من 35 ألف مقاتل من أجل حماية المجتمعات في شمال ووسط وشرق السودان، وخلق توازن للقوة بعد ظهور قوات الحركات المسلحة في المشهد السياسي والأمني في السنتين الماضيتين، عقب توقيعها على اتفاق سلام مع الحكومة المركزية. ويقود المليشيا ضابط سابق بالجيش السوداني، اسمه أبو عاقلة كيكل، وتركز المليشيا نشاطها في منطقة سهول البطانة، وسط السودان، وتسعى في الوقت نفسه إلى ضم مليشيات في مناطق أخرى والاتحاد معها في كيان واحد.
تجييش المجتمعات المحلية
وتعيد عمليات التجييش وسط المجتمعات المحلية، للأذهان، عمليات قام بها نظام الرئيس المعزول عمر البشير في بداية الألفية الجديدة في إقليم دارفور لمواجهة عدد من حركات التمرد في الإقليم، ما أدى إلى اندلاع حرب أهلية وصلت حصيلتها إلى مقتل نحو 250 ألف شخص وتشريد الملايين، وما تزال ندوبها المجتمعية حاضرة إلى اليوم، خصوصاً ما يتعلق بتفكك النسيج الاجتماعي والنزاعات القبلية والحروب الأهلية وخطابات الكراهية.
عباس التجاني: التجييش يرفع وتيرة الاستقطاب القبلي والإثني في السودان
أول من انتبه إلى خطورة التجييش والاستعراض العسكري خارج نطاق القانون وفي مناطق ذات حساسية مجتمعية، هم شيوخ ونظارات القبائل أنفسهم، مثل محمد المنتصر طلحة، ناظر قبيلة البطاحين الذي أصدر بياناً بعد إعلان مليشيا "درع السودان" نيّتها تنظيم عرض عسكري في منطقة البطانة المعقل الرئيس للقبيلة، وأعلن طلحة رفضه المطلق للخطوة. وأشار إلى أن هذا العمل غير مسؤول، خصوصاً أن الدعوة أتت مجافية لكل أعراف وأخلاقيات وتراث القبائل ومتجاوزة قيادة القبيلة، المشهود لها بالاستقامة ومعالجة قضاياها وقضايا الآخرين بالحكمة والعقل وبما يحافظ على السلم الأهلي والمجتمعي.
وأضاف البيان أن الدعوات للعسكرة والتجييش تجد الإدانة والاستهجان والرفض التام من قبيلة البطاحين على العموم "لكونها لا تشبهنا ولا تشبه تراثنا الذي يدعو إلى السلم والترابط والتراحم، وينأى عن التشاحن والبغضاء المفضيين للحرب والتخاصم".
وتعهد طلحة في البيان بعدم التسامح مطلقاً مع تحويل مناطق البطانة وقراها الآمنة المسالمة إلى ساحات حرب، تعج بالسلاح وتفقد أمنها بأفعال تصب في خلاصتها إلى فقدان الأمن الذي تنعم به: "والذي نرجو ونعمل مع إخوتنا في الوطن أن يعم كافة أنحاء البلاد". وذكر طلحة، أن لهم في "عسكرة القبائل وتكوين المليشيات المسلحة في مناطق أخرى العبرة والعظة، وعليه سنقف بكل قوة ضد تكوين المليشيات خارج نطاق القانون في مناطقنا الآمنة، والزج بالشباب في هذا العمل غير المسؤول". وحث الناظر أبناء المنطقة وأبناء القبيلة على وجه الخصوص، بعدم الاستجابة لمثل هذه الدعوات التي تضر ولا تنفع وتفرق ولا تجمع، وفوق كل ذلك فإنها تورد البلاد موارد الهلاك.
عسكرة ستقود لانتشار العنف
وتعليقاً على هذه الظاهرة، قال الباحث في مجال دراسات السلام عباس التجاني، في حديث مع "العربي الجديد"، إن ما يحدث من تجييش وسط المجتمع يرفع وتيرة الاستقطاب القبلي والإثني في السودان، لا سيما مع هشاشة المجتمع، وعدم وجود مشروع وطني يستوعب تلك الطاقات ويؤسس لديمقراطية وتعددية ونظام حكم فيدرالي يدير التنوع والتعدد في المجتمع السوداني.
وعزا الباحث تصاعد هذه الوتيرة في الفترة الأخيرة لعامل اتفاق سلام جوبا 2020 الذي خلق مسارات لشرق ووسط وشمال السودان، إضافة إلى سياق تاريخي باستخدام النظام السابق في حروبه واستخدام القبيلة في اللعبة السياسية في "عسكرة المجتمع". وأوضح التجاني، أن نتائج تلك العسكرة ستقود لانتشار العنف، وتُحدث سباق تسلح في ظل حدود هشة مع ليبيا وجنوب السودان، كما تنتشر معها تجارة السلاح ما يؤدي لزيادة الجريمة في المجتمع، وتشيع ثقافة أخذ الحقوق بالقوة وتوقف مد التغيير في البلاد.
من جهته، رأى المحامي طارق موسى، أن مظاهر العسكرة والتجييش وسط القبائل والمجتمعات المحلية، تعبّر عن غياب سلطة القانون، محذراً من أن ذلك هو الخطر الحقيقي على المجتمعات، حينما يشعر الفوضويون بأنهم أحرار فيما يفعلون، مؤكداً أن ذلك سيقود إلى فوضى مجتمعية وأمنية لا تدرك أبعادها السلطات الحالية.
وبيّن موسى في حديثٍ مع "العربي الجديد"، أن تلك التحركات لا تستند إلى أي قانون، ويضع لها القانون الجنائي عقوبات صارمة لتكون عبرة للآخرين، مستنكراً التراخي الحكومي في حسمها. وأبدى شكوكه في وجود رغبة لدى السلطة لأجندة سياسية تخصها، موضحاً أن تعاطي قيادات مجتمعية مع حملات التجييش دافعه الأساس هو المحافظة على الامتيازات التاريخية، خصوصاً بعض زعماء القبائل.
طارق موسى: مظاهر التجييش وسط القبائل والمجتمعات المحلية، تعبّر عن غياب سلطة القانون
واستطرد موسى في تحليله للظاهرة في سياقها التاريخي، أن الدولة السودانية بشكلها الحالي دوماً حريصة على استغلال القبائل، منذ السلطنة الزرقاء والحكم التركي المصري والدولة المهدية ثم فترة الحكم الثنائي الإنكليزي المصري ونظام الرئيس المعزول عمر البشير. واعتبر أنه على مر تلك العهود يتم التجييش من المكونات الرعوية إن كانت لديهم قضية أو لم تكن لهم قضية. وأكد أن المخرج من عنق الزجاجة المجتمعية تلك هو إحداث تنمية متوازنة وخدمات ومرافق ضرورية تحافظ على الاستقرار شرقاً وغرباً ووسطاً.
من جهته، رأى الناشط منتصر إبراهيم، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "الحراك التجييشي وسط المجتمعات في الوسط والشمال والشرق يمثل اتجاهاً خطيراً، إذ تسير الأمور نحو وجهة المساومات العسكرية، وهو مفهوم مصدره لكون أن النفوذ العسكري هو المدخل لتحقيق التطلعات السياسية الحالية، مأخوذاً من سطوة الجماعات المسلحة على المشهد السياسي ومداخل السلطة". واعتبر أن من يتبنون ذلك التوجه يظنون أنها أقصر الطرق لتحقيق الغايات السياسية وانتزاع الاعتراف: "وهو فهم قاصر وخطأ فادح يقع فيه أبناء المناطق التي لم تمر بهذه التجربة، التي أوصلت أمراء الحرب إلى السلطة وتحقيق مكاسب لها".
وأضاف إبراهيم أن أي مكاسب يمكن أن يحققها التجييش بالضرورة ستكون مكاسب فردية وليست للمجتمعات المحلية، "إذ بينما يعيش أمراء الحرب في بحبوحة من الحال، تُركت المجتمعات في أوضاع مزرية لتدفع ثمن الحرب والتجييش، فالمزايدة العسكرية والتهديد بعسكرة المجتمع لها سياقاتها الاجتماعية والسياسية، ولا تنسجم مع واقع المجتمعات، وهو التوجه الذي سيسير عكس اتجاه التطور التاريخي لمجتمعات الوسط، التي تعاني أصلاً من درجات من التخلف التنموي، وستزيد عملية العسكرة منها بلا شك".
للتجييش عواقب وخيمة
من جهته، لفت المتخصص في النزاعات سراج الدين عبد الغفار، إلى أن ما يجري من تجييش هذه الأيام ستكون له عواقب اجتماعية وأمنية وخيمة، مشيراً في حديث لـ"العربي الجديد" إلى أن تجارب التجييش في كل البلدان فرّقت الدولة ومجتمعاتها، وأبلغ دليل ما جرى في اليمن، حيث أدى تسليح القبائل إلى ذوبان الجيش اليمني.
وأشار عبد الغفار إلى أن أحد العوامل التي تزيد ظاهرة التجييش، هو حالة الضياع والبطالة التي يعيش فيها الشباب وعدم وجود مؤسسات تستوعب طاقتهم، بالتالي من السهل على أي جهة ترغيبهم من خلال التجييش ومنحهم رتباً عسكرية. وأكد أن المجتمعات ككل لها القابلية للاستجابة لدعوات التجييش والتسلح، نظراً لما تتعرض له من استفزازات من مجموعات مسلحة أخرى خلقت بواقع اتفاق السلام، ثم تأتي وتسيطر بقوة السلاح على موارد بعض المجتمعات مثل الأراضي الزراعية ومناجم تعدين الذهب، تحت سمع وبصر الدولة التي لم تفعل الكثير لمحاصرة الظاهرة، كما لم تكن هناك توعية كافية بالمواضيع عبر وسائل الإعلام.
ورأى عبد الغفار أن التقاعس في تطبيق اتفاقية السلام، وتحديداً ما يلي الترتيبات الأمنية وتسريح ودمج وإعادة دمج الحركات المتمردة هو السبب الرئيسي وراء الدعوات للتجييش وقيام كيانات مثل "درع السودان" و"درع الشمال" و"درع الوسط" وغيرها، خصوصاً بعد أن وصلت قوات الحركات المسلحة للعاصمة وأقاليم أخرى بدلاً عن تجميع تلك القوات بعيداً حتى يتم دمجها، وهو ما شكل عامل استفزاز إضافيا لبعض المجموعات، وأعاد التحذير من صناعة المليشيات المسلحة وعملها في المجتمعات المحلية لأن ذلك سيكون مدخلاً لتفكيك السودان.