الطيار الأميركي المتهم بالتسريب: ما غايته.. كيف وصل إلى الوثائق.. وكيف خرجت الأمور عن السيطرة؟
لا نجد في تاريخ مجتمع الاستخبارات الأميركي حالة كحالة جاك تيكسيرا، الطيار ذي الرتبة الدنيا في الحرس الوطني الأميركي، والمنحدر من ولاية ماساتشوستس، ومن أسرة أميركية ذات تاريخ طويل من الخدمة في الجيش، والذي حُدّد أخيراً مصدراً لتسريب الوثائق التي انتشرت عبر الإنترنت خلال الأيام الماضية، بوسم "سرّي للغاية". حدثت تسريبات من قبل، كما فعل جوليان أسانج في قضية "ويكيليكس"، ومن بعده إدوارد سنودن في فضح برامج التجسس الأميركية والبريطانية، لكن كليهما ساق مقولات أخلاقية تتصل بـ"الشفافية"، كما في حالة أسانج، و"فضح أدوات الرقابة المفرطة" للحكومة الأميركية، كما في حالة سنودن. لكن في حالة تيكسيرا، الذي نشر الوثائق بين مجموعة من أصدقائه من هواة الألعاب دون أن يعي أنها يمكن أن تضع الولايات المتحدة في حرج أمام الحلفاء والأعداء، لم تكن ثمة رواية كبرى.
من هو جاك تيكسيرا؟
يشير السجلّ العسكري لصاحب التسريب إلى أنه التحق بالحرس الوطني في 26 سبتمبر/ أيلول 2019، ثمّ جُنّد في قاعدة أوتيس للحرس الوطني في كيب كود بولاية ماساتشوستس.
وتلك القاعدة، بحسب "واشنطن بوست"، موطن لجناح المخابرات رقم 102، ومهمّته توفير معلومات استخباراتية دقيقة في جميع أنحاء العالم، والقيادة والسيطرة جنباً إلى جنب مع الطيارين المدرّبين وذوي الخبرة للدعم القتالي السريع والأمن الداخلي.
ليست هواية الألعاب الإلكترونية وحدها ما دفع "أوه جيه"، وهو اسمه المستعار على الشبكة، إلى مجموعة "ديسكورد" المغلقة، التي اختار لها اسم (The thug shaker)، بل أيضاً ميوله العنصرية، لأن اسم المجموعة يحمل إحالات عنصريّة إلى "ميم إنترنت" لرجل عصابات أسود راقص. من هنا، كانت عادة أعضاء المجموعة تبادل النكات والصور العنصرية الساخرة.
في هذا السياق، تنقل "واشنطن بوست" أن رفاق تيكسيرا في مجموعة "ديسكورد" عرضوا مقطعاً له وهو يصرخ بشتائم عنصرية ومعادية للسامية قبل إطلاق النار من بندقية. صديق آخر في المجموعة، تحدثت معه الصحيفة، وصفه بأنه "وطني متعصّب، وكاثوليكي متديّن، وتحرّري محبّ للأسلحة، ولديه شكوك في المستقبل الأميركي".
ما العقوبة التي يمكن أن يواجهها؟
يواجه تيكسيرا تهمتين رئيسيتين لانتهاك بندين ضمن قانون التجسس، الأولى تتعلّق بالاحتفاظ والنقل غير المصرّح بهما لمعلومات وطنية دفاعية، والثانية تتعلق بالحفظ والمسح غير المصرّح بهما لوثائق أو مواد سرّية.
يقع الانتهاك الأول تحت البند الـ793، الذي يعود إلى فترة الحرب العالمية الأولى. ويعني صدور اتهام في هذا البند السجن لمدّة قد تصل إلى 10 سنوات. أما البند الثاني، ورقمه المرجعي 1924، فُيعاقب عليه بالغرامة أو السجن لمدة قد تصل إلى 5 سنوات. في المحصّلة، قد تصل عقوبة السجن المتوقع صدورها ضد تيكسيرا إلى 15 عاماً كحد أقصى.
كيف وصل إلى كل تلك المعلومات
رغم أنه في قاع التراتبية الهرمية لطياري الحرس الوطني، كما تشير "نيويورك تايمز"، إلا أن الوصول إلى مثل هذا النوع من المعلومات يعدّ أمراً روتينيّاً بالنسبة إلى جنود من صنف تيكسيرا، لأنه يعمل في دائرة استخبارية داخل الحرس الوطني؛ لكن ليس قبل الخضوع لما يسمّى اختبار "التحقق من الخلفية" داخل الجيش، وتوقيع تعهد بعدم إفشاء أي من المعلومات قبل بداية الخدمة وبعد انتهائها.
على هذا النحو، كان لدى تيكسيرا وصول إلى شبكة إلكترونية لوزارة الدفاع، تتضمن المعلومات المصنّفة تحت وسم "سرّي للغاية"، وتسمّى "نظام التواصل الاستخباراتي العالمي المشترك". عبر هذا المنفذ، هناك كلّ المعلومات الاستخبارية التي تجمعها أذرع الدولة كافة حول العالم، من خلال جواسيسها، أو تقنيات اعتراض الاتصال. تلك المعلومات مقسّمة ضمن ترتيبات جغرافية مناطقية تارة، وضمن ترتيبات موضوعية تارة أخرى؛ ويستطيع المرء الوصول إلى المعلومة التي يريد عبر كتابة الكلمات المفتاحية في مربع البحث.
كلّ من لديه صلاحية استخدام هذا النظام بوسعه الوصول إلى المواقع الإلكترونية الآمنة للبنتاغون ووكالات الاستخبارات الأخرى، وقراءة الإيجازات الاستخبارية اليومية، وخرائط تقييم الموقف، والتحليلات المفصلة للوضع في مختلف مناطق العالم كما تراه أعين مجتمع الاستخبارات الأميركية
كلّ من لديه صلاحية استخدام هذا النظام بوسعه الوصول إلى المواقع الإلكترونية الآمنة للبنتاغون ووكالات الاستخبارات الأخرى، وقراءة الإيجازات الاستخبارية اليومية، وخرائط تقييم الموقف، والتحليلات المفصلة للوضع في مختلف مناطق العالم كما تراه أعين مجتمع الاستخبارات الأميركية؛ وكل ما يتطلّبه الأمر لاستخراج كل تلك المعلومات من الحاسوب بالنسبة إلى شخص يملك الصلاحية الأمنية هو، وفق تعبير صحيفة "نيويورك تايمز"، النقر على زر الطباعة.
استخدم تيكسيرا أيضاً هذه الصلاحيات الواسعة في التحرّي عن حالته كذلك، إذ تنقل "نيويورك تايمز" عن مسؤولين أنه كان يبحث في الأيام الأخيرة مستخدماً الكلمة المفتاحية "تسريبات"، لمعرفة أين وصلت التحقيقات الأمنية الداخلية في هذا الملف.
من يملك صلاحية الوصول إلى تلك المعلومات؟
يكشف اعتقال تيكسيرا عن الحجم الهائل من الأشخاص الذين يمكنهم الوصول إلى معلومات بالغة السرية، على اختلاف رتبهم، ومجالات عملهم، ومدى أهمية تلك المعلومات في الوظائف اليومية التي يؤدونها.
وبحسب صحيفة "نيويورك تايمز"، فإن عدد هؤلاء الأشخاص قد يصعد من خانة الآلاف إلى عشرات الآلاف، ويشمل الجنرالات، الذين يزيد عددهم على 600 في مختلف قطاعات الخدمة، ويمتد إلى بعض مساعديهم العسكريين، والعديد من العقداء الذين يعملون في البنتاغون، وقباطنة سفن البحرية الأميركية، ومجموعة واسعة من الضباط الصغار، وكذلك جنود الخدمة من ذوي الرتب الدنيا المجنّدين في وحدات الاستخبارات، كما في حالة تيكسيرا.
كلّ هؤلاء يملكون صلاحية الوصول إلى الوثائق المصنّفة في خانة "سرّي للغاية" وحسب، لكن تحتهم مباشرة، هناك أضعاف مضاعفة تملك صلاحية الاطلاع على الوثائق المصنفة "سرّية"، وتشمل أيّ شخص يعمل في البنتاغون أو وكالات الأمن القومي الأخرى، وحتى المتعاقدين العسكريين، وفي بعض الأحيان المحللين في مراكز البحث والتفكير.
ويقول المتحدث باسم البنتاغون، باتريك رايدر، إن الجيش يعهد عموماً إلى الشباب بالمعلومات السرية، وكذلك المسؤوليات العالية: "فكر في رقيب شاب في إحدى الفرق القتالية، وبحجم المسؤولية والثقة التي نضعها في هؤلاء لقيادة القوات إلى القتال.. هذا يسمّى الانضباط العسكري".
ما الدافع إلى تسريب المعلومات؟
كان ثمّة عامل مشترك رئيسي يجمع رفاق تيكسيرا، الذين يناهزون الثلاثين، في مجموعة "ديسكورد"، هو الولع بالأسلحة.
وباعتباره مجنّداً في الجيش، وزعيماً مفترضاً للمجموعة، فقد قدّم تيكسيرا نفسه ليعلّم رفاقه كيف يبدو استخدام السلاح في ساحة قتال حقيقية، وأيضاً، كلّ ما يتّصل بشؤون الحرب وعوالمها السريّة، بحسب ما يُستخلص من التقرير الذي نشرته "نيويورك تايمز"، وتحدثت خلاله مع رفاق له في مجموعة "ديسكورد" المذكورة.
قدرته على الوصول إلى معلومات سريّة كتلك، وكذلك على توقّع أحداث قبل وقوعها، أثارا ذهول أفراد المجموعة، وأكسباه صفة "القائد الذي لا يُنازع"
على هذا النحو، وبدءاً من أكتوبر/ تشرين الأول كحد أدنى، بدأ "أو جي" مشاركة رفاقه أوصاف المعلومات السرية، ثمّ انتقل إلى تحميل مئات الصفحات من الوثائق، بما في ذلك خرائط ساحة المعركة التفصيلية من أوكرانيا، وتقييمات سرّية لآلة الحرب الروسة، والهدف، كما يقول أعضاء المجموعة، كان التثقيف والإدهاش معاً.
يشرح أحد أفراد المجموعة، في حديث لـ"واشنطن بوست"، كيف كان تيكسيرا ينشر هذه الملفات، ثمّ يتحدث بصيغة الأمر العسكري مع رفاقه بأن يقرأوا ويأتوا له باستخلاصاتهم. يضيف أنه كان يقضي ساعات يوميّاً في كتابة "مشاركات مطوّلة، غالباً ما يضيف إليها تعليقات توضيحية وتفسيرات لأشياء لن يفهمها المواطنون العاديون أمثالنا"؛ إذ إن تلامذته المفترضين -تردف الصحيفة- كانوا أكثر اهتماماً بمقاطع "يوتيوب" حول معدّات المعارك.
قدرته على الوصول إلى معلومات سريّة كتلك، وكذلك على توقّع أحداث قبل وقوعها، أثارت ذهول أفراد المجموعة، وأكسبته صفة "القائد الذي لا يُنازع". يقول أحد رفاقه لـ"نيويورك تايمز": "لقد احترم الجميع (أو جي)، لقد كان الرجل، الأسطورة، الخرافة".
كيف تسرّبت المعلومات خارج المجموعة؟
يضيف أصدقاؤه أن تلك المعلومات لم تكن يفترض أن تغادر زاويتهم الضيقة هذه. يستطرد المتحدث ذاته بأن صاحبه "أراد فقط أن يعلِم بعض أصدقائه بما يحدث"، ومن بين هؤلاء، كان ثمّة هواة ألعاب من أوكرانيا أيضاً. يضيف آخر، لـ"واشنطن بوست"، أن أفراد المجموعة "كبروا معاً قريبين من بعضهم البعض، مثل عائلة صغيرة".
حتّى ذلك الوقت، كان تيكسيرا يطبع المعلومات الاستخبارية على لوحة المفاتيح، ويشاركها مع زملائه. وبالنظر إلى حجم المعلومات الكبير الذي يحتوي عليه أي منشور من هذا القبيل، فقد ظلّ الرجل يعاني في جذب اهتمام أفراد المجموعة، وعند هذه اللحظة بالذات -يقول معلّق "واشنطن بوست"- قرّر تيكسيرا تغيير تكتيكه، وبدأ بالتقاط الصور. بهذه الطريقة حقّق هدفين معاً: توفير الوقت، وشدّ انتباه الأصدقاء. لكنه ترك وراءه أثراً لن يُمحى، وسيضعه في نهاية المطاف في قفص الجاسوسية.
كان تيكسيرا ينشر هذه الملفات، ثمّ يتحدث بصيغة الأمر العسكري مع رفاقه المراهقين بأن يقرؤوا ويأتوا له باستخلاصاتهم
ظلّ تيكسيرا ينشر حزماً من الوثائق يوماً بعد آخر، بدءاً من أكتوبر العام الماضي، وعلى امتداد الشتاء؛ منها ما تضمّن رسماً لمسار الصواريخ النووية الكورية الشمالية التي يمكن أن تصل إلى الولايات المتحدة، وأخرى تضمنت صوراً للمنطاد الصيني، التقطت من مسافة النظر، ربمّا بواسطة طائرة تجسس من طراز "يو 2"، إلى جانب رسم تخطيطي للمنطاد وتكنولوجيا المراقبة المرافقة له، وفق "واشنطن بوست".
ظلّ كل ذلك محصوراً في أفراد المجموعة، حتى أواخر فبراير/ شباط الماضي. لكن المجموعة تضمّنت أيضاً أعضاءً أجانب، من روسيا وأوكرانيا معاً، وأبعد من ذلك، وصولاً إلى أميركا الجنوبية وآسيا، وكلّهم ذوو اختصاصات موزّعة على مختلف مجالات الحياة. لكن أكثرهم اهتماماً بالوثائق، وفق رواية عضو في المجموعة، كانوا من "كتلة أوروبا الشرقية وبلاد ما بعد الاتحاد السوفييتي، ومنهم الأوكرانيون".
في 28 فبراير، بدأ "أحد أفراد المجموعة المراهقين"، كما تصفه "واشنطن بوست"، ينشر حزماً من الوثائق السرية في خادم "ديسكورد" آخر، اسمه "ًWaw-Maw". ثم في الرابع من مارس/ آذار، ظهرت تلك الوثائق على خادم ثالث اسمه "Mincraft ِِِAir Map"، وبذلك أصبحت تلك الوثائق السرية تحت نظر الآلاف من مستخدمي "ديسكورد".
لكن الأمر ظلّ غائباً عن نظر الاستخبارات الأميركية لشهر آخر، حتى التقطت قنوات "تلغرام" روسية، في الخامس من إبريل/ نيسان الجاري، تلك الوثائق، ومن هناك انتشرت كالنار في الهشيم عبر "تويتر"، وأصبح الأمر غير قابل للتدارك.
في اليوم التالي تماماً -يقول رفيقه- بدا تيكسيرا "مذعوراً على غير عادته" على المجموعة، وكتب: "حدث شيء ما، وقد صليت لئلا يحدث، لكن الأمور في يد الله الآن". حُذفت المجموعة سريعاً، ثم ربط تيكسيرا أصدقاءه بمجموعة أخرى ليستطيع التواصل معهم. يضيف صاحبه، متحدّثًا لـ"واشنطن بوست"، أن "أو جي" كان حائراً لا يعرف ما يفعل، وقد أخبر أصدقاءه في آخر رسالة أن "يتجنّبوا الظهور ويحذفوا أي معلومة تتعلّق به".